تركيا الامبراطورية: حاملة الطائرات مقابل الخبز والحرية!

طارق حمو

في تحليل سابق له، آني ومتوافق تماماً مع الحاضر، حول طريقة تفكير الدولة التركية حيال القضية الكردية، قال مراد قره يلان رئيس لجنة الدفاع في حزب العمال الكردستاني، بأن الذهنية التركية التوسعية لاترى تركيا في الإطار الجغرافي والسياسي الحالي منتصرة ومستقرة، بل لديها شعور دفين بالغبن والمظلومية التاريخية، لأن تركيا كانت سابقاً أكبر وأكثر سيطرة واستحكاماً بشعوب وأرض المنطقة، عندما كانت سلطنة عثمانية، تقود جموع المسلمين وتتحكم بأرضهم ومصائرهم!. ومن هنا، فإن تركيا لاترى في معاهدة مثل “لوزان”، أقرّ لها وجودها السياسي والجغرافي، وشرعّن كينونتها الحالية على جسد الشعب الكردي ووطنه كردستان، انتصاراً كاملاً وميلاداً يستحق التمجيد، بقدر ما تراه “انتكاسة ومظلومية تاريخية” وتجزئة لما تعتبره حقها في “الميثاق الملي” الذي يطالب بثلث مساحة كل من سوريا والعراق!.

وهذا الشعور لا يجده المرء فقط في أوساط الإسلاميين الأتراك، أو دعاة “العثمانية الجديدة”، بل يكاد يكون مسلمّة لدى جميع مؤسسات الدولة التركية من جيش واستخبارات وخارجية وقوى سياسية، فالجميع متفق على دور تركيا القيادي المستنبط من التاريخ الامبراطوري وتراث السطوة، سواء كان الأمر يتعلق بالعالم الإسلامي/ السلطنة العثمانية، أودول البلقان/ التوسع الاستعماري في القارة الأوروبية، أو الخطاب تجاه الجمهوريات التركية السوفياتية السابقة/ العالم التركي، بقيادة أنقرة!.

الذهنية والمرجعيّة، وعليه التصرف والفعل السياسي، متأتية من هذا المخيال الامبراطوري في دور أكبر وحجم أكبر و”مهمّة قيادية” لدولة تجد نفسها محتجزة و”محشورة” في جغرافيا صغيرة، لا تليق بها ولا بالماضي الذي كانت عليه!. ومن هنا نجد الرغبة والإرادة، التي ربما كانت ضامرة زمناً ما، في التدخل والتمدد التركي في العديد من دول الجوار والمنطقة، ومحاولة إحياء ــ والبناء على ــ العصبيات القومية (المنصهرة، والمندثرة، التركمانية مثالاً) والطائفية (السنيّة) باختيار دول غارقة في الحروب الأهلية، وآخذة في التفكك والانقسام، للتدخل فيها وتشييد القواعد العسكرية وتدريب وتأهيل الميليشات الخارجة على القانون، وكل هذا من خلال تسويق خطاب امبراطوري كولونيالي وتوسعي، في الداخل والخارج، يمنح المواطن التركي شعوراً بالعظمة والاقتدار، ويخلق لديه ثابتاً عقائدياً ووطنياً بأن دولته مازلت هي صاحبة “الرسالة”، وهي “المركز” الذي لا ولن يسمح لبقية أطراف الامبراطورية بالتشظي والضياع، وأن لتركيا الحق والأولوية في التدخل في أي بقعة كانت عائدة لها، وهي الآن تضطرب ويتقاتل أهلها، فتكوّن فيها حضوراً، بغية الحفاظ على مصالحها، ومحاولة إلحاقها بالمتخيل الامبراطوري وميثاقه الملي المفترض.

ولعل خير من يمثل ذهنية التوسع والاحتلال، ويتعهد بتحقيق المخيال الامبراطوري ومشاريعه ( العثمانية الجديدة، أو الميثاق الملي، أو الوطن الأزرق، أو العالم التركي الممتد من بلغاريا إلى سور الصين) هو حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا منذ 2002، والذي يسعى في هذه الأيام إلى تحقيق الفوز في الانتخابات الرئاسية، والحصول على “تجديد للبيعة” من المواطنين، لمنحه التفويض الجماهيري، لمواصلة برامجه وخططه واستراتيجياته الرامية للتوسع والضم والاحتلال وتحويل تركيا إلى قوة دولية وقطب عالمي، قوي ومقتدر، متحفز وغاشم!. وكان لهذا الخطاب في استنهاض الهمم القومية لدى الشعب التركي، الأثر البالغ، من خلال حصول حزب العدالة والتنمية (بقيادة رجب طيب أردوغان) وحلفائه في حزب الحركة القومية العنصري (بقيادة دولت باخجلي)، على الأغلبية البرلمانية، وبالتالي منحهما الحق في الاستمرار على النهج القديم في ممارسة السياسية، خارجياً: من خلال الاحتلال العسكري، واشاعة الفوضى ودعم الإرهاب، وداخلياً: خنق القوى الديمقراطية وسحق الشعب الكردي، والنيل من قوته السياسية والتنظيمية، وحتى حضوره الديموغرافي في الولايات الكردية، التي ترى فيها الدولة حاضنة لفكر حزب العمال الكردستاني، ويسودها الشعور القومي الناهض والوعي السياسي المتقدم.

وترى الدولة التركية، ممثلة بتحالف العدالة والتنمية والحركة القومية، في خضم مساعيها في بناء امبراطورية “الميثاق الملي”، أولى المهام “الوطنية العاجلة” في القضاء على الحراك السياسي الكردي، وسحق الوعي القومي التقدمي لدى الكرد. فالدولة، وهي تسوق للمشاريع التوسعية الكبرى، لا تحتمل أي مطالب سياسية وتشاركية من الكرد، وتعتبر ذلك إرهاباً يجب القضاء عليه بكل السبل. والدولة تعتبر الكرد هم العقبة الداخلية الأكبر تجاه تحقيق “تركيا الكبرى” ذات اللون الأحادي القومي العنصري التوسعي، فهم هنا قاطرة التغيير وروّاد الدمقرطة. هم من يريدون التعددية والديمقراطية الحقيقية ودولة القانون والمؤسسات. وهم من يطالبون بدولة الهويات الوطنية، ويتحدثون عن حقوق المكونات ولغاتها وحضورها الثقافي والمناطقي. وهم المنظمون سياسياً، والممثلون في البرلمان، وبالتالي لديهم القوة والشرعية في التصدر بخطابهم من قلب إحدى أبرز مؤسسات الدولة وفضح حقيقة ونتائج مشاريع التوسع والاحتلال، وما تعنيه وتخفيه من تبعات كارثية على المواطن التركي العادي، وعلى الحقوق والحريات والديمقراطية في تركيا الدولة. إنهم نواة تحالف الرافضين لمشاريع التدخل والتوسع الخارجي لصالح الدولة الوطنية المنشغلة بمشاكلها وبتطوير الديمقراطية والحريات وتوطيد دولة القانون والحقوق الفردية لمواطنيها. ومن هنا يستهدف تحالف حزب العدالة والتنمية والحركة القومية، والذي بات تحالفاً فاشياً يعمل خارج القانون الوطني والدولي، ويعتمد الإرهاب والتصفية، الكرد بالدرجة الأولى، ويحاول أن يجيير كل قوى وامكانات الدولة العنفية والباطشة للنيل منهم وازاحتهم من المشهد.

كذلك يقوم التحالف الحاكم، ممثل ذهنية “الاتحاد والترقي” القائمة على القتل والابادة كسبيل للتوسع وتوطيد دولة العنصر القومي الاحادي والأوحد، على اقصاء القوى الديمقراطية التركية، ووسم الخصوم بالمتآمرين والخونة، ممن تطلق عليهم وسائل إعلام السلطة ( وهي، للتذكير، تشكل أكثر من 95% من كل إعلام البلاد) ب”الأدوات”، و”الطابور الخامس المأجور والمدفوع من الغرب”، و”الاتجاه البروتستانتي الصهيوني” في أميركا ( كما قال رجب طيب أردوغان ذات مرة)، وهدفها كلها هو تركيع تركيا ومنع تحولها لدولة عظمى وقطب دولي مؤثر!. يتم وسم هؤلاء، وفي المقدمة منهم الكرد، بكل الصفات الشريرة، وتلجأ السلطة للطعن في وطنيتهم وتخوينهم وإخراجهم من الصف الوطني، كمقدمة أولى لتصفيتهم والقضاء عليهم، كما جرت العادة في السردية الفاشية النازية المعروفة: تخوين الخصم وتسفيهه، ووضع جدواه محل التساؤل، ومن ثم تصفيته معنوياً وفكريا، كمقدمة لتصفيته جسدياً!.

وتضم لائحة ممن صنفهم التحالف الحاكم في تركيا بالأعداء وخونة الوطن، بالاضافة إلى الكرد وممثلهم السياسي حزب اليسار الأخضر/ الشعوب الديمقراطي، القوى والحركات السياسية المنافسة ( وهي ليست ديمقراطية تماماً، وباتت تزايد الآن على التحالف الحاكم في الشحن القومي ونشر خطاب الكراهية والعداء للكرد واللاجئين والمرأة والأقليات الدينية والمذهبية والعرقية)، بالاضافة إلى جهات/ شخصيات كانت في يوم من الأيام قيادية ومن “عظام الرقبة” في حزب العدالة والتنمية، وانقلبت، كل لسبب يخصه، على أردوغان ونزعته الديكتاتورية الأوليغارشية الفاسدة: الرئيس السابق عبد الله غول، ورئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو، والوزير السابق علي بابا جان، وفتح الله غولن. فالمقتضى في الحزب الفاشي: إن من يخرج عن الصف خائن وعميل، ومن يرفض ديكتاتورية الزعيم الأوحد ويخرج عليه، يجب النيل منه و”تحييده”!. وعليه فلا غرابة بأن كلمات مثل “تحييد الخصم سياسياً” و”القتل السياسي”، باتت تتكرر على لسان شخصيات كبيرة في السلطة، على رأسها أردوغان وبغجلي، بالاضافة طبعاً إلى وزير الداخلية ورجل المهمات القذرة، سليمان سويلو.

والحال ان هذا الخطاب في الشحن والتحريض والتخوين إزاء أعداء متوهمين في الداخل والخارج، قد فعل فعله مؤخراً في الانتخابات البرلمانية. لقد نال تحالف حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية العنصري، الأغلبية البرلمانية، وبذلك انتصرت لدى المواطن التركي، أو هكذا يبدو، سرديات الخطاب الشعبوي والعنصري، ووجد لديه سوق رائجة لبضائع أردوغان وباغجلي التي خاطبت غرائزه وشعوره القومي، وأوهمته بحقيقة وواقع العظمة المتخيلة التي يعيشها، رغم تعاسة وبؤس الحالة المعاشية والاقتصادية والصحية والتراجع الشامل، وفي كل المجالات، فصوّت هنا للوهم، مهملاً الحقيقة والواقع المعاش. صوّت المواطن المشحون والمصادر لحاملة الطائرات والمفاعل النووي وحقول الغاز العملاقة، والقصور السلطانية ذات الألف حجرة وحجرة، والسيارة وطنية الصنع، والطائرات المسيّرة، ولم يصوت لخبز يومه ولا لصناعة الدواء، وبناء المدرسة والمشفى، وتوطيد دولة القانون والعدالة والمساواة التي تحارب الفساد والرشوة ونهب المال العام. لقد صوّت المواطن لدولة حكم الفرد والعائلة، وحالة الطوارئ ومصادرة الحريات وملء السجون والمعتقلات، ولم يصوّت لحريته. لقد صوّت لدولة التعبئة و”كل شيء من أجل المعركة المصيرية” التي ترى في حقوق وحريات المواطن ولقمة عيشه، أموراً صغيرة وتافهة، ينبغي التضحية بها في سبيل تحقيق المزيد من العظمة والتوسع للدولة الامبراطورية المتخيلة وتحقيق المزيد من المكانة والغنى والنفوذ والحضور، وعمراً سياسيا أطولاً، للقائمين عليها…

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد