كردستان في “مبادئ ويلسون” .. كيان ثانوي لاستيعاب المهجّرين الكرد

حسين جمو / المركز الكردي للدراسات

عشية مؤتمر الصلح في باريس عام 1919، كانت ثلاثة شعوب تخوض معاركها الأخيرة “هرمجدونها الخاص”، الكرد والأرمن والترك. دخل كل منهم في معركة نهائية انتحارية في سنوات الحرب العالمية الأولى.

بدون الأخذ في الاعتبار هذه القاعدة، فإن أي مقاربة ستكون منقوصة ومجتزأة و ربما رغبوية.

يوجد أرشيف كتابي ومصور بما يكفي لتوثيق ما جرى في معركة الأرمن النهائية ضد الدولة العثمانية، وما يكفي من أرشيف الجمهورية حول معركة الأتراك النهائية في حرب الاستقلال، لكن معركة الكرد النهائية التي خاضوها، والتي تحدوا فيها الأسطول البريطاني بجبال كردستان، بتعبير الشيخ سعيد النورسي، لم تجد طريقها للتوثيق والكتابة والتقييم، بل ضاعت، وكتب الآخرون حوادث هذه الفترة الحرجة، ولم يبق للكرد منها سوى ما يدينهم في معظم الأوراق المتبقية عن تلك الحقبة.

كان القادة الكرد، بدون استثناء، على صلة وثيقة بالقادة الترك في سنوات الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) تحت وطأة التهديد الوجودي المذكور. بعد الحرب، نشأ وضع متمايز لكل من الكرد والترك على طاولة لعبة الأمم. أدت الثورة البلشفية إلى نهاية القضية الأرمنية وخسارتهم فجأة حرب الوجود التي كانوا متقدمين فيها حتى عام 1917، فيما كانت كردستان تفقد جغرافيتها بقسوة وتسارع لصالح أرمنستان. ولم يكن من الصعب أن تحتل القوات الروسية كامل دياربكر، بما في ذلك المدينة آمد، لو استمرت الحرب بالوتيرة نفسها حتى نهاية الحرب عام 1918، ليكمل الأرمن خريطة دولتهم بما في ذلك الولايات الست المتنازع عليها (وان، بدليس، أرضروم، سيواس، خربوط ودياربكر).

انتهت الحرب الصفرية في الأراضي المتنازع عليها بين أرمينيا وكردستان لصالح الأخيرة نتيجة الزلزال البلشفي الذي حدث في روسيا.

على الجانب التركي، كان الوضع كارثياً أكثر في نهاية الحرب. فقد احتل الحلفاء المنتصرون عاصمة الدولة العثمانية في كانون الأول/ ديسمبر 1918. ودخلت قوات أوروبية إلى المدينة حيث أن الحرب الأهلية في روسيا جعلت من السهل أن تأمن بريطانيا من أي رد فعل عدواني من جانب الروس الذين يطمحون للسيطرة على القسطنطينية، ولم تشكل الولايات العثمانية التي احتلها الروس في بدايات الحرب (قارص ووان وبدليس وأرضروم) أي قيمة تذكر بالنسبة للبريطانيين مقارنة بالجائزة الكبرى التي نالها الأوروبيون، وهي القسطنطينية.

مقاتلون ومدنيون أرمن قبيل تنفيذ الإعدام في مرعش، وعلى سور الساحة يقف الوالي حيدر باشا ومسؤولون وضباط عثمانيون / الأرشيف البريطاني

أجواء الحرب الهرمجدونية كانت لا تزال تجمع بين الكرد والترك في المناطق غير المحتلة من قبل الحلفاء، فشكل مصطفى كمال وكاظم قره باكير ومجموعة من الجنرالات غير البارزين، مركز قوة جديد للمقاومة ضد الاحتلال، فتجول مصطفى كمال في كردستان لحشد الأنصار ضد المصيبة الأكبر التي حلّت بالأتراك مع الاحتلال اليوناني لإزمير في آذار/ مارس 1919، وهجوم اليونان العسكري على الأناضول.

بالنسبة للأتراك، كان عليهم خوض حرب نهائية جديدة ضد اليونانيين هذه المرة الذين كانوا يطلقون دعاوى لاستعادة الإرث الهيلينستي التاريخي في الأناضول وإيجة برمّتها، أي طرد الأتراك من هذه الأرض إلى الأبد. في تلك الأجواء لا يمكن تصور أن هناك فلاحاً أناضولياً تركياً يفكر بموسمه الزراعي أكثر من انشغاله بمصيره ومجتمعه في حال وصول اليونانيين إليهم. وعلى حد تعبير البروفسور التركي في جامعة كاليفورنيا، فاروق بيرتك، كان احتلال إزمير بمثابة دخول الثور اليوناني في غرفة الخزف العثمانية [1].

في مذكراته يذكر قائد الفيلق الخامس عشر في الجيش العثماني، كاظم قره باكير، أن عصمت إينونو، الذي سيصبح لاحقاً الذراع اليمنى لمصطفى كمال، ورئيساً لتركيا ورئيساً للوزراء لفترات عديدة، قد فكر في الاستقالة وامتهان الزراعة في الأناضول، وذلك في حدود العام 1919. لم تكن الفكرة المنقولة عن إينونو برغبته في العودة إلى الزراعة ثمرة تفكير رومانسي حول الزهد في الحياة، إنما صورة مفجعة للاستسلام.

في تلك الأثناء، لم تكن قضية الطاشناق الأرمني قد انتهت. ما زالت القضية الأرمنية لها صدى على طاولة الأمم، وما زاد من مخاوف القادة الكرد أنه مع نهاية الحرب كان ظهور الولايات المتحدة على مسرح الدبلوماسية في المسألة الشرقية، وتبنيها القضية الأرمنية.

صحيح أن الولايات المتحدة التزمت مبدأ الحياد في صراعات العالم الأوروبي وفق “مبدأ مونرو“، إلا أن الرئيس وودرو ويلسون أعلن الحرب على ألمانيا إثر اعتراض بريطانيا المشبوه لبرقية “زيمرمان” من دون أن تتورط بشكل واسع في العمليات الحربية خارج أوروبا الغربية. وحتى حين بدأت الولايات المتحدة تتحرك عبر أساطيلها وبعثاتها الدينية والتعليمية، فإنها تفادت الشرق الأوسط، ولم يكن من السهل عليها اختراق هذه المنطقة المليئة بالقوى الكبرى المتصارعة. وصاغ مسؤول أميركي عبارة تلخص الموقف من الشرق الأوسط: “إنه ليس مكاناً نضيع فيه ذخيرتنا” [2].

وبسبب الطبيعة الدينية للقوة الناعمة الأميركية في الشرق الأوسط، فإنها كانت الأكثر استنكاراً لحملات المذابح التي طالت المسيحيين، وتوترت علاقات واشنطن مع الاتحاد والترقي منذ عام 1910 مع ورود أنباء تناقلتها الصحف الأميركية عن مقتل 30 ألف مواطن أرمني. مع ذلك بقيت العلاقات التجارية مزدهرة، وبحلول عام 1914 كان نصيب أميركا وحدها من الصادرات العثمانية نحو 23%، وحالت التجارة دون انهيار العلاقات الدبلوماسية بين الجانبين رغم أن الدبلوماسيين الأميركيين في الدولة العثمانية كانوا الأكثر نشاطاً في فضح جرائم الإبادة الأرمنية.

إن مراجعة المطبوعات العائدة إلى أعوام 1918 – 1920 توضح بشكل مدهش كيف أصبحت مبادئ الرئيس الأميركي وودرو ويلسون بمثابة “تريند عالمي” يدوي صداه بين شعوب المنطقة الساعية إلى الفوز بتقرير مصيرها. فقد نص المبدأ الثاني عشر من مبادئ ويلسون الـ 14 على:

 “ضمان سيادة الأجزاء التركية من الدولة العثمانية، وإعطاء القوميات الأخرى غير التركية التي تخضع للدولة العثمانية حق تقرير المصير وفرصة للتطور المستقل”.

رسم كاريكاتيري عن انتظار شعوب عثمانية للانتداب الأميركي | المصدر

لم يحدد الرئيس ويلسون أبداً أي الشعوب العديدة في الشرق الأوسط تستحق حق تقرير المصير، وكيفية تحقيق ذلك. فقد كان لا يعرف عن جغرافية المنطقة وثقافتها وتقاليدها أكثر مما قرأ في الإنجيل، على حد تعبير المؤرخ الأميركي – الإسرائيلي مايكل أورين.

ومن أجل وضع خريطة وشروحات ومعانٍ لمبادئ ويلسون، تشكلت لجنة سرية أميركية أكاديمية باسم “لجنة التحقيق” ومقرها الرئيسي في مكتبة نيويورك العامة. وتم إدراج اسم أكثر من مئة عالم في مجالات متنوعة، ولكن ولا واحد منهم كان متخصصاً في الشرق الأوسط. ولم يكن هناك وجود يذكر لكردستان والكرد في نقاشات اللجنة، وليس غريباً إذا كان العديد من أعضائها لم تكن لديهم أي مقاربة تجاه الكرد وربما لم يسمعوا باسم هذا الشعب حتى ذلك الحين. ولم تكن مقترحات هذه اللجنة أفضل من مبادئ ويلسون من حيث الغموض والغرق في الأدبيات الحقوقية، فكانت المقترحات البارزة المقدمة في تشرين الثاني/ نوفمبر 1918 تتضمن الحفاظ على منطقة الأناضول ككيان تركي مستقل، وتدبير تنظيم دولي لاسطنبول ومضيق الدردنيل ودولة أرمينيا الجديدة (القوة والإيمان والخيال – ص369).

لكن التأثير الأميركي بقي هامشياً بعد الحرب رغم الفراغ الكبير في الشرق الأوسط، وذلك أن الولايات المتحدة لم تقم بما يلزم خلال سنوات الحرب العالمية الأولى بعدم إعلانها الحرب على الدولة العثمانية واكتفائها بدخول جزئي إلى الحرب ضد ألمانيا والنمسا – المجر. واندلعت الخلافات على تقسيم الشرق الأوسط في مؤتمر باريس للسلام في يناير 1919، ورفضت القوى المنتصرة في الحرب “مبادئ ويلسون” وكل مقارباته للسلام. ومن هذه الخلافات ظهرت ابتكارات قانونية جديدة أبرزها على الإطلاق مفهوم “الانتداب”، وكان الانتداب قريباً من توصيات لجنة التحقيق الأميركية السرية، لذلك أجمع عليها المشاركون، وبقي تحديد جغرافية الانتداب، فكان البريطانيون يريدون أن تكون الولايات المتحدة هي سلطة الانتداب في سوريا وأرمينيا التي هي في طور التأسيس كدولة مستقلة. وعلى حد تعبير ساخر للجنرال الأميركي تاسكر بليس: “أينما كان الانتداب يغطي آبار بترول ومناجم ذهب، فإن بريطانيا ستحصل عليه. ويبقى للولايات المتحدة الانتداب على كل أكوام الحجارة وتلال الرمال المتبقية” (القوة والإيمان والخيال – ص 372). ولا شك أن أرمينيا كانت من بين أكوام الحجارة المذكورة، رغم ذلك رحب الرئيس ويلسون بالانتداب على أرمينيا من حيث المبدأ.

وفي سياق الاقتراب الأميركي الحذر من الشرق الأوسط، تشكلت لجنة “كينغ – كراين” لتقصي الحقائق في الشرق الأوسط، وقد زارت 60 مدينة وبلدة معظمها في بلاد الشام، وأرسلت تقريرها الذي ضم 40 ألف كلمة، إلى باريس حيث كان يعقد مؤتمر الصلح، لكن الرئيس ويلسون كان قد غادر المؤتمر، ولم يتم الكشف عن التقرير إلا في ديسمبر عام 1922 عبر الصحافة الأميركية، وكانت خلاصة التوصيات تتضمن تأييد حق العرب في الاستقلال، والتحذير من المشروع الصهيوني في فلسطين، والتحذير من صراعات أهلية خطيرة في حال عدم الالتفات إلى تفاصيل التوترات الأهلية بين الطوائف العديدة في سوريا. وقدمت مقاربات متعقلة للغاية بخصوص معالجة الطموحات القومية المبالغ فيها لمكونات المنطقة، لكن في العموم اشتهرت اللجنة لمقارباتها الخاصة تجاه فلسطين والحركة الصهيونية الساعية لتأسيس وطن قومي لليهود.

صحيفة أميركية تنشر التقرير الكامل للجنة كينغ كراين للمرة الأولى في ديسمبر 1922

وكان للتقرير تتمة بخصوص أرمينيا والأناضول، وأيضاً عن كردستان على الهامش، فقد تضمن التقرير 28 فصلاً لم يخصص أي منها للكرد، إنما تم التطرق لهم في سياق مقاربة اللجنة للدولة الأرمنية المفترضة، وقد أوصت بأن تكون هذه الدولة تحت الانتداب الأميركي، وأن يتم اعتماد حدود “أرمينيا الصغرى” المتضمنة للمرتفعات الجبلية مع ميناء على البحر الأسود، وعدم الحماس للخريطة الكبرى التي تصل الدولة الأرمنية إلى البحر المتوسط، لأنه – حسب لجنة كينغ – كراين – سيكون من الصعب على الأرمن الدفاع عن مثل هذه الدولة أمام الكرد والترك حيث أن الأرمن أقلية داخل معظم الأراضي، ولا تتجاوز نسبتهم في الحد الأعلى 25% بعد أن اقتلعت الإبادة أكثر من مليون ضحية أرمني، وفق التقرير. وقد رفض الجانب الأرمني مزاعم اللجنة وتمسك بمطالبه بدولة تصل البحر المتوسط، وعليه كانت مساحة كردستان المقترحة ستتقلص أكثر. والحقيقة المؤلمة أن الصراع العبثي والدموي في المحافل الدولية بين القادة الكرد والأرمن قد خلق معادلة مرعبة بأن هذه الأرض الواسعة التي تضم شعبين متداخلين بشكل لا يمكن فصلهما بأي شكل كان، لا تتسع لهما معاً. وبالتالي، كان القادة الأرمن المتصدرون لتمثيل شعبهم لا يمانعون في تأسيس دويلة كردية تستوعب لاحقاً الكرد الذين سيهاجرون من أرمينيا. في المقابل، لم يكن لدى القادة الكرد والترك مانع من القبول بدولة أرمنية في يريفان تستوعب ما تبقى من الأرمن المهجرين والذين سيهاجرون لاحقاً بالترهيب أو طواعية. وبالفعل تحقق في النهاية أحد هذين السيناريوهين.

عموماً، بحسب الخبير المشارك في إعداد التقرير، تشارلز كراين، فإن تجاهل الرئيس ويلسون لتقرير اللجنة يعود إلى الأعباء التي كان سيضعها على عاتق الولايات المتحدة لتكون بديلاً عن فرنسا وبريطانيا في العديد من مناطق الشرق الأوسط كقوة انتداب مقبولة شعبياً. وطالما أن الأميركيين لن يتحملوا أية مسؤولية مستقبلية، لم يكن من العدل أن يتم نشر التقرير ولذا فقد تم تصنيفها في أرشيفات وزارة الخارجية.

أرسلت إدارة الرئيس ويلسون لجنة أخرى إلى أرمينيا والبحر الأسود في خريف 1919 برئاسة الجنرال جيمس هاربورد. وعدد تقرير هاربورد 13 سبباً لعدم قبول الانتداب على أرمينيا، و13 سبباً مؤيداً للانتداب بشكل

الجنرال هاربورد خلال جولته في أرمينيا عام 1919

موازي، أما السبب الرابع عشر المؤيد للانتداب، فلم يجد له الفريق أي سبب مواز معارض، وبالتالي كانت التوصية بأن توافق الولايات المتحدة على تحمل مسؤوليتها تجاه الشعب الأرمني. (القوة والإيمان والخيال – ص 283). وقبل ذلك أرسلت الولايات المتحدة لجنتين أقل شهرة، هما لجنة “نيلز -آرثر” التي قام فرقها بجولة ستطلاعية في كردستان وأرمينيا، ولجنة “جيمس بارتون“، واللجان الثلاثة تشكلت في العام نفسه: 1919.

كانت الدولة الأرمنية جاهزة على خارطة اللجنة الأميركية لتقصي الحقائق، وحسم الرئيس ويلسون بقبول الانتداب على الدولة الأرمنية، لكن كان عليه أولاً الفوز بعضوية الولايات المتحدة في عصبة الأمم المشكلة حديثاً، وعاجلته الرياح المعاكسة فأصيب بأزمة قلبية ولم يستطع استكمال حملته للانتداب على أرمينيا. وأخيراً صوّت مجلس الشيوخ الأميركي في 19 تشرين الثاني/ نوفمبر 1919 ضد انضمام أميركا إلى عصبة الأمم، وانتهى مشروع الرعاية الأميركية للدولة الأرمنية. وكدليل على فشله وتحذيراً للرؤساء المستقبليين، علق ويلسون صورة لاجئة أرمنية شابة على رف الموقد في بيته بواشنطن. وعلى حد تعبير المؤرخ مايكل أورين، كانت عيونها الواسعة مستمرة في مناشدة الزائرين، مذكرة إياهم برؤية أميركا غير المتحققة لشعوب الشرق الأوسط. (القوة والإيمان والخيال – ص 385).

لوحة الفتاة الأرمنية في منزل ويلسون

بالنسبة لمواقف الحركات التحررية، استفادت القوى العربية من مبادئ ويلسون للتحرر من السيطرة العثمانية. وتبنت الحركة القومية الأرمنية هذا المبدأ لبناء دولة مستقلة على غرار العرب. لكن الموقف الكردي كان مفككاً تجاه هذه المبادئ التي ساهمت في النهاية في صياغة خرائط معاهدة سيفر. أما الغالبية الكردية المرتابة من “مبادئ ويلسون” استندت على التحركات الدبلوماسية الأميركية لتطبيق المبدأ الـ12 وكان ينصب بشكل كامل على ضمان تأسيس دولة أرمنية تضم أجزاء واسعة من الولايات الست التي يعتبرها الكرد جزءاً من كردستان.

كان هناك اتجاهان كرديان حول التعامل مع معضلة “مبادئ ويلسون”، والاتجاهان طرحا ضمناً خلال مناقشات الأعضاء في جمعية تعالي كردستان. فقد رأى فريق أن النجاة من الدولة الأرمنية يكون عبر التقرب من الخطط البريطانية في تفكيك الدولة العثمانية وليس عبر رفض الدولة الأرمنية، وعلى رأس هذا الاتجاه كان أمين عالي بدرخان. بينما كان الاتجاه الثاني شديد القلق من أي تطور قد يجبر الكرد على التنازل عن الأراضي التي يطالب بها الأرمن، وهؤلاء كانوا الغالبية من سيد عبدالقادر النهري وسعيد الكردي النورسي وصولاً إلى سيد طه النهري الذي كان قد لجأ إلى راوندوز في جنوب كردستان. وبعض القادة الكرد بدلوا مواقفهم من التقسيم، مثل سيدعبدالقادر، الذي يعد في ذلك الوقت أشهر شخصية كردية على الإطلاق نظراً لمكانته الدينية الواسعة وتاريخ عائلته في السياسة والتمردات.

في كل الأحوال، لم يعارض المشككون والرافضون لمبادئ ويلسون فرص تأسيس كيان كردي، شرط أن يكون كياناً عادلاً. ومن اللافت أن كردستان المقترحة هامشياً في خريطة توصيات لجنة كينغ كراين الأميركية، كانت صغيرة المساحة لكنها كانت موحدة، والغرض منها وفق توصيات اللجنة هو إنشاء كيان يستوعب الكرد الذين سيهاجرون من الدولة الأرمنية بشكل تلقائي دون عنف لتنقية الدولة الأرمنية من الكثافة الكردية! وقد ظهرت الخريطة نفسها والمساحة ذاتها في معاهدة سيفر لكن منقسمة إلى جزأين بلا هوية سياسية، واحدة تحت النفوذ البريطاني والأخرى تحت النفوذ الفرنسي.

 حتى نهاية عام 1919 كانت وفود جمعية تعالي كردستان تتفاوض مع الأوروبيين في إسطنبول على حدود وطبيعة الكيان الكردي المزمع تأسيسه.

خريطة أعدتها لجنة كينغ كراين للكيانات الجديدة في الشرق الأوسط

كان لافتاً ما أورده زنار سلوبي (قدري جميل باشا) في مذكراته عن وقائع لقاء في 4 آب، أغسطس 1919 بين وفد من “جمعية تعالي كردستان” وممثلي الدول العظمى لشرح المطالب الكردية. وفي اجتماع مع الممثل الأميركي، قدم الكرد خريطة واسعة لحدود كردستان تبتلع معظم الأراضي الأرمنية المفترضة وتصل الخريطة إلى البحر الأبيض المتوسط. وهذه الخريطة ما زالت شائعة إلى اليوم في الأدبيات السياسية الكردية الحالية، رغم أنها لا تستند إلى معطيات سكانية قومية إنما كانت المطالب مبالغاً فيها تحت مبرر أن ما لن يحصل عليه الكرد سيذهب إلى الأرمن واليونانيين، لذلك لم يعترض القادة الترك ومصطفى كمال حينها على رسم هذه الخرائط لكردستان الكبرى. فلو لم يزاحم الكرد بخريطة تصل إلى ميناء الاسكندرون على البحر الأبيض المتوسط ستبقى الساحة خالية للأرمن في ذلك الوقت، حيث أن البند الثاني عشر من مبادئ ويلسون أضيف لها توضيحات لاحقاً. فقد قدم التفسير الرسمي للبنود الـ 14 إدوارد هاوز، وهو من المستشارين المقربين للرئيس ويلسون. وتضمن التفسير الذي أعلن عنه في تشرين الأول/ أكتوبر 1918 بخصوص البند الثاني عشر:

تنشأ الصعوبة هنا بخصوص مصطلح الحكم الذاتي.. يجب إبقاء الأناضول تحت سيطرة الأتراك ويجب منح أرمينيا ميناءً على البحر المتوسط وتحت حماية دول من الدول العظمى..”[3].

في أحد هذه الاجتماعات، وعندما فهم الوفد الكردي من الممثل الأميركي أنه مازال مشروع قيام دولة أرمنية مستقلة، على حساب المنطقة الكردية أيضاً، قائماً لديهم، تدخل الشيخ سعيد النورسي الذي كان عضواً في اللجنة التنفيذية للجمعية، ولم يتمسك بخريطة كردستان التي تصل البحر المتوسط، بل اعتبر أن عدم وجود منفذ لكردستان المقترحة على البحر أفضلية، “لو كان لكردستان ساحل على البحر فإنكم ستدمرونه بقوتكم البحرية ولكنكم لن تستطيعوا تنفيذ مثل هذا القرار في جبال كردستان”.

خريطة أرمينيا الكبرى التي أوصت لجنة كينغ – كراين بعدم أخذها بجدية لخطورتها
خريطة كردستان المقترحة من جانب الكرد في مؤتمر الصلح بباريس 1919

وحقيقة بالكاد تعكس الأوراق البحثية حول الشأن الكردي، مثل هذه العناصر في تشكيل السياسات الكردية أثناء وبعد الحرب، وخلال حرب الاستقلال، وصولاً إلى محاولة التصحيح الكردية للانحراف القومي التركي عن طريق ثورة عام 1925. كانت المخاوف حقيقية. حتى أثناء مفاوضات لوزان، كانت مسألة تبادل السكان مطروحة على الطاولة بين الأرمن والترك على غرار اتفاقية تبادل السكان مع اليونان. طبعاً التبادل كان سيكون ترحيل مسلمين (أكراد) مقابل ترحيل الأرمن من تركيا إلى أرمينيا. لكن هذا المقترح بقي على هامش التفاوض، لأن الأرمن لم يكونوا ممثلين في وفد رسمي، إنما نقلت هذه المطالب على الهامش عن طريق أعضاء الوفود الأوروبية المشاركة في المحادثات. وفي فترةٍ ما خلال التفاوض، دعمت بريطانيا لبعض الوقت شراء الأرمن أراضِ في المناطق التي انسحبوا منها على الجبهة الشرقية عام 1917 [4].

لذلك لا غرابة لو أن عدداً متزايداً من الكرد نظر إلى الوفد التركي، ولو بتردد وعلى استحياء، بقيادة عصمت إينونو ممثلاً للدفاع عن كردستان أيضاً وفق الأجواء السائدة في ذلك الوقت، لأن جماعة الاتحاد والترقي الحاكمة من عام 1908 وحتى نهاية 1918، كانت تضم تياراً قوياً موالياً لبريطانيا وفرنسا، وتبلور بشكل أكبر مع هزيمة العثمانيين على الجبهات العسكرية. وفي واحدة من وثائق المفاوضات بين أنصار الحلفاء في الاتحاد والترقي ووفد بريطاني برئاسة الدبلوماسي اللورد لوتيان بتاريخ 18 ديسمبر 1918، وردت الفقرة التالية [5]:

“تعترف المجموعة الموالية للحلفاء في لجنة الاتحاد والترقي بفشل الإدارة التركية التام في أرمينيا. وتثير وحشية الأتراك وأعمال القتل التي ارتكبوها الخجل، وهم يرغبون في وضع قرار مصير أرمينيا تحت تصرف الدول الأوروبية الكبرى وبصورة تامة. ولكي يضمنوا تنفيذ قرارهم هذا، فهم يريدون عزل الأكراد عن الولايات الأرمنية في ولاية كردية منفصلة”.

تدريجياً ستتصاعد التناقضات بين الطرفين التركي والكردي، لكن ليس قبل محطتين أساسيتين سبقتا لوزان، هما الميثاق الملي ومعاهدة سيفر.

_____________

مصادر إضافية:

[1]  Yeşim Bayar – In pursuit of homogeneity: the Lausanne Conference, minorit ies and the Turkish nation – Depar tment of Sociology, McGi l l Universi t y, Canada – Published online: 09 Jun 2013.

[2] مايكل أورين – القوة والإيمان والخيال.. أمريكا في الشرق الأوسط – ص 316

[3] كمال مظهر أحمد – كردستان في سنوات الحرب العالمية الأولى – ص 102

[4] Yeşim Bayar – In pursuit of homogeneity: the Lausanne Conference

[5] كمال مظهر أحمد – كردستان في سنوات الحرب العالمية الأولى – ص87

 

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد