عن ثورة طلاب العالم عام ١٩٦٨… من جديد

موفق نيربية

على الرغم من كلّ ما وصلت إليه الثورة السورية من مصائب، لم تكفّ لحظات عامها الأول في زمنها وحتى الآن عن التذكير بثورات العالم الكبرى في النصف الثاني من القرن العشرين، بروحها وكونيّتها. كانت تلك الثورات عميقة في رفضها للثقافة السائدة، وللتقاليد القديمة، وطرحت بعنف علاقتها بالسياسة، علاقة الثقافي بالسياسي، المثقّف بالمسيّس، المثقّف بالتغيير والثورة. هذه العلاقة موضوع هذه المقالة، على خلفية تلك الثورات، وتلك الثورة.

في ذلك العصر اندلعت ثلاث ثورات ثقافية بارزة وعالمية، إضافة إلى واحدة رابعة في أجواء التحرر الوطني وإنهاء الكولونيالية وإفرازاتها. كانت الأولى بينها في الصين، وحملت بالولادة اسم” الثورة الثقافية”، وهبّت على تلك البلاد كإعصار مختلف الملامح بعنف، متوحّش القَسَمات.

بعد أن شهدت الصين الاشتراكية بسياسات “القفزة الكبرى إلى الأمام” التي قادها ماوتسي تونغ في الخمسينات فشلاً كبيراً كان من نتائجه مجاعة رهيبة وموت حوالي 40 مليوناً من الناس؛ تعرّض مركزه في السلطة إلى هزّة قوية، لم يجد من حلٍّ لها إلّا بالهروب إلى الأمام أيضاً، بسياسة” الثورة الثقافية الكبرى” التي أُطلقت في الستينات. وكان الشباب الصيني جاهزاً لمثل تلك الاندفاعة، يختزن من الغضب ما يكفي لزلزال كبير.

انطلقت الثورة قبل قرار اللجنة المركزية للحزب إطلاقها في مايو/أيار 1966 لتطهير الحزب من “ممثلي البرجوازية الذين تسرّبوا إلى صفوفه”، بتعبير عن الصراع الداخلي الذي اكتسب ماو قوةّ مكّنته من مواجهة خصومه؛ ثمّ عبّرت قرارات اللجنة المركزية الستة عشر في أغسطس/آب 1966 عن المطلوب من تلك الثورة، وأهمّهما ما دعا إلى محاربة “الأفكار القديمة والثقافية العجوز والتقاليد البالية”. وذلك ما أثار حماسة الشباب حتى النهاية.

تشكّل الحرس الأحمر في كلّ مكان في الصين متركّزاً داخل المدن، ومجموعات عمل ميدانية أخذت تمارس “العنف الثوري” ضدّ ممثّليّ تلك الأفكار البالية، وتهينهم بشكل صارخ قبل تصفيتهم في الشوارع في كثير من الأحيان. خلال عامين وحسب، بلغ ذلك المارد الذي خرج من القمقم حجماً يهدّد بابتلاع كلّ شيء: من جهاز الدولة إلى الاقتصاد إلى التعليم… واتّحدت قوى الدولة والحزب بمعظمها من جديد، وكادت البلاد تدخل حرباً أهلية لا تبقي ولا تذر، إضافة إلى مجاعة أهلية كبرى أيضاً. ومال ماو حيث مال الهوى، بعد أن رأى ما رأى: وتمّ ترحيل سبعة عشر مليون من الشباب إلى الريف لتربيتهم من جديد على روح العمل بالأرض، ويقال إن بعضهم ما زال مقيماً حيث كان منفاه حتى الآن.

بعد وفاة ماو مباشرة، تمّت تصفية” عصابة الأربعة” الذين كانوا الأبرز في توجيه الثورة الثقافية، وابتدأ المسار الإصلاحي الأكثر اتّزاناً وواقعية وروحاً علمية، الذي وضع الصين على بداية طريقها الذي بلغت فيه شوطاً لافتاً وجباراً نراه الآن ونرى آفاقه المفتوحة اقتصادياً، المحدودة سياسياً بحزم، كما رأينا في ميدان تيانانمين عام 1989، وقمع انتفاضة شبّان بكين.

 تُعرّف الستينات أحياناً باسم “عقد الثقافة المضادة” في الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى. كانت هناك ثورة على الأعراف الاجتماعية، بما فيه الملابس والموسيقى والمخدرات والحرية الجنسية والشكليات الرسمية والحقوق المدنية ومبادئ الخدمة العسكرية والتعليم وكلّ شيء محافظ. استنكر المحافظون تلك الثورة الشابّة باعتبارها إفراطاً غير مسؤول، وإسرافاً بالإثارة، وانحلالاً للنظام الاجتماعي، وتحطيماً للمحرمات الاجتماعية أو تجاوزاً لها. ظهرت مجموعة واسعة من الموسيقى، من تلك المستوحاة من فرقة البيتلز، وإحياء الموسيقى الشعبية، إلى الغنائيات الشعرية اللامعة لبوب ديلان. في الولايات المتحدة، أطلق على الستينيات اسم “العقد الثقافي المضاد” بينما في المملكة المتحدة (خاصة لندن) كان يطلق عليه اسم “الستينيات المتأرجحة”.

خلال أعوام قليلة من الستينات، ارتفع عدد القوات الأمريكية في فيتنام من عدة مئات من الجنود إلى عدة مئات من الألوف، وأخذت الحركة المضادة للتجنيد وللحرب مدى بعيداً اجتذب انتباه الأمريكيين ومشاركتهم الفعالة، كما اجتذب حراكاً موازياً في العالم الحديث كلّه ما بين طوكيو ولوس أنجلوس. كان ذلك مرافقاً ومتفاعلاً أيضاً مع حركة الثورة الثقافية التي نتحدّث عنها.

لكنّ الانفجار الأكبر كان في أوروبا، وعُرف بذروته التي كانت في مايو/أيّار1968. خرج طلاب فرنسا وألمانيا وإيطاليا يومذاك ليضربوا الجدار، جدار السائد والمعتاد والتقليدي ومسار الحياة اليومية ضمن القوالب المتكرّرة، وأيضاً آليات العنف المتنوّع والبطريركية والطبقية التي تحرس العالم القديم. امتدّت في باريس من مباني جامعة باريس في نانتير، وانتقلت إلى السوربون، وشهد الحيّ اللاتيني ذروة عنفها حين خلع الطلاب أحجار الطريق وبنوا المتاريس، كتلك التي عرفتها ثورات فرنسا في1789 و1830 و1848 و1870. وبعد صمود أسطوري للطلاب دفع بديغول للسفر سراً للاجتماع بالقادة العسكريين الميدانيين الفرنسيين في ألمانيا للتشاور معهم في طريقة لمجابهة التحدّي، ثمّ دفع بعشرة ملايين من العمال للانضمام إلى الطلاب في التظاهر والإضراب رغم ممانعة الشيوعيين التقليديين، مع إضافة مطالب رفع الأجور وتحسين شروط العمل إلى تلك الاجتماعية والثقافية- السياسية التي برمجها الطلاب.

في ألمانيا- الغربية آنذاك- كان رودي دوتشكه ومن خلفه ماركوزه وأفكاره، يواجهون العالم القديم ممثّلاً خصوصاً بأكسل شبرينغر أمبراطور الإعلام الرأسمالي. ابتدأ الغليان الألماني بمقتل طالب على يد شرطي، مع تقدّم الفاشية لتكون هدفاً إضافياً للثوار مع محاربة بقايا النازيين الذين كانوا لا يزالون في مراكز سلطوية هنا وهناك، مثلما كانت حركة الحقوق المدنية حليفاً هاماً للمنتفضين في الولايات المتحدة، ومناهضة جماعة الكوكلوكس كلان العنصرية الإجرامية.

فتحت تلك الثورة العالمية أبواباً شتّى للتغيير الاجتماعي والاقتصادي وفي كلّ مجالات الحياة، فحملت من ثمّ نجاحها في فشلها الظاهري/ الطبيعي. لم تكن تطلب وتسعى لاستبدال سلطة بسلطة ودولة بدولة، بل لكسر الخيوط العميقة التي تساعد الطغيان بكلّ أنواعه وخصوصاً تلك التي تستخدم المحرّم والممنوع سلاحاً قاطعاً. كانت بداية العولمة التي لم ندركها في وقتها… ثورة كونية وليست مؤامرة كونية، كما أراد أولئك الذين حاربوا في فرنسا المركَز القيادي لدانييل كوهن- بنديت بتعييره بكونه “يهودياً من أصل ألماني”.

حتى الآن، لا زال بعض تلك المباني والمواقع التي احتلّها الطلاب آنذاك قائمة كما هي، تتمكّن السلطات كلّ فترة من تفريغ بعضها من أعضاء الكومونات الذين يسكنونها، أولئك “المقرفصين” كما يُسمّون أحياناً، الذين لا زالوا يرفضون كلّ شيء، وكلّ نمط سائد، من دون وجود لسلطة ولا لدولة… هم بقايا ونُصب تذكارية جميلة وحسب.

ما أثار تلك الزاوية من ذاكرتي، أن أمرّ يومياً في زاوية شارع على “مرمى حجر” قرب شقتي الصغيرة حيث ألجأ في برلين، وأرى على تلك الزاوية عموداً واحداً يجمع علامتين للشارعين المتعامدين: واحدة باسم رودي دوتشكه، والثانية باسم أكسل شبرنغر. في تلك الزاوية يقع مركز هائل أسود اللون يبعث على القشعريرة، هو مقرّ مجموعة الأخير وأمبراطوريته صاحبة الأذرع الطويلة.

بالمناسبة هنا أيضاً، أعتقد جازماً أن ما فعلته الثورة السورية- على نسق عامها الأول وبعض الثاني- بسوريا ومجتمعها وأهلها عميق مثلما فعلت تلك الثورة العالمية، وربّما كان مفيداً أن ينصبّ التفكير عميقاً على الأسس، كما فعل القدماء.

*‭ ‬كاتب‭ ‬ومعارض‭ ‬سوري

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد