رفع العقوبات.. الفرصة التي قد تبدّدها دمشق 

شورش درويش
بعد قرابة أسبوع على قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب رفع العقوبات عن سوريا من على منصة المنتدى السعودي الأميركي، قرّر الاتحاد الأوروبي مجاراة واشنطن برفع عقوباته أيضاً، الأمر الذي استقبله كثير من السوريين بسعادة غامرة، بما في ذلك من كان يؤيّد تلك العقوبات زمن نظام الأسد وبات يبرّر رفعها بأنها تضرّ مجموع السوريين دون استثناء. وكل ذلك في ظل مجموعة معطيات تقول بأن 90 بالمئة من السوريين يرزحون تحت خطّ الفقر، مع انكماش في الناتج المحلي يقدّر بنحو 60 بالمئة من الناتج المحلي منذ عام 2011، فضلاً عن دمار قرابة نصف البنية التحتية للبلاد وكلفة إعادة إعمار تقدّر ببضعة مئات من المليارات.
 إلّا أن مسار رفع العقوبات، أو تخفيفها، يبدو متعرّجاً ومعقّداً بعض الشيء بالنظر إلى طبيعة السلطة الحاكمة وسلوكها وطريقة حكمها، هذا إلى جانب إمكانية تجديد العقوبات المرفوعة، أو فرض أخرى، حال حصول انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان أو استقرار السلطة على شكل نظام يتعارض مع مصالح القوى الغربية أو عجز حكومة أحمد الشرع عن تلبية المطالب الأميركية التي حدّدها ترامب بوضوح.
لا تعدو مسألة رفع العقوبات انتصاراً للسلطة الجديدة، بقدر ما هو انتصار للنظام الإقليمي الجديد قيد التشكّل والذي تسعى المملكة العربية السعودية إلى تسنّمه، بدرجة عالية من الانسجام مع الولايات المتحدة، ورغبة هذا النظام الإقليمي رعاية سوريا رغم الأكلاف الاقتصادية والسياسية لعملية الرعاية واحتمال انتكاس التصوّرات القائلة بأن من «يرفع العقوبات يقرّر». ذلك أن الأصل في عملية إدماج سوريا في النظام المالي والتجاري الدولي يتطلّب درجة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والتشريعية- القضائية بالشكل الذي يرضي الأطراف الخارجية المنخرطة في عملية تعويم دمشق دولياً عبر فرصة رفع العقوبات وإغراءات المنح والمساعدات.

من التدريج إلى الإعلان الفوريّ

جاء قرار ترامب المفاجئ دون تنسيق مع بقية الأفرقاء الذين يفرضون العقوبات على سوريا، لاسيما الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، ودون العودة للكونغرس بوصفه مشرّعاً لبعض العقوبات متخطّياً بذلك البيروقراطية والمشاورات الداخلية. وكل ذلك يجعل موقف ترامب أقرب إلى ارتجال ولّدته اللحظة المالية السعيدة في السعودية والإيحاءات الترامبية بامتلاكه سلطات مطلقة. والدليل على ذلك أن الرئيس نفسه لم يكن مطلعاً على جدول العقوبات وطبيعتها وتاريخها، حيث صرّح بعد قليل من رفعه العقوبات بأنه «لم يكن يعرف أن سوريا كانت خاضعة للعقوبات لهذه الفترة الطويلة». ولعل الإشارة إلى العقوبات القديمة، كالعقوبات المفروضة عام 1979 و2004 و2011، لا يعفي الرئيس من استشارة وزارتي الخزانة والخارجية، أو حتى النسيان، إذ إن آخر العقوبات المسمّاة «قانون قيصر» صدرت عام 2019، أي في ظل ولايته الأولى.
وفق الزيارة الأولى لدمشق بعد سقوط نظام الأسد، التي دشّنتها إدارة جو بايدن عبر إرسال مساعدة وزير الخارجية الأميركي بربارا ليف، بدا أن نقاش فندق «فورسيزنز» مرتكزاً على مسائل «داعش والإرهاب والعقوبات الأميركية والحوكمة» على ما قالته ليف في مقابلة أجرتها مع روبرت ساتلوف تعليقاً على اللقاء الذي جمعها مع الشرع. حيث كان من الواضح أنه «درس تفاصيل نظام العقوبات لدينا، ولم يكن هناك مجموعة واحدة فقط من العقوبات. لم يكن الأمر يتعلق فقط بمسألة المنظمة الإرهابية الأجنبية بالنسبة لهيئة تحرير الشام، ولا بتصنيفه هو كإرهابي عالمي». بدت ليف، ومن خلفها إدارة بايدن، جادة في موضوع إلغاء المكافأة المالية المخصصة للقبض على الشرع وكيف يمكن استلهام المسار السوداني في رفع العقوبات حين رسمت إدارة ترامب الأولى عام 2020 خريطة طريق للسودان للخروج بشكل أساسي من تصنيفه كدولة داعمة للإرهاب، وهو ما كان يعني تدرّجاً للوصول إلى مرحلة إقرار رفع العقوبات.
كان من شأن التدريج توسيع مروحة المطالبات الأميركية، والأوروبية المتحلّقة حول مواقف واشنطن، بحيث تبدأ بالإعداد لعملية سياسة أوسع تشميلاً للمكونات ووقف الانتهاكات. وبالشكل الذي يؤدي إلى الاحتفاظ بالقيمة الأساسية لفكرة وجود حكومة انتقالية مهمّتها بسط الاستقرار وتأمين الانتقال السياسي. ولعل مسألة مراعاة حالة حقوق الإنسان التي جاءت في خطاب وزير الخارجية ماركو روبيو من أنقرة كانت أقرب إلى تعديل على الأمور التي دعا ترامب إلى مراعاتها مقابل رفع العقوبات.
من الناحية التقنية، يستلزم رفع العقوبات صدور أوامر تنفيذية من الرئيس أو إصدار تشريعات يُقرّها الكونغرس وترفع العقوبات الرئاسية بصدور إعفاءات أو رفع جزئي أو كلي يسطّره الرئيس، أي ينسخ الرئيس قراراته أو قرارات سلفه من خلال الأوامر التنفيذية. فيما يدخل رفع العقوبات المفروضة بموجب تشريعات يسنها الكونغرس في اختصاص الكونغرس الذي يحدّدها وفق سقف زمنيّ. وبطبيعة الحال، تخضع مثل هكذا عقوبات للمساومة بين الرئيس وأعضاء الكونغرس ومدى جدارة فريق الإدارة بإقناع الكونغرس. لكن رغم كل شيء، فإن التنقّل بين القوانين يفسح المجال للرئيس بإصدار أحكام الإعفاء عن العقوبات المنصوص عليها في «قانون قيصر» والتنازل عن تطبيق العقوبات على الأفراد والكيانات بناءً على اعتبارات تخصّ الأمن القومي، فضلاً عن إمكانية تعليق القانون لمدة 180 يوماً قابلة للتجديد إذا أقر الرئيس للكونغرس بأن شروطًا معينة لم تعد متوفّرة. وقد يكون سقوط نظام الأسد المبرر الجيّد لطرح مثل هذا التعليق. وهنا، يمكن تفهّم حالة التهويل التي عبّر عنها روبيو في جلسة استماع أمام الكونغرس واحتمالية سقوط السلطة الجديدة في غضون أسابيع وليس أشهر. وغاية الأمر هي استنفار الكونغرس والتعجيل في رفع بقية العقوبات أو عدم الاحتجاج على تعليق الرئيس لبعضها. بطبيعة الحال، ليس هناك دليل على ما قاله روبيو فيما خص تهويله حول سقوط سلطة الشرع، إذ بدا الأمر ارتجالياً ومتوائماً مع الارتجال الترامبي في الرياض.

ما الثمن الذي يريده ترامب مقابل رفع العقوبات؟

ربما كان من شأن التنسيق بين واشنطن وبروكسل ولندن أن يقدّم تصوّرات تدريجية ومرنة لدعم سلطة دمشق الناشئة والمجتمع السوري على حدّ سواء. لكن رغم إعلان ترامب رفع العقوبات بشكل فوريّ، إلا أنه دعا دمشق في مقابل ذلك إلى القيام بخمسة أمور  تحمل في طيّاتها فرصة تساعد على تغيير شكل السلطة السورية. فوفقاً لكارولين ليفيت، السكرتيرة الصحافية للبيت الأبيض، فإن طلبات ترامب جاءت كالتالي: 1- التوقيع على اتفاقيات أبراهام مع إسرائيل. 2- ترحيل جميع الإرهابيين الأجانب من سوريا. 3- ترحيل الإرهابيين الفلسطينيين. 4- مساعدة الولايات المتحدة في منع عودة ظهور تنظيم داعش. 5- تحمّل المسؤولية عن مراكز احتجاز مقاتلي «داعش» في شمال شرق سوريا.
تبدو مطالب ترامب مزيجاً من مسألتين: التوقف عن القيام بأعمال معينة والتزام القيام بأخرى. وإذا كان التزام التوقيع على اتفاقيات أبراهام بحاجة لشيء من الوقت وإلى موافقة إسرائيل على وجود هذا الجار الجديد والمريب، فإن ترحيل القيادات الفلسطينية تبدو مسألة سهلة بالنظر إلى ضعف وجود مثل هذه القيادات في سوريا وعدم وجود أصوات سوريا تعارض مثل هذا الترحيل. وفي مقابل ذلك، فإن التعهد بمنع ظهور «داعش» وتحمل مسؤولية مراكز الاحتجاز ينبني على نقطتين في صالح الشرع. فمن ناحية، تشكّل «داعش» خطراً محتملاً على سلطة الشرع ومنافساً ذي خلفية إيديولوجية يصعب احتواءها. ومن ناحية أخرى، يساهم تلبية مثل هذا الطلب إلى التشبيك مع «قسد» وقوات التحالف وتسهيل عملية الانسحاب الأميركية بهدوء ووفق جداول زمنية تتناسب مع أجندة ترامب الانسحابية. دون ذلك، يبدو أن أصعب طلبات ترامب يرتكز حول معضلة الجهاديين الأجانب. فبمعزل عن الوشائج بين الجهاديين الأجانب والسلطة والمجتمعات التي احتضنتهم طيلة العقد الأخير ودورهم الفاعل داخل هيئة تحرير الشام ومحاولة إدماجهم في المجتمع السوري بشكلٍ فظّ وداخل المؤسسة العسكرية عبر منح بعض قادتهم رتب عالية، فإن معضلة الشرع في هذا الصدد باتت تتمحور حول مسائلتين: صعوبة إعادتهم إلى الدول التي جاؤوا منها على اعتبارهم مطلوبين في دولهم وعدم وجود دولة ثالثة قادرة على استضافتهم، وكذلك صعوبة الدخول في صدام عسكري مفتوح مع الكتلة الجهادية الأجنبية الوازنة والمقدّرة ببضعة آلاف واحتمال تحويل ولائهم لصالح خصوم الشرع لاسيما «داعش».

تحديات تنتظر دمشق

منذ الأيام الأولى لتمكّن الشرع وفريقه من الاستئثار بحكم دمشق، وضعت مسألة رفع العقوبات في سلّم أولوياته. ذلك أن طبقات العقوبات لم تكن مفروضة على النظام الأسبق فحسب، بل ثمة عقوبات فُرضت على الفصائل والكيانات والأفراد المناوئين للأسد، بما في ذلك الكثيرين ممن هم في السلطة الآن. لذا، كان لزاماً على الأطراف الإقليمية الداعمة لسلطة الشرع، لاسيما السعودية وتركيا، إقناع ترامب والاتحاد الأوروبي برفع العقوبات في أسرع وقت ممكن.
لا يُعلم مدى قدرة المؤسسات السورية على التعاطي المرن مع مسألة رفع العقوبات وتسهيلها عمل الأطراف الدولية التي تسعى لأن تكون مفاعيل رفع العقوبات سلسة حيث ستكون الأولوية لمؤسسات تمويل قطاعات التنمية التي ستقدّمها الدول المانحة بغية تحقيق الاستقرار الاقتصادي والإشراف على عملية إعادة الإعمار. وإذا كان صحيحاً أن دول الخليج ستكون أبرز وأهم المانحين، فإن الاتحاد الأوروبي سيكون له دور مؤثّر في عملية تقديم المنح. ورغم الوضوح الأوّلي الذي ظهر في بيان وزيري خارجية ألمانيا وفرنسا حين أكّدا أنهما  لن يدعما بناء هياكل حكم إسلامية، فإنه من المتوقع أن يكون هناك إشراف غربيّ على عملية الإنفاق وطبيعة المشاريع التنموية وإعادة تأهيل البنية التحتية. وهنا، قد يبرز تحدي يتمثّل بقدرة الحكومة السورية على تحديد الأولويات وجعل عملية التنمية وإعادة التأهيل وإعادة الإعمار متوازنة بين المناطق السورية دون انحيازات أو معاقبة الأجزاء التي وضعت اشتراطات للتعاون مع حكومة دمشق.
إلى ذلك، قد تسمح الوفرة المالية وتدفّق الأموال إلى إساءة أوجه الصرف والتصرّف وتحوّل الكثير من المشاريع إلى وسيلة لتربّح الأفراد عبر الاحتكارات والزبائنية وصلات القربة. وبالتالي، نموّ أولغاريشية جديدة تحفّ بالسلطة الجديدة. يعني ذلك أن الإضرار بالشفافية المالية والإصلاح المؤسسي واستغلال المساعدات والمنح قد يحول دون تقديم المزيد منها أو ضبطها وزيادة إشراف المؤسسات المالية والمصرفية الدولية عليها. وأبعد من ذلك، تبدو مسألة مراعاة حالة حقوق الإنسان ووقف الانتهاكات والتمييز الطائفي والإثني وثيقة الصلة باستمرار حالة رفع العقوبات وصمودها. إذ ليس هناك ضمانات في أن تبدي دمشق مقداراً من التسامح تجاه المكونات السورية، الأمر الذي يبقي نُذر تجدد الصراعات المسلحة. إذ سبق أن وضعت مسألة تشميل المكوّنات والمصالحة الوطنية في سلّم الطلبات الغربية دون جدوى. بل على العكس من ذلك، تصرّ دمشق على تحويل الدولة إلى كيان فئوي يفتقر لمضامين التسامح والمساواة والتعددية.
ثمة تحديات أخرى متصلة بالتنسيق الدولي بين واشنطن وبروكسل ولندن لمراقبة نُظم تحويل الأموال والعمليات البنكية، ذلك أن سوريا لاتزال تحتفظ بكتلة جهادية وتنظيمات مسلّحة لا يثق بها الغرب ولابد له من مراقبتها عن كثب، الأمر الذي سيجعل النظام المصرفي والمالي السوري عرضة للتدقيق والمساءلة على الدوام.
ويضاف إلى قائمة التحديات، سؤال التشريعات القانونية ونزاهة النظام القضائي الذي يحفظ للمستثمرين، سوريين وأجانب، حقوقهم في التقاضي، هذا إذا عبرت سوريا مرحلة إعادة الإعمار إلى مرحلة التنمية وجذب الاستثمارات.
قد تتحوّل الفرصة التاريخية المتمثلة في رفع العقوبات إلى فرصة لتحوّلات اجتماعية واقتصادية وسياسية مهمّة تنتظر سوريا. لكن سلوك السلطة في انفتاحها الخارجي وانغلاقها الداخلي قدّ يضيّع على السوريين العون الدولي الكبير وفُرص الازدهار والتنمية. بكلمات أخرى: يبدو أن السلطة الجديدة لن تكون قادرة على التصرف بحكمة مع الفرص المتاحة على ما قالته تجربة الأشهر الستة الماضية وإصرارها على مركزة القرارات والسياسات ضمن حلقة ضيّقة تسعى للقبض على كل مفاصل البلاد ومقدّراتها.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد