تداعيات نتائج الانتخابات على مسار التطبيع بين أنقرة ودمشق

شورش درويش

تحدّد هوية الفائز في الانتخابات الرئاسية شكل التطبيع المستقبلي بين أنقرة ودمشق، ذلك أن دمشق تفاضل بين لونين من التطبيع، يتمثل الأول في استكمال الخط الذي بدأته أنقرة معية روسيا وأشركت فيه إيران لإضفاء مزيد من الثقة على عملية التطبيع، فيما التطبيع الآخر فمتخيّل ويقوده كمال كليجدار أوغلو حال وصوله لسراي الحكم، ولعل ما رشح عن برنامج التطبيع غير المكتمل للمعارضة يفيد بأن بوصلته ستكون إعادة العمل الدبلوماسي بين أنقرة ودمشق وأن جوهره يكمن في ملف إعادة اللاجئين. ويقوّي من تفعيل هذه العلاقة الاتصالات المستمرة بين حزب الشعب الجمهوري ودمشق والتي لم تنقطع في أحلك الظروف التي عصفت بدمشق منذ عام 2011.

مماطلة دمشق الوصول إلى لقاء على مستوى رئيسي البلدين رغم إلحاح تركيا على ذلك وتوسط روسيا، فُهم أنه تريث مبنيّ على معطيات جديدة ستظهر ليلة 14 أيار/ مايو الحالي، ولأجل ذلك لم يمنح بشار الأسد أردوغان شرف نيل “اللقطة” والظهور أمام الكاميرات بأنه رجل السلام، أو الزعيم الذي يعادي ويصالح دون أن يُحاسب، كما أن رفع أسهم أردوغان في مقابل مرشح المعارضة سيكون خطأ حسابياً لا يريد الأسد الوقوع فيه.

على مدى الأشهر الماضية حاولت تركيا وعبر لقاءات موسكو الإيحاء بتقدّم المفاوضات بينها وبين دمشق بوساطة الروس، دون أن يرشح عن اللقاءات ما يفيد بالتقدم سوى العبارة الثابتة التي تقول بأن المحادثات “كانت إيجابية”. جاء رفع تركيا لسقف التوقعات المرجوة من المباحثات إلى مستوى انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية على ما قاله وزير الخارجية التركية في وقت أسبق، إلّا أن هذا الإغراء لم يزد من حماسة النظام السوري، إذ تعرف دمشق أن هذه التصريحات غير جدية وأنها تأتي في سبيل انتزاع أردوغان لورقة اللاجئين من يد منافسيه في المعارضة ليس إلّا.

السيناريو الأمثل لدمشق يكمن في انتصار المعارضة ووصول كليجدار أوغلو لسدّة الحكم، على ما يؤمّنه ذلك من تطبيع أخفّ وطأة وأقل مماطلة من ذاك الذي قد ينتهجه أردوغان؛ ففي الميزان، وعلى عكس أردوغان يريد كليجدار أوغلو إغلاق الأبواب التي هبّت منها المشكلات، وأوّلها الأزمة السورية التي أمست مشكلة داخلية تركية وسبباً في الانقسام الداخلي لاسيما ملف اللاجئين وسياسات التوسّع الخارجي بذريعة تعقّب التطلّعات الكردية، وإذا كانت سياسة “صفر مشاكل” مطلع حكم العدالة والتنمية والتي تخلّى عنها أردوغان لصالح مشاريع التغيير بالقوة والتوسّع عبر الحروب المباشرة، تسببت في عوائد سياسية واقتصادية وتنموية كبيرة وقتذاك، فإن استعادة هذه السياسة ستكون أكثر إمكاناً حال وصول كليجدار أوغلو للسلطة وربما اقتباسه تالياً شعار أتاتورك “سلام في الوطن، سلام في الخارج”، هذا فوق أن تصفير المشاكل ما عاد ممكناً أردوغانياً، إذ إن الأصل في استعادة هذه السياسة هو الثقة بالحكومة التركية وهذا ما باتت تفتقده تركيا رغم كثرة استداراتها التي نمّت عن كثرة أخطائها.

فيما يتمثل السيناريو الأسوأ لدمشق بقاء أردوغان في السلطة، على ما يحمله ذلك من “لف ودوران” وتسويف وعدم انسحاب من الأراضي السورية والإبقاء على دعم جماعات المعارضة المسلحة، ولعل أحد أبرز ما سيعيق التطبيع هو تفرغ أردوغان لحملة التأديب الداخلية والانتقام من معارضيه وإطباق سيطرته على مفاصل الجمهورية، أو ما تبقّى منها، هذا المسار سيحيي “العُظام” الذي يعانيه أردوغان وتحالفه الحاكم وبالتالي سيبقى على سياسة التوسّع في المنطقة مفتوحة، وقد يعزز من درجة أحزمته الأمنية/الاستيطانية في الشمال السوري.

وعلاوة على طلبات أنقرة فيما خص التعاون مع دمشق في سبيل الحرب على شمال شرقي سوريا، وهو طريق لا تحبّذه دمشق، ذلك أنها قد تصل بوسائل غير عسكرية إلى تسوية ما مع الإدارة الذاتية في نهاية المطاف فلمَ سيضطر النظام إلى استعداء الكرد في ظل التواجد الأمريكي في المنطقة، وهو أيضاً خيار لا تحبّذه روسيا التي حافظت منذ أواخر عام 2019 على تخفيض الصراع على شرقي الفرات.

بكلمات أخرى: يتوقف التطبيع القادم على ملف إعادة اللاجئين. وعلى مستقبل الترتيبات الأمنية التركية-السورية، وفي هذه النقطة ثمة احتمال، في حال فازت المعارضة، بأن يتحوّل حزب اليسار الأخضر (الشعوب الديمقراطي) إلى المادة اللاصقة للعلاقة بين كليجدار أوغلو وقوات سوريا الديمقراطية؛ فالتفاهم بين كرد تركيا وكليجدار أوغلو سيحتم على الأخير البحث عن بدائل للحرب والتهديدات، وبالتالي قد تصبح الصيغة الأنسب هي تحويل مستقبل كرد سوريا إلى قضية داخلية سورية بين دمشق والإدارة الذاتية، وهو ما سيريح الإدارة التي إذا تخففت من الضغوط التركية قد تذهب إلى حلول أفضل مع دمشق.

عكس ذلك هو الذي سيحصل إذما فاز أردوغان، إذ يقوم تصوّره على فكرة مؤدّاها تشكيل جبهتي حرب: تركية مشفوعة بمليشيات المعارضة الموالية لها، وجبهة تقودها دمشق للإطباق على الإدارة الذاتية، نظراً لاستعصاء قيامه منفرداً بشن حرب جديدة. مثل هذا السيناريو، والتعاون بين قوات النظام والمليشيات، فوق أنه مستحيل إلّا أنه لا يخدم مصالح دمشق حتى وإن شغّلت أنقرة كل المعارضة كمرتزقة داخل الحدود بعد أن شغلتها خارج سوريا، إذ إن دمشق تعرف أن إحلال مليشيات “الجيش الوطني” مكان قوات سوريا الديمقراطية هو فخ تركيّ وعبث تركي آخر واقتطاع جديد للأراضي السورية.

نتائج الانتخابات التركية سترسم لوحة فائزين وخاسرين سوريّة أيضاً، هذا ما تعرفه الأطراف السورية جميعها، وهو ما يجعل هذه الانتخابات الحاسمة حدثاً سورياً. والحال أن قطار التطبيع متوقّف في محطة الانتخابات، فيما وجهته المقبلة تبقى محط توقّعات مستمرة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد