انتخابات برلمان إقليم كردستان: الشرعية والمستقبل على المحك

حتى اللحظة لا توجد مؤشرات على إمكانية إجراء انتخابات الدورة السادسة البرلمانية في إقليم كردستان العراق، ويأتي ذلك في ظل الانسداد السياسي الذي يشهده الإقليم وتبادل حزبيه، الاتحاد الوطني الكردستاني والديمقراطي الكردستاني، الاتهامات حول مسؤولية التعطيل السياسي، خاصة بعد أن دخلت بغداد، عبر المحكمة الاتحادية العليا العراقية، على خط الأزمة وباتت طرفاً أصيلاً في حل مشكلات الإقليم الداخلية. يضاف إلى ذلك تنامي دور الدول الإقليمية وتعزيزها لحالة الاستقطاب الحزبية. هناك احتمالات لتفكك الإقليم حال فشل الوصول إلى اتفاق سياسيّ يؤدي إلى إجراء انتخابات حرة ونزيهة وفي الموعد المتفق عليه بين الأحزاب الكردستانية، وبالشكل الذي يؤدي لإعادة مشكلات الإقليم إلى داخل قبّة البرلمان بدل أن تتوزّع على المنصّات الإعلامية الحزبية التي تعزز بدورها حالتي الاستقطاب والتشظي.

برلمان منتهي الصلاحية

في شباط/فبراير من العام الماضي أصدر رئيس رئيس إقليم كوردستان نيجيرفان بارزاني أمراً تنفيذياً قاضياً بتحديد الأول من تشرين الأول/أكتوبر 2022 موعداً للانتخابات، إلا أنه تم إرجاء هذا الموعد لعام آخر بعد أن مدّد البرلمان لنفسه سنة إضافية، وجاء ذلك بعد أن وافق طرفي الخلاف الاتحاد الوطني الكردستاني والديمقراطي الكردستاني على قرار التمديد. لكن القرار جوبه باعتراض داخلي جعل من المحكمة الاتحادية العراقية طرفاً محكّماً في مشكلات الإقليم؛ فنتيجة للدعوى التي تقدّم بها نواب في البرلمان الاتحادي وبرلمان الإقليم، بينهم رئيس برلمان الإقليم الأسبق عن حركة التغيير يوسف محمد، قضت المحكمة الاتحادية في 30 أيار/مايو 2023 قراراً بعدم دستورية تمديد عمل برلمان كردستان لعام إضافي بعد أن جدّد لنفسه في عام 2022، وعليه فقد اعتبرت المحكمة الاتحادية كل القرارات الصادرة عنه بعد تلك المدة باطلة، الأمر الذي يضع حكومة الإقليم أمام معضلة الفراغ التشريعي التي لا يبدو أنها في طريقها للحل، إضافة لذلك فقدَ برلمان الإقليم صلاحية مراقبة عمل الحكومة غير الخاضعة للمساءلة والمحاسبة فيما خص التصرف بالأموال العامّة والإيرادات والمخصصات.

وخلال مؤتمر “ميونخ للأمن” في شباط/فبراير الماضي نبّه نيجيرفان بارزاني، رئيس إقليم كردستان، للمخاطر الناجمة عن تأخير الانتخابات “لأن عدم إجرائها يضع العملية السياسية وشرعية إقليم كردستان تحت المساءلة”، وهو ما اعتبر لحظتها جرس إنذار للأحزاب الكردستانية، أو رسالة لتلك الأحزاب للمضي قدماً للوصول لاتفاقات الحد الأدنى، ووجوب تحريك المياه السياسية الراكدة، غير أن هذا التنبيه لم تكن له أيّ مفاعيل على أرض الواقع.

الانقسام يراكم المشكلات  

لطالما وصف الإقليم بأنه دولة صامتة أي أنه لا يملك فقط حق التصويت في الأمم المتحدة، وذلك كتعبير عن درجة الاستقلالية التي تمتّع بها الإقليم والتي تراجعت منذ استفتاء الاستقلال عام 2017. غياب التنسيق بين الحزبين الرئيسيين وفائض المشكلات بينهما وغياب التنسيق السياسي الكردي في بغداد، عمّق من حضور الأخيرة ومن دور المحكمة الاتحادية التي باتت الفيصل في حل مشاكل الإقليم فحسب.

في عام 2022، قضت المحكمة الاتحادية العليا، بعدم دستورية مفوضية الانتخابات والاستفتاء في إقليم كردستان، نزولاً عند طلب أطراف كردستانية شكّكت في نزاهة مفوّضية الإقليم، إلّا أن شقة الخلاف مازالت متسعة بسبب قانون الانتخابات والدوائر الانتخابية والموعد النهائي للانتخابات، ففي أيار/مايو الماضي نشب عراك بالأيدي داخل قبّة البرلمان بين نوّاب كتلتي الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني على خلفية مناقشة هذه المسائل التي يصرّ الديمقراطي على بدء العمل بها وتحديد الموعد النهائي للانتخابات نهاية العام الجاري،  فيما يرى الاتحاد الوطني إرجاء مناقشة مشاريع هذه القوانين إلى حين توصّل الأحزاب الكردستانية لاتفاق سياسيّ.

إلى ذلك، قوّضت المشكلات الاقتصادية في الإقليم الاستقلال المالي للإقليم أيضاً، لا سيما بعد قانون تصدير النفط الخام من كردستان وخسارة كامل قطاع النفط لصالح شركة تسويق النفط العراقية (سومو)، ورغم إعادة تصدير النفط من كردستان عبر ميناء جيهان التركي وحل المشكلات بين بغداد وأربيل في أيار/مايو الماضي، إلّا أن عمليات التدقيق المالي أصبحت تخضع لسلطة بغداد التي قررت وفق قرار الاتفاق بأن تودع الإيرادات المحققة من حقول الإقليم “في حساب مصرفي لدى البنك المركزي العراقي أو أحد المصارف المعتمدة من قبل البنك المركزي العراقي”.

بطبيعة الحال فشل حكومة الإقليم في الوصول إلى حلول سياسية واقتصادية وإلى نهج عملي لتوزيع الثروة بين محافظاته سيفضي إلى الاحتكام الدائم لبغداد في حل مشاكل الإقليم الداخلية. فقد نجحت السليمانية في هذا الاتجاه للوصول إلى مبتغاها عبر تحويل مخصصات المحافظة المالية مباشرة دون المرور بأربيل والذي وصفه رئيس حكومة الإقليم بـ”الخيانة”، فيما عبّر الاتحاد الوطني الكردستاني عن سعادته بقرار البرلمان العراقي هذا وتصديق الفقرة (8) من المادة (14) التي جاءت بحسب أحد قياديي الاتحاد الوطني “لتثبيت الحقوق والمستحقات المالية لجماهير شعب كوردستان بشكل عادل”.

لكن عمليات “تكسير العظم” بين الحزبين بلغت أشدّها مع قصف تركيا لمطار السليمانية، وبدل تضامن أربيل مع الاتحاد الوطني، وقائد قوات سوريا الديمقراطية الذي نجا من الاغتيال، وكذا ضباط قوات التحالف الدولي، أبدى الديمقراطي الكردستاني موقفاً حادّاً يحمّل فيه الاتحاد الوطني مسؤولية ما تعرّضت له السليمانية، لتبلغ الحرب الكلامية إثر ذاك مستوىً غير مسبوق، ولعل المستفيد الأكبر من الحرب الكلامية تلك كانت أنقرة.

خطر التقسيم يلوح في الأفق

ثمة احتمالات من انزياح الإقليم إلى مزيد من التباعد بين قطبيه، الأمر الذي يعيد للأذهان سيرة الإدارتين بعد فشل البرلمان الأول عام 1992، فالبرلمان الذي يرمز لوحدة الإقليم والذي أقرّ في 4 تشرين الأول/أكتوبر 1992 الفدرالية من طرف واحدٍ، بات يمثّل الأداة التي تمزّق الإقليم ويتسبب بتشظّي الوحدة الكردستانية، ففي وقت سابق بين أعوام 1994-1998 لم ينجح البرلمان في أن يكوّن المادة اللاصقة لحزبيه اللذين انزاحا نحو “حرب أهلية” مدمّرة عطّلت المستقبل الديمقراطي للإقليم وزرعت الشكوك المناطقية والحزبية داخل الإقليم الفتي وقتذاك.

في الأثناء، باتت وحدة الإقليم رهينة الضغط الأمريكي والأوربي الساعي للحفاظ على الحد الأدنى من السلام الداخلي الكردي، ومن الوحدة الإدارية للإقليم. غير أن الضغوط الغربية لا تنجح على الدوام؛ فقد فشلت الضغوط والجهود الرامية لتوحيد قوات البشمركة والأجهزة الأمنية التابعة للحزبين ومأسسة عملهما، كما أن حالة الشراكة والعلاقات الاستراتيجية مع الدول الإقليمية، تركيا وإيران، بالنسبة لكلا الطرفين تنذر باحتمال دعم الأطراف الإقليمية لكل سيناريو يقوّض وحدة الإقليم.

يبدو أن الطرف المتضرر الآخر من الانقسام السياسي في الإقليم، إضافة لواشطن والدول الأوربية، هي بغداد التي تجمعها في هذه الأوقات علاقات جيّدة مع أربيل والسليمانية، فالانقسام يحرج بغداد التي تستصعب إرضاء أحد الكيانين على حساب الآخر، وقد يكون من الأمثل لها التعامل مع إقليم يجمع الطرفين في قيادته.

لم يعد بلوغ الانتخابات كافياً لتعزيز السلام الكردي، إذ إن الذهاب إلى انتخابات دون اتفاق سياسي على تقاسم المهام والأدوار والمناصب داخل الإقليم سيدفع بعجلة المشكلات مرة أخرى إلى الأمام، وقد يفضي إلى تنامي فكرة الإدارتين مرة أخرى كحل نهائي مؤلم، إذ لم يعد من الممكن تجاوز المشكلة الجهوية الراسخة بين أربيل والسليمانية، ولم يعد لدى كلا الطرفين قدرة على الاحتكام الدائم لبغداد أو الاستقواء بالدول الإقليمية لتحقيق غايات داخلية، الأمر الذي يضعف الإقليم ويستنزف استقلاله السياسي والمالي وحتى الأمني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد