المركز الكردي للدراسات
في الآونة الأخيرة، سرّبت الولايات المتحدة عبر وسائل الإعلام خبر إدارة الصين منشأة تجسس في كوبا منذ أعوام، أدخلت عليها تطويراتٍ في محاولة لتعزيز وجودها في الجزيرة التي لا تبعد سوى بضعة مئات الكيلومترات عن سواحل ولاية فلوريدا الأميركية. وعلى الرغم من نفي الكوبيين والصينيين الإعلان الأميركي، إلا أن هذا لا يعني أن بكين لا تسعى إلى تعزيز نفوذها في دول أميركا الوسطى والجنوبية التي لطالما عُرفت بأنها ساحة واشنطن الخلفية. وتحاول الصين تحقيق أهدافها عبر أوجهٍ متعددة: سياسية واقتصادية وعسكرية.
عسكرياً، تجنبت بكين، أقله إلى الآن، استفزاز واشنطن بشكلٍ مباشر، إذ أن نفوذها العسكري يتأتى بشكلٍ أساسي من خلال القوة الناعمة، إن صح التعبير، لا الوجود الملموس. وعززت الصين مبيعات الأسلحة ومعدات النقل وبرامج التبادل والتدريب العسكري مع دول أميركا الجنوبية، خاصةً فنزويلا، التي تشاطرها الإيديولوجية المعادية لهيمنة الأميركيين، فضلاً عن بوليفيا والإكوادور وترينيداد وتوباغو. كما تشارك الصين في عمليات حفظ السلام في هايتي. ومنذ 2015، جلبت الصين ضباطاً من دول أميركا الجنوبية إلى كلياتها الحربية للتدريب بمقدار خمسة أضعاف مما فعلته الولايات المتحدة. ووفقاً لتقرير صدر عن لجنة المراجعة الاقتصادية والأمنية بين الولايات المتحدة والصين، زار قادة عسكريون صينيون دول أميركا الجنوبية 215 مرة بين عامي 2002 و2019. وذكر التقرير أن تشيلي وكوبا والبرازيل والأرجنتين استحوذت على أكثر من نصف تلك الزيارات. بالإضافة إلى ذلك، اتفقت الصين ومجموعة دول أميريكا الجنوبية ومنطقة البحر الكاريبي في ديسمبر الماضي على مواصلة التعاون في القضايا العسكرية من خلال منتدى الدفاع المشترك بين الصين والمنطقتين الذي عقد في ديسمبر/كانون الأول الماضي.
اقتصادياً، تكشف الأرقام حجم ازدياد النفوذ الصيني. ففي عام 2000، بلغ إجمالي قيمة تجارة الصين مع أميركا الجنوبية 12 مليار دولار فحسب. أما اليوم، يبلغ الرقم 450 مليار دولار، وسط توقعاتٍ بوصوله إلى 700 مليار دولار بحلول 2035، إذ باتت الصين الشريك التجاري الأكبر لأميركا الجنوبية، في وقتٍ وقّعت اتفاقات تجارة حرة مع تشيلي وبيرو وكوستاريكا. ولا يمكن هنا نسيان مبادرة الحزام والطريق التي تشير في إحدى بنودها إلى ربط سواحل أميركا الجنوبية الأطلسية والمحيط الهادئ من البرازيل إلى تشيلي. وكما يفعلون في إفريقيا، يغدق الصينيون الأموال على تلك الدول التي تجد نفسها لاحقاً عاجزة عن دفع الديون وبشروطٍ تشي بنيةٍ إلى فرض شروط في المستقبل. فالعديد من القروض المقدّمة لدول أميركا الجنوبية تتضمن بنداً يسمح لبكين بإلغاء القرض أو المطالبة به في حال اتخذ البلد المدين تغييراتٍ في سياسته بشكلٍ معاكس. وأقرض بنكا التنمية الصيني وبنك الصين للاستيراد والتصدير المملوكان للدولة نحو 137 مليار دولار لحكومات منطقتي أميركا الجنوبية والكاريبي. وتتركز تلك القروض على قطاعاتٍ استراتيجية مثل الطاقة والتعدين والبنية التحتية (من قبيل إنشاء محطة مراقبة فضائية قرب مضيق ماجلان وقناة ضخمة في نيكاراغوا وخط سكة حديد يربط البرازيل وبيرو)، في وقتٍ يخشى من وضع بكين يدها على قطاع الاتصالات الحساس، ما يمنحها إمكانية التجسس والمراقبة في مجالٍ حيوي ومهم للغاية. وعلى سبيل المثال، تسيطر الصين على 80 في المئة من نظام الاتصالات في المكسيك، جارة الولايات المتحدة الجنوبية. كذلك، تهتم الصين بقطاع الطاقة المتجددة في المنطقة، حيث يمول بنك التنمية الصيني مشاريع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، مثل بناء أكبر محطة للطاقة الشمسية في أميركا الجنوبية في الأرجنتين ومحطة لطاقة الرياح في تشيلي. وبين عامي 2000 و2018، استثمرت الصين 73 مليار دولار في قطاع المواد الخام في أميركا الجنوبية، بما في ذلك إنشاء المصافي ومعامل المعالجة في البلدان التي تحتوي على كمياتٍ كبيرة من الفحم والنحاس والغاز الطبيعي والنفط واليورانيوم. ومؤخراً، استثمرت بكين ما يقرب من 4.5 مليار دولار في إنتاج الليثيوم في المكسيك وما يسمى بدول مثلث الليثيوم في الأرجنتين وبوليفيا وتشيلي. وتضم هذه الدول الثلاث أكثر من نصف الليثيوم في العالم، وهو معدن ضروري لإنتاج البطاريات.
سياسياً، زار الرئيس الصيني شي جينبينغ المنطقة إحدى عشرة مرة منذ توليه منصبه عام 2013. وبالإضافة إلى العديد من الاتفاقيات الثنائية مع دول المنطقة، وقعت الصين شراكاتٍ استراتيجية شاملة، وهو أعلى تصنيف تمنحه لحلفائها الدبلوماسيين، مع الأرجنتين والبرازيل وتشيلي والإكوادور والمكسيك وبيرو وفنزويلا. ويعتبر سعي الصين عزل تايوان أحد أهم العوامل وراء اهتمامها بالمنطقة، إذ لا تزال ثماني دول تعترف بتايوان بدلاً من بكين كممثلٍ عن الأراضي الصينية. وفي ظل تنامي النزعة الشمولية لدى الأنظمة الحاكمة في أميركا الجنوبية والوسطى، التي لها إرث طويل معها، فإن تلك الأنظمة تجد في بكين حليفاً يمكن الوثوق به مع اعتماد الأخيرة سياسة عدم التدخل في الكيفية التي تُحكم من خلالها تلك الدول، عكس واشنطن. كذلك، اتّبعت الصين ما يمكن تسميته بـ«دبلوماسية اللقاحات» لكسب ود حكومات المنطقة منذ تفشي وباء كورونا، إذ شملت تلك الدبلوماسية توزيع المعدات الطبية والأقنعة وتقديم قروض بمليارات الدولارات لشراء لقاحات صينية والاستثمار في مرافق إنتاج اللقاحات. وفي هذا الصدد، وقّعت بكين مع اثنتي عشرة دولة في المنطقة عقود لقاحات يشمل بعضها عمليات نقل التكنولوجيا والتعاون البحثي مع شركة تطوير اللقاحات الصينية «سينوفاك»، في وقتٍ أعربت بعض الدول حينها عن مخاوفها بشأن تلك الاستراتيجية، ومنها هندوراس وباراغواي، اللتان تحدثتا عن ضغوطٍ صينية للتخلي عن اعترافهما بتايوان مقابل تلقي اللقاحات.
يقيناً، أن أميركا الجنوبية والكاريبي (أميركا الوسطى) منطقتان على قدرٍ كبير من الأهمية بالنسبة إلى واشنطن وأمنها القومي. فالمسألة ليست حيّزاً جغرافياً فحسب، إذ أن للولايات المتحدة روابط اقتصادية وسياسية وثقافية وبشرية في المنطقة، ليس أقلها أن نسبة كبيرة من سكان الولايات المتحدة من أصول لاتينية. حظي الشرق الأوسط باهتمام الأميركيين على مدى عقودٍ طويلة، وكذلك فعلت أوروبا الشرقية، ومؤخراً منطقة المحيطين الهندي والهادئ التي تشكّل لبّ الصراع الصيني-الأميركي حالياً. لكن بكين وجدت في أميركا الجنوبية والكاريبي فرصةً سانحة للعب في ساحة واشنطن الخلفية وتوجيه رسالة واضحة أن بإمكانها إزعاجها في نصف الكرة الغربي كما يفعل الأميركيون في شرق وشمال شرقي آسيا.