المركز الكردي للدراسات
تُعتبر المشكلة القبرصة أحد أقدم النزاعات المستمرة، إذ يصل عمرها إلى 50 عاماً. والعاصمة القبرصية نيقوسيا هي اليوم الوحيدة المقسّمة في العالم بين طرفين تركي ويوناني. بدأت التوترات بين المكونين اللذين يشكلان سكان الجزيرة المتوسطية بعد ثلاثة أعوام من استقلالها عن بريطانيا في 1960 بموجب اتفاقيتي زيوريخ ولندن التي أفضت إلى تقاسم السلطة بينهما. وتفاقمت حتى وصلت إلى الذروة في 1974 حينما اندلعت أعمال عنف بين الطرفين وانسحب القبارصة الأتراك من الحكومة. وفي 15 يوليو/تموز 1974، وقع انقلابٌ عسكري، بدعمٍ من المجلس العسكري في اليونان، بهدف توحيد الجزيرة مع اليونان، تلاه بعد خمسة أيام غزوٌ تركي بحجة حماية القبارصة الأتراك، انتهى إلى سيطرة الجيش التركي على قرابة ثلث مساحة الجزيرة شمالاً وتواجد 30 الف جندي فيها ، وبعد أقل من عام (في فبراير/شباط 1975)، تم إعلان دولة قبرص الاتحادية التركية لتكون بمثابة حكم ذاتي. وفي نوفمبر/تشرين الثاني، 1983 تم إعلان جمهورية شمال قبرص التركية من جانبٍ واحد، تولى رؤوف دنكتاش رئاستها، ولا تعترف بها إلى اليوم سوى تركيا. وتقدّر مساحة ما يسمى بـ«جمهورية شمال قبرص التركية» بنحو 3,355 كيلومتر مربع يقطنها حوالى 351 ألف نسمة، فيما لا يتجاوز عدد اليونانيين فيها 700 فقط بعدما كان عددهم قبل الغزو يقدّر بـ162 ألفاً.
يتضح من ذلك حجم الدور التركي الكبير في رسم تاريخ وحاضر ومستقبل «جمهورية شمال قبرص التركية»، إذ كان للتقسيم تأثيرات عميقة على المشهد السياسي، ورسّخ النفوذ التركي فيها بشكلٍ واضح. ولا تزال «جمهورية شمال قبرص التركية» تستخدم الليرة التركية كعملةٍ رسمية، في حين يبدو التأثير التركي جلياً بتسمية الساحات والشوارع الرئيسية بأسماء شخصياتٍ تركية مثل أتاتورك وبناء الجوامع بوتيرةٍ مضطردة، على الرغم من أن نسبةً معتبرة من القبارصة الأتراك لا تمارس الشعائر الدينية. ومنذ تولي رجب طيب اردوغان مقاليد الحكم في أنقرة، ازداد نفوذها لدى أتراك قبرص، خاصةً في الأعوام الماضية التي ارتفع خلالها منسوب التدخلات التركية بطريقةٍ أكثر علنية. ومن جملة تلك التدخلات، تنظيم تركيا مناوراتٍ عسكرية مطلع العام الجاري اقتربت للمرة الأولى من ساحل مدينة فاماغوستا الخاضعة لسيطرة القبارصة الأتراك. ونهاية العام الماضي، حاولت أنقرة منح «جمهورية شمال قبرص التركية» العضوية أو صفة مراقب في «منظمة الدول التركية» قبل أن تجابه بمعارضة أعضاء المنظمة. كما تُسّرب وسائل الإعلام التركية بين الحين والآخر أنباء عن نية أردوغان ضم «جمهورية شمال قبرص التركية» إلى بلاده.
لكن لعل أخطر أوجه الاستراتيجية التركية على مدار الأعوام الماضية، قبل وخلال حكم أردوغان، تتمثل في النفوذ السياسي والاجتماعي والتغيير الديمغرافي الذي مارسته أنقرة في الدولة التي أوجدتها. سياسياً، يمكن وصف الزعماء القبارصة الأتراك الذين تعاقبوا على حكم المنطقة المحتلّة، وعددهم خمسة، بأنهم لم يكونوا أكثر من دمىً بيد أنقرة، مع استثناءٍ وحيد نسبياً هو المستقل مصطفى أكينجي الذي حكم بين 2015 و2020 وبدرجةٍ أقل محمد علي طلعت (عن الحزب الجمهوري التركي) الذي تسلّم السلطة بين 2005 و2010. ويمثّل أكينجي تياراً داخل المجتمع القبرصي التركي، يزداد قوةً، يبدي تململاً من تدخلات أنقرة وحالة التبعية تجاهها ويفضّل التفاهم مع القبارصة اليونانيين على مبدأ حل قبرصي للمشكلة القبرصية بعيداً عن التدخلات الخارجية، سواءً من أنقرة أو أثينا، ويرى نفسه قبرصياً مثلما، أو لربما أكثر، مما هو تركي. وبين عامي 2017 و2019، دخل أكينجي بمفاوضاتٍ جادة مع القبارصة اليونانيين أشاعت جواً من التفاؤل، قبل أن تتوقف فجأةً بفعل ضغوطاتٍ تركية شديدة، كما قيل آنذاك. واستخدمت أنقرة خلال الانتخابات «الرئاسية» في «جمهورية شمال قبرص التركية» قبل ثلاثة أعوام الكثير من أوراق الضغط والابتزاز، من قبيل التلويح بسحب أو التقليل من دعمها (مستغلةً اعتماد شمال قبرص عليها كلياً في كافة النواحي)، من أجل أن يفوز مرشحها إرسين تاتار (عن حزب الوحدة الوطنية الموالي لتركيا) بالمنصب، وهو ما حصل بالفعل حينها وإن بفارقٍ ضئيل (51 في المئة لتاتار مقابل 48 في المئة لأكينجي، أو ما يعادل نحو أربعة آلاف صوت فحسب). وتكشّف أكثر حجم الغضب التركي من النزعة الاستقلالية لأكينجي بعدما أدلى مستشاره علي بيزدن بتصريحاتٍ قال فيها إنه وعائلته تعرضوا إلى ضغوطاتٍ شديدة من تركيا خلال الفترة التي تغيرت فيها القيادة في الشمال عام 2020، إذ منع من دخول تركيا لأسبابٍ غير معلنة وحققت الشرطة التركية مع أفراد عائلته المقيمين في تركيا أكثر من مرة. وبالإضافة إلى أكينجي، يبرز سردار دنكتاش، نجل الأب الروحي للقبارصة الاتراك، كأحد أبرز الأصوات المعارضة لبقاء شمال قبرص محميةً تركية. وسبق لدنكتاش الابن أن تولى حقيبة المالية إبّان عهد أكينجي، قبل أن يستقيل من الحزب الديمقراطي الذي انتمى إليه في خطوةٍ احتجاجية بعد أن أعلن الأخير نيته دعم تاتار في الجولة الثانية من الانتخابات في 2020.
وبالنظر إلى الخريطة السياسية في شمال قبرص، يمكن حصر عدد الأحزاب التي توصف بأنها ناقدة للتغلغل التركي، وإن بدرجاتٍ مختلفة بطبيعة الحال، بستة. ولعل أهمها الحزب الجمهوري التركي (اشتراكي ديمقراطي) وحزب الشعب (وسطي). وتاريخياً، اتخذ الحزب الجمهوري، الممثل بـ«البرلمان» بـ18 نائباً من إجمالي 50 ويتزعمه توفان إرهورمان، مواقف تنتقد نفوذ تركيا ودعا مراراً إلى مزيدٍ من الاستقلال والاعتماد على الذات والوحدة مع القسم اليوناني وإلى علاقةٍ متوازنة مع أنقرة. أما حزب الشعب، الذي يمتلك ثلاثة نواب ويتزعمه قدرت أوزرساي، فرفع منسوب انتقاداته الموجّهة إلى تركيا خلال العام الماضي، وهو حزب حديث النشأة، إذ تأسس في 2016، لكنه اكتسب شعبيةً جارفة منذ ولادته. أما الأحزاب الأربعة الأخرى، والتي لا تمتلك نواباً في البرلمان لأنها لم تتجاوز عتبة 5 في المئة المطلوبة لدخوله، فهي: حزب قبرص الجديدة (اشتراكي ديمقراطي)، حزب قبرص المتحدة (يساري)، حزب طريق الاستقلال (يساري)، وحزب التحرير الاشتراكي – القوى الجديدة (يساري). وتروج هذه الأحزاب إلى قبرص غير منحازة لها علاقاتٍ متوازنة مع الجوار، وتتحفظ على التجاوزات التركية التي تصل مستوى احتلالٍ غير معلن.
ديمغرافياً، عمدت أنقرة إلى توطين أتراك في الجزء الشمالي من قبرص بعد الغزو وتقديم التسهيلات إليهم، مدركةً الفوارق الاجتماعية بين الأتراك والقبارصة الأتراك الذين يحتفظون بهوية قبرصية-أوروبية أكثر علمانية. وتختلف الأرقام التي تقدّر عدد المستوطنين الأتراك والذين ولدوا لأبوين تركيين في شمال قبرص بين 25 إلى 50 في المئة من إجمالي السكان الـ351,000. ولكن حتى لو تم اعتماد النسبة الأقل، فهذا يعني أن هناك قرابة 87 ألف تركي وقبرصي ولدوا لأبوين تركيين غير قبرصيين في «جمهورية شمال قبرص التركية»، وهي نسبة عالية جداً، خاصةً إن تمت مقارنتها بالأصوات التي حصل عليها تاتار في انتخابات 2020 والتي لا تتجاوز 67 ألفاً.
في المحصّلة، فإن النفوذ التركي في شمال قبرص متعدد الأوجه، ويشمل الجوانب السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وفي حين يرى البعض أن العلاقة بين أنقرة و«جمهورية شمال قبرص التركية» وفّرت الاستقرار والدعم للقبارصة الأتراك، إلا أنها أثارت في الوقت ذاته العديد من التساؤلات والمخاوف بشأن إمكانية تحقيق التوازن والحفاظ على الهوية القبرصية وتعزيز فرص الوصول إلى حلٍ سلمي للمسألة القبرصية التي طال أمدها.