دمشق وأنقرة: التطبيع المر

شورش درويش

نفترض في هذه المادة بقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الحكم بعد فوزه في الجولة الثانية وتداعيات هذا الفوز على عملية التطبيع التي دشّنتها موسكو بين دمشق وأنقرة نهاية العام الفائت، وكيف ستستمر الرعاية الروسية لهذا البرنامج رغم اصطدامه بالأغراض التوسعيّة للتحالف الحاكم.

واحدة من المميّزات الشخصية للرئيس التركي هي مواظبته جهد المستطاع على العناد في بعض المسائل السياسية، إذ لا يمكن فصل الذاتي عن الحكومي في ظل حكم الرجل الواحد ومضي تركيا نحو نظام تسلّطي. هذا العناد، وإن خفت وهجه في ما سمي مرحلة الاستدارات التركية، التي بدأت منذ عام 2015 وحتى قبل قليل من موعد الانتخابات التركية الحاسمة، باشر بالصعود إلى السطح مجدداً مع تجدد آمال الرئيس التركي في البقاء بالسلطة، وتمظهره في قضية اللاجئين السوريين والعودة مجدداً إلى اسطوانة “مكافحة الإرهاب”؛ فقد صرّح أردوغان لمحطة CNN بعد تقدّمه على منافسه كمال كليجدار أوغلو في الجولة الأولى أنه يرمي من التطبيع مع دمشق إلى “محاربة الإرهاب” بمعنى أنه بات يحصر المسألة في إطار أمني، وأنه لازال مصرّاً على تصوّراته السابقة فيما خص مصير اللاجئين عبر إعادة مليون منهم إلى الأراضي السورية (وليس إلى مناطقهم) وذلك بالاعتماد على مشاريع إسكان كانت قد بدأتها حكومته داخل الأراضي السورية مطلع عام 2022، والتي بلغت ذروتها مع تدشين 62 ألف منزل مصنوع من الطوب في محافظة إدلب السورية، أما عدد المساكن هنا فتبقى في عهدة الحكومة التركية التي تبرع في المبالغات والتلاعب بالحقائق، ولئن كانت الغاية المتوخاة من التطبيع إعادة اللاجئين عبر القنوات الرسمية للبلدين، فإن الترجيح هو اعتماد تركيا على صيغة الأمر الواقع والمضي في بناء المستوطنات، ما يعني أن حاجة أردوغان للتطبيع قد تتراجع.

التراجع عن منحى الاعتماد على العمل الدبلوماسي فيما خص إعادة اللاجئين عبّر عنه أيضاً وزير الداخلية سليمان صويلو، بكلمات تعكس مفهوم الحكومة التركية لمسألة اللجوء ولموقع الشمال السوري، وبالتحديد حلب. يرى صويلو أنه لا يمكن إرسال السوريين إلى “الموت”، فيما حلب ما تزال واقعة ضمن أراضي “الميثاق الملي”، بالتالي فإن اللاجئين هم مواطنون أتراك بالضرورة، هكذا إذاً تعود الحكومة التركية إلى بدايات التدخل في سوريا التي اتسمت بكل جلف واحتقار لمبادئ لقانون الدولي واحترام سيادة سوريا وحدودها حيث ما تزال حلب مدينة تركية وفق مخيال التحالف الحاكم الذي يبدو أنه لا يقتنع بحدود جمهورية 1923، وأن مهمته السامية باتت تكمن في تصحيح أخطاء التاريخ!

يمكن قراءة الذاتيّ في مشروع أردوغان التوسّعي ورفضه البقاء ضمن أراضي اتفاقية لوزان 1923 وإصراره على العودة إلى أراضي الميثاق الملّي بأنّه يأتي في سياق نظرية “قتل الأب” لسيغموند فرويد، إذ يسعى الابن – أردوغان – للتخلّص من الأب – أتاتورك – الذي توقّفت جمهوريته عند حدود لوزان، وإثبات أن الابن بمقدوره تخطّي ظلال الأب الطويلة عبر استعادة الأراضي التي فشل في استعادتها الأب. هذه المسألة الجوهرية تنسف أسس التطبيع بين دمشق وأنقرة والذي هو انسحاب تركيا من الأراضي السورية المحتلّة.

كان لاشتغال المعارضة التركية على ملف اللاجئين ورفعه إلى مصافي المسألة الأهم في التحدي الانتخابي،  أن دفع حكومة أردوغان إلى قبول الصيغة التي اقترحتها موسكو فيما خص التقريب بين أردوغان والأسد عبر الخوض في لقاءات لا يمكن استشراف مآلاتها أو أين سينتهي بها المطاف نجاحاً أم فشلاً، فيما المهزلة في أن تتولّى تركيا دور الوصيّ على السوريين، تقترح وتفرض وتناور وتناقش مسائل السوريين الداخلية.

الغالب على الظن أن انتصار أردوغان في الجولة الثانية سيعزز منهجه العدائي تجاه الكرد السوريين، ذلك أن كلمة السر في مواصلة تقدّم أردوغان وحزبه في الانتخابات مبنيّ على شكل تعاطيه مع القضية الكردية في تركيا وسوريا والعراق، ولعل تحالفه مع الاتجاهات القومية المتطرّفة (حزب الحركة القومية) يحول دون أي شكل من أشكال السلام مع الكرد داخل وفي أرجاء تركيا. كما سيفاقم انتصاره من المشكلات الناجمة عن كراهية اللاجئين وزيادة الاستقطاب الداخلي، ومعلوم أيضاً أن أردوغان الذي تحصّل على مكاسب سياسية جراء الاستثمار في مسألة اللاجئين قد يعيد عصر هذه الورقة لاسيما في مواجهة أوربا أو لفرض إرادته على شكل الحل في سوريا ، وربما يجدد الخطاب الرامي إلى تكريس تركية الأراضي السورية المحتلّة أو تحويلها إلى دويلة ملحقة بتركيا (دويلة حزام) شبيهة بالكيان الذي أقامته إسرائيل في جنوب لبنان. مجموع هذه التصوّرات عن نهج الحكومة التركية المجرّب في الأزمة السورية يقودنا إلى احتمالية تعطيل التطبيع، أو لنقل قتل الوقت للوصول إلى أفضل مكاسب يمكن أن تحققها السلطة التركية على حساب سوريا ومستقبلها.

في إزاء احتمال تهدّم مسار التطبيع، تقف روسيا طرفاً يسعى إلى إنجاح هذا المسار، أو لنقل عدم إعلان وفاته في أي لحظة محتملة، فيما تعرف تركيا وروسيا أن الوشائج التي أقيمت بين الرئيسين أردوغان وبوتين، وحاجة الأخير لحياد تركيا المؤذي للبيت الأطلسي في أوكرانيا، يجعل من الملف السوري ثانوياً لموسكو قياساً إلى أوكرانيا، وهو ما يمنح أردوغان حرية التنصّل من مسار التطبيع بعد فوزه في الانتخابات، والتراجع تالياً عن حماسته للقاء الأسد.

في الواقع ثمة استفادة كبرى تحصّلت عليها كلاً من أنقرة ودمشق منذ الإعلان عن التطبيع نهاية العام الفائت رغم أن العاصمتين كانتا تنظران إلى التطبيع بوصفه كأساً مُرّة لا بد من تجرّعها، فقد خففت اللقاءات من وهج الاعتراض الداخلي على سياسة أردوغان السورية، وتصوّر الناخب التركي أن طي ملف اللاجئين بات مسألة وقت ستنتهي حال الوصول إلى اتفاق بين الأسد وأردوغان. فيما حثّت رغبة تركيا في التطبيع دولاً عربية تقاطرت إلى دمشق بغرض إعادة العلاقات واستعادة النظام السوري تالياً لمقعده في الجامعة العربية. يبدو أن دول الخليج، عدا قطر، لم تنتظر ما سيؤول إليه مسار التطبيع التركي، كما تأكدت من أن طريقها إلى التطبيع ممهد طالما أن واشنطن لم تعترض بشكل حاد على خطوات تركيا، وبذا استفاد النظام السوري من خطوة تركيا التي سبقتها خطوات العرب.

بطبيعة الحال تستند هذه القراءة على افتراض فوز أردوغان في الجولة الثانية، في حين أن فوز منافسه كليجدار أوغلو سيعني في الغالب إيجاد برنامج مختلف للتطبيع بين دمشق وأنقرة أخرى لم تتورّط في مستنقع الحرب السورية، ولم تكن طرفاً في تعميق أزماتها.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد