عن كهل سوري مات على حلم الثورة
موفق نيربية
قال ” أبو كامل” لأصدقائه المقربين: “إذا فشلت الثورة، ستكون حياتي وحياة جيلي بأكمله بلا معنى… كل ما حلمنا وآمنّا به سيكون وهماً.”، في 17 شباط/فبراير 2013 أعلنت لجان التنسيق المحلية وفاته في سجن عدرا بعد نقله إليه إثر تدهور وضعه في ثلاثة أشهر في أقبية المخابرات السورية.
أبو كامل هو اللقب الذي عُرف به عمر عزيز، المثقف والأكاديمي الكهل الأناركي/ الثوري الذي عاد إلى سوريا ليشهد حياة الثورة السورية ويسهم في حراكها. هو الذي ترتبط به بدايات تأسيس المجالس المحلية في دمشق، وامتدادها من ثمّ على كامل الجسد الوطني. قال لرفاقه قبل اعتقاله في مطلع ٢٠١٢ ثم استشهاده كنتيجة للتعذيب: “لسنا أقلّ من عمّال كومونة باريس، هم صمدوا 70 يوماً فقط، وها نحن مستمرّون بعد عام ونصف”.
ليس الاحتفاء بذكرى هذا الرجل الاستثنائي بين السوريين هو الدافع الوحيد لهذا المقال، بل معه أيضاً تلك الوسوم: “الثورة”، “المجالس المحلية”، “الكومونة” أو “الكومين”- نقلاً عن الفرنسية-، و”الأناركية”، وغيرها من المترادفات القريبة منها والغريبة، الحيّة والمتنحيّة، المشتقة أوالمركّبة.
والثورة هي الثورة السورية، التي اُحتُفي ببدايتها في ١٥ آذار/مارس ٢٠١١، أو في ١٨ منه، حينما هبّت درعا وثارت لكرامة أهلها ولأطفالها الذين تعرّضوا للسجن والتعذيب. كانت تلك الثورة مفاجأة مدهشة، حتى لمن رأى في بداية الربيع العربي مقدمات لها وتوقّع انتقالها إلى سوريا. خمسة عقود من الاستبداد الأسدي الذي كان قد صُبّ كالإسمنت المسلّح، كمبنى فرعوني مُرعب، كانت كافية ليصعب تصديق اندلاع ثورة، وامتلاك الناس لشجاعة اختراق المستحيل تلك. لم يعد أبو كامل وحده من الخارج ليعيش تلك اللحظة التاريخية، آخرون غيره جاؤوا من أقصى الأرض.
ومن الصعب ذكر كلمة” الكومونة” من دون ذكرى ” كومونة باريس” المشار إليها أعلاه، حين أمسك أهل باريس وعمّالها بأقدارهم لسبعين يوماً، وحققوا حالة كفاحية لا زالت تهب الناس إيماناً بالحقّ والخير والعدالة. الكومونة هي الجماعة البشرية، التي لها صفات مجتمع مستقل نسبياً، أفراده موحدّون ومتساوون ومتكافلون متضامنون. قد تكون الكومونة نصف مليون كانوا سكان باريس في ذلك الزمان، أو بضع عشرات وحسب.
لطالما كان العديد من العرب يترجمون مصطلح الأناركية إلى “الفوضوية”، وذلك خطأ قد ينمّ عن استهداف مباشر أو غير ذلك. تمّ اشتقاق الكلمة من كلمتين إغريقيتين تعنيان” لا- سلطة”، ويُقصد بمفهومها وفلسفتها السياسية العمل من أجل قيام مجتمع يحكم نفسه ويدبّر أمورها، مع غياب للدولة أو تقليص وجودها وسلطاتها إلى الحدّ الأدنى. هذا “التقليص” وتنظيم الحكم موضوعان للفروع والاجتهادات المتنوّعة لأهل تلك الفلسفة الثورية، التي حاربها الماركسيون التقليديون واللينينيون وأشكال أخرى من الإيديولوجيات الثورية المعروفة.
أحد أشكال الأناركية الشيوعية، التي تأخذ من الأولى طهرانية تدعم الثانية أمام البيروقراطية التي سوف تتوالد حتماً، هي” المجالسية”، التي ظهرت أول ما ظهرت مع روزا لوكسمبورغ في ثورة نوفمبر/تشرين الثاني الألمانية، عام ١٩٢٠، حين كانت رائحة الدم والهزيمة لا زالت تملأ أجواء تلك البلاد. وهي اشتقاق بالأصل من “السوفييتات” التي شاعت قبيل ثورة أكتوبر الروسية ١٩١٧، واعتمدها لينين ورفاقه طريقة للحكم تمنع عنهم خطر ديموقراطية الجمعية التأسيسية، التي يصعب قيادها. هي شكل من الانتخابات المباشرة لممثّلي تلك المجتمعات الجزئية ومجالس الحكم والإدارة فيهم والاتّصال مع غيرها. تلك” المجالسية” لا تزال آثارها موجودة في منطقتنا، حتى بين السوريين، ولو بشكل محدود خفيف الإضاءة.
كان عمر عزيز من الذين يحملون تلك الأفكار، وابتدأ منذ عودته بتأمّل الأوضاع واستقراء المخارج لتأمين مسار تلك الثورة العزيزة. خرج في تشرين الأول/ أكتوبر بمسودّة أولى لتصوره عن تأسيس وتكوين المجالس المحلية المطلوبة وعملها، وقام بتحديثها مع التطورات إلى مسودّة ثانية في آذار/مارس التالي بعد ذلك. استندت جهوده إلى أهمّ تجربة في تنظيم قوى الثورة الشابّة، وبنى علاقة مع” لجان التنسيق المحلية” التي انتشرت كالنار في الهشيم، تنسّق وتربط وتدعم وتنقل أخبار الثوار والحراكات الثورية وتوثّق الضحايا وتسعفهم وتساعد الهاربين والنازحين وتدافع عن المعتقلين. لكنّه لم ينعزل تماماً عن “المعارضة” المعروفة العناوين، رغم توتّره العميق من أدائها وتاريخها، ورحبّ بقيام المجلس الوطني السوري ورأى فيه احتمال قيادته للثورة وأن يكون ظهيراً لها يغطّي حاجاتها حيث لا تستطيع ذلك. ولعلّ أهمّ ما في المجالسية عداؤها العميق لفكرة” الطليعة الثورية” والحزب القائد، ولأيّ” قائد”.
في المسودّة الأولى، وردت فكرته حول الزمنين المتداخلين اللذين يمرّ بهما الشعب السوري: زمن الثورة وزمن السلطة، حيث الثورة هي” قطيعة في الزمان والمكان معاً، خلالها يعيش البشر بين زمنين، زمن السلطة وزمن الثورة. أما انتصار الثورة فهو رهن بتحقق استقلالية زمنها لينتقل المجتمع الى عهد جديد “وقد استطاعت المظاهرات المستمرة” أن تكسر هيمنة السلطة المطلقة على المكان. فسيطرة السلطة على الجغرافيا أصبحت نسبية الآن، وإن اختلف نطاقها من منطقة إلى أخرى ومن يوم إلى يوم، ومن ساعة إلى ساعة في اليوم ذاته.”
ولكن الحراك الثوري “بقي مستقلاً عن الأنشطة الحياتية للبشر ولم يستطع أن يتداخل مع حياتهم اليومية. فهي مازالت تدار كما في السابق وكأن هناك “تقسيماً يومياً للعمل” بين النشاط الحياتي والنشاط الثوري. ما يعني أن التشكيلات الاجتماعية في سوريا تعيش تداخل زمنين، زمن السلطة الذي مازالت تدار فيه الأنشطة الحياتية وزمن الثورة الذي يعمل الناشطون فيه على إسقاط النظام. لا تكمن الخطورة في ذلك بالتداخل بين الزمنين، فهذا من طبيعة الثورات، وإنما في غياب التلازم بين الخطين الحياتي والثوري للجمهور. فما يخشاه الحراك خلال الفترة القادمة هو أحد أمرين، ملل البشر من استمرارية الثورة لتأثيرها على أعمالهم وحياة أسرهم أو اللجوء الى استخدام مكثف للسلاح تصبح فيه الثورة رهينة البندقية. بناءً عليه، فإنه “بقدر ما تستقل التشكيلات الاجتماعية عن السلطة بفعل جهود البشر للفصل بين زمن السلطة وزمن الثورة، بقدر ما تكون الثورة قد هيأت أجواء انتصارها.” وهنا تأتي فكرة المجالس وأهمية وجودها وحيويتها.
أراد عمر أن تقوم المجالس المحلية بالعديد واللازم من مهام الدولة، لكن تشكيلها في ذلك الوقت محفوف بالمخاطر الأمنية هنا وهناك، وتتزايد الصعوبة تلك طرداً مع درجة تلك المخاطر. وبالتفصيل والمرونة يمكن لشبكات لجان التنسيق ولدعم المجلس الوطني بالموارد المادية والراعية أن يساعد على بلورة مجالس تقوم بما تقدر عليه من مهام لوجستية وإغاثية وصحية ومالية وسياسية…
بالفعل، ساعد أبو كامل في قيام أربعة مجالس محلية حول دمشق منها ما هو في برزة والزبداني وداريا ودوما، وتمّ “الانتخاب” والتوافق عليهم من بين الكوادر والنشطاء والبارزين في المنطقة المعنية في مجالاتهم المتنوّعة الأهمّ فالأقلّ أهمية.
بعد ذلك، التقط المعنيون من قوى إقليمية وانتهازيين وطلائع دينية متشدّدة تلك الفكرة وقاموا باستخدامها بما ينفع الناس ولا ينفعهم، ومثّلوا بها أحياناً. لكن جوهرها الصحيح قاوم إلى حدّ كبير، واستطاع أن يحصل على شيء من الاحترام الخارجي والداخلي، بل إنه كان حصناً معقولاً أمام أمراء الحرب أحياناً، وأمام أمراء الطوائف في أحيان أخرى. ولا زال في الأمر بقية.
ما يمكن هنا أن ينجلي، هو الضباب الذي أحاط بمن أبدع تلك الموضوعة، واستشهد من أجلها.
المجد لعمر عزيز، السوري/ الثوري النبيل.