الانتخابات التركية.. التصالح مع عدم التغيير

وحدة الدراسات التركية

طويت صفحة الانتخابات الرئاسية التركية بولاية ثالثة للرئيس رجب طيب أردوغان، وربما تكون طويت صفحة من الحياة السياسية التركية أيضاً من حيث تحيز الدولة (بمؤسساتها وأجهزتها) لجهةٍ حزبية حاكمة، هي حزب العدالة والتنمية.

يمكن تسجيل عدد من الملاحظات الرئيسية في الانتخابات الحالية، لعل أبرزها تراجع العامل الاقتصادي في خيارات ناخب السلطة. فتردي المستوى المعيشي لم يقلص من تأييد حزب العدالة والتنمية أمام كتلة ناخبيه، ولم يكسب معسكر المعارضة شيئاً من الوضع الاقتصادي المتدهور في البلاد. كان 27 مليون ناخب الذين صوتوا لأردوغان يعلمون أنه في اليوم التالي لفوزه ستنخفض الليرة التركية أكثر أمام الدولار، لكنهم لم يكترثوا لذلك أمام صناديق الاقتراع، وهذه ظاهرة ملفتة، أي أن يصبح العامل الأيديولوجي صلباً إلى هذا الحد في الحياة السياسية للأتراك من دون أن تتأثر بالحياة المعيشية، وهذه سمة من سمات «الاقتراع الديمقراطي» في العالم الثالث.
في المقابل، استعاد حزب الشعب الجمهوري الأغلبية في كافة الولايات الساحلية على البحر المتوسط، وهو يتقدم في مسارٍ بطيء منذ تسلم كليجدار أوغلو رئاسة الحزب عام 2010. على الرغم من ذلك، بقيت خريطة التصويت في الانتخابات ثابتة إلى حدٍ كبير منذ عام 2017. لم تكن المساحات الجديدة لحزب الشعب الجمهوري ترقى لتمكينه من إنهاء حقبة حزب العدالة والتنمية.

في الحسابات الرياضية، يمكن الحديث عن خسائر لحزب العدالة والتنمية أيضاً، وهذا لن يغير في الحصيلة، وهي أنه ما زال يمسك بالسلطة كما لم يسبق له مثيل في تركيا سوى حقبة الحزب الواحد من 1923 إلى 1950. يضاف إلى ذلك، أن الدولة، بكافة أجهزتها، أصبحت حزبية كما في فترة تأسيس الجمهورية. باتت وزارات الداخلية والعدل والتعليم والشرطة أجهزة تعمل بصيغة حزبية. من هذه الزاوية، لم تكن الانتخابات عادلة لعدم حياد أجهزة الدولة، وهي أشبه بانتخاباتٍ تجري تحت سلطة انقلاب عسكري. لكن هذه ليست المرة الأولى التي تنحاز فيها أجهزة الدولة إلى حزبٍ سياسي وتحارب الأحزاب الأخرى. هذا ما حدث أيضاً في انقلاب 1960. ففي انتخابات 1961، كانت كل أجهزة الانقلاب في خدمة حزب الشعب الجمهوري وزعميه عصمت إينونو، فحصل على 33 في المئة فقط من الأصوات في الانتخابات العامة، وعجز عن تشكيل حكومة حزبية، فلجأ إلى حكومة ائتلافية مع حزب العدالة ثم مع حزب الفلاحين، وهما كيانان تشكلا على أنقاض الحزب الديمقراطي المنحل عام 1960.
تكررت مسألة تحيز الدولة في انقلاب 1980 أيضاً، وكان مثالاً على العقاب الشعبي التركي للسلطة العسكرية حين اكتسح تورغوت أوزال الانتخابات عام 1983. إذاً، هذه ليست المرة الأولى التي تنحاز الدولة لحزبٍ في الانتخابات، إلا أنه في حقبة حزب العدالة والتنمية، خاصةً منذ إقرار النظام الرئاسي عام 2018، باتت الأغلبية الشعبية متصالحة مع «عدم التغيير» على الرغم من تراجع تركيا في كافة مؤشرات المعيشة بشكلٍ كان سيؤدي إلى إسقاط حكوماتٍ لو حدثت في فتراتٍ سابقة، مثل بولنت أجاويد الذي انتهت حياته السياسية بالأزمة الاقتصادية مطلع العام 2000.

المصالحة مع عدم التغيير واقعٌ لم تؤمن به المعارضة التركية. تبنت الحملة الانتخابية للطاولة السداسية فرضية الخيار المعيشي كمحركٍ للتغيير. كان أردوغان أكثر قدرة على فهم الحشود، فبدأ يقارن بين البصلة التي حملها كليجدار أوغلو من مطبخه وبين حاملة المروحيات والسيارة الكهربائية والصناعات العسكرية. مع ظهور نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، أدرك كليجدار أوغلو أن «خطاب المطبخ» والمكتبة لا يكفي للإطاحة بأردوغان، فلجأ إلى أسوأ ما في السياسة التركية وأكثرها عائداً، وهو خطاب الكراهية والخوف. على الرغم من حدته في الهجوم على اللاجئين السوريين والأفغان وغيرهم، إلا أن أردوغان وفريقه يجيدون التحرك في ملعب الكراهية أكثر من كليجدار أوغلو وحلفائه، لدرجة أن ماكينة السلطة الانتخابية بثت مقتطفات مختارة من لقاءات لقياديين في حزب العمال الكردستاني في الساحات العامة وهم يتحدثون عن أهمية هزيمة التحالف الفاشي في تركيا (حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية). قامت السلطة بتعبئة أنصارها تحت شعار أن «وجود تركيا في خطر» وأن حزب العمال الكردستاني سيكون المنتصر في حال فوز كليجدار أوغلو. في الحشد الجماهيري الذي كان يستمع لخطاب النصر لأردوغان ليلة النتائج، كان عشرات الآلاف يهتفون بالإعدام لصلاح الدين دميرتاش، ولم يخيب أردوغان ظنهم، فوعد أنصاره أن دميرتاش سيبقى في السجن طالما أنه يحكم تركيا.

في المقابل، كان خطاب الكراهية الذي لجأ إليه كليجدار أوغلو في الجولة الثانية مكرراً ولا تأثير له ولا يقارن بخطاب أردوغان من حيث خداع الجمهور بأن خطراً كبيراً ينتظر البلاد. أطلق تصريحاتٍ عدوانية ضد الحركة السياسية الكردية لمجاراة أردوغان في ذلك من دون جدوى لأنه ليس الأفضل في هذا الجانب مقارنةً بالسلطة الحالية. تبين أن تراجع كليجدار أوغلو عن خطاب الجولة الأولى مؤشرٌ خطير على سهولة الاستثمار في خطابات التصعيد والكراهية والاستقطاب الاجتماعي الداخلي، لدرجة أن طرفي العملية السياسية يدفعان بالمجتمع إلى ما يشبه حرباً أهلية مؤجلة، أو يدفعان بالجماهير للتصرف كسلطة؛ مرة كسلطة ضد الكرد في خطاب حزب العدالة والتنمية، وهو ما تُرجم إلى حوادث قتل واغتيال لمدنيين كرد في شوارع المدن التركية، من بينهم مغنٍ شعبي قُتل لرفضه طلب قومي تركي غناء «أموت في سبيل تركيا»، ومرة كسلطة ضد اللاجئين السوريين في خطاب المعارضة. الطرفان يدفعان المجتمع لإدارة المخاطر المتخيلة على الدولة، وكان هذا انحداراً سياسياً وأخلاقياً وقعت فيه المعارضة في الجولة الثانية.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد