محمد سيد رصاص
انبنت فكرة الدولة التركية الحديثة على خط جغرافي حددته اتفاقية استسلام الجيش العثماني للحلفاء في اتفاقية مودروس في 30 تشرين الأول/أوكتوبر1918،حيث أن (الميثاق الملي)، الذي تبناه مجلس المبعوثان العثماني في يوم 28 كانون الثاني/يناير1920 بدفع من مصطفى كمال الذي كان قد بدأ قبل ثمانية أشهر حربه العسكرية ضد القوات البريطانية والفرنسية واليونانية التي تمدّدت إلى أبعد من (خط مودروس)، يقول أن “المناطق ذات الأغلبية المسلمة التركية غير المحتلة ضمن حدود اتفاقية مودروس تعتبر وطناً للأمة التركية”، وقد كان (الميثاق الملي) سبباً في احتلال البريطانيين لإسطنبول عبر البحر وفي هجوم اليونانيين من مناطق سيطرتهم عند الساحل الشرقي لبحر إيجه على الأناضول الغربي، وهو مادفع الدولة العثمانية إلى عقد معاهدة سيفر في 10آب/أغسطس1920 تحت ضغط تلك التطورات العسكرية، وهي معاهدة رفضها مصطفى كمال.
بين (الميثاق الملي) و(سيفر) هناك مساحة شاسعة، حيث في الميثاق الملي هناك خط أنطاكية- إدلب- حلب- الرقة -القامشلي – الموصل – إربيل- كركوك- السليمانية “ضمن جنوب وطن الأمة التركية” وفي الشمال مدن باطوم من جيورجيا وفارنا من بلغاريا وسالونيك في اليونان زائد جزر بحر إيجة وجزيرة قبرص، بينما في (سيفر) هناك خط الحدود التركية-السورية، حيث وقعت فرنسا نيابة عن سوريا بوصفها دولة انتداب، الذي يبدأ من بلدة كاراتاش شرق مرسين ويشمل ضمن الأراضي السورية بلدات ومدن جيهان وعنتاب وأورفة وماردين وجزيرة بوتان وهناك الحدود الحالية مع العراق (بلاد الرافدين حيث تم إنشاء الدولة العراقية عام 1921) ومع إيران وأرمينيا وجيورجيا وبلغاريا واليونان كما أن المادة 62 من معاهدة سيفر تقول “أن اللجنة المؤلفة من أعضاء ثلاثة تعينهم الحكومات البريطانية والفرنسية والإيطالية يجب أن تضع خلال ستة أشهر من سريان هذه المعاهدة خطة للحكم الذاتي المحلي للمناطق ذات الغالبية الكردية الواقعة شرق نهر الفرات وجنوب أرمينيا وشمال الحدود المحددة مع سوريا وبلاد مابين النهرين وفقاً لهذه المعاهدة في المادة 27 بفقرتيها الثانية والثالثة الخاصة بالحدود الآسيوية لتركية”، وفي المادة 63 نجد “أن الحكومة التركية توافق وتقبل قرارات اللجنة المشار لها في المادة 62 خلال ثلاثة أشهر من إبلاغها بالقرارات” ثم نجد في المادة 64 أنه “إذا قام الناس الكرد في المنطقة المحددة من المادة 62 خلال سنة من دخول هذه المعاهدة حيز التنفيذ بمخاطبة مجلس عصبة الأمم بطريقة تظهر بوضوح رغبة غالبية السكان في هذه المنطقة بالاستقلال عن تركيا، وإذا اعتبر المجلس عندئذ بأن هؤلاء هم قادرون على استقلال كهذا بحيث يعطى لهم وفق توصيته،فإن على تركية عندئذ أن توافق على تنفيذ هذه التوصية وأن تتنازل عن كل الحقوق والادعاءات بهذه المنطقة.
إن التدابير التفصيلية للتخلي التركي عن هذه المنطقة يجب أن توضع في اتفاقية منفصلة بين القوى الحليفة وبين تركيا في حال حصول هذا التخلي التركي فإن قوى الحلفاء لن تثير أي اعتراضات على الاندماج الطوعي للكرد القاطنين في ولاية الموصل مع الدولة المستقلة للكرد”.
تقلصت المسافة في اتفاقية أنقرة الموقعة في 20 تشرين الأول/أوكتوبر1921بين الحكومة الفرنسية وبين الحكومة المنبثقة عن (الجمعية الوطنية الكبرى) التي كان قد أعلنها مصطفى كمال في أنقرة بيوم23نيسان/إبريل1920بناءً على إعلان الميثاق الملي ومستبدلاً بها مجلس المبعوثان.
هذا التقلص أكسب تركيا ثمانية عشر ألفاً من الكيلومترات المربعة من الأراضي السورية المحددة في (سيفر) حيث جعلت اتفاقية أنقرة الحدود التركية – السورية في وضعها الحالي مع لواء الاسكندرون (المادة 8) والذي أعطته وضعاً خاصاً ضمن الأراضي السورية من الناحية الإدارية كمقاطعة سورية مع تسهيلات ثقافية للأتراك القاطنين هناك ومع اعتراف باللغة التركية لغة رسمية إضافية بالمقاطعة (المادة 7).
هذا التقلص للمسافة في معاهدة أنقرة كان سببه الضغط العسكري الذي مارسه مصطفى كمال على الفرنسيين الذين وصلوا لجنوب الأناضول، وقد استعان في ذلك للضغط على الفرنسيين بمقاومين سوريين للفرنسيين في سوريا، بينما مصطفى كمال شعر بالحاجة للتنازل للفرنسيين من أجل التفرغ لمجابهة اليونانيين في ساحل بحر إيجه وغرب الأناضول، فيما باريس كانت تفكر بخط إمداد لقواتها في سوريا ولبنان عبر سكة حديد من باريس لبيروت تمر عبر تركيا مما جعلها تشعر بالحاجة لإرضاء الأتراك.
ولكن مصطفى كمال بعد انتصاره العسكري على اليونانيين في خريف عام 1922 كان طموحه مع إلغائه للدولة العثمانية في 1تشرين الثاني/نوفمبر 1922 مع إبقاء الخلافة أن يعود ويفرض (الميثاق الملي) في مفاوضات لوزان (تشرين الثاني/نوفمبر1922- 24تموز/يوليو1923) وهو ماسعى إليه مندوبه عصمت إينونو ولكنه فشل أمام إصرار الحلفاء حيث رسمت حدود تركيا في لوزان وفق الحدود الحالية ناقص لواء الإسكندرون وقد قامت الجمهورية التركية في 29 تشرين الأول/أوكتوبر1923على أساس لوزان بعد ثلاثة أشهر من توقيع تلك المعاهدة التي اعترفت فيها الجمهورية الجديدة بحدودها القائمة مع دول الجوار بما فيها سوريا وضمنها لواء الإسكندرون وأقرت بالمعاهدة في المادة 16 “بالتخلي عن كل الحقوق والملكيات مهما كانت فيما يخص الأراضي الواقعة خارج الحدود المرسومة في هذه المعاهدة”.
عملياً كانت معاهدة لوزان تعني تخلي مصطفى كمال عن الميثاق الملي .هذا التخلي هو الذي أنشأ وولّد العقدة الجغرافية عند الأتراك. هذه العقدة،التي أصبحت عقدة نفسية جماعية تميز القومية التركية، وهي الرحم الذي يولِّد النزعة التوسعية التركية في دول الجوار، ولكنها تبقى عقدة نفسية جماعية انبنت طموحاتها على لحظة هزيمة وانكسار واستسلام وتحلل لدولة كان يسيطر عليها الأتراك، ومما له دلالة على هذه العقدة أن يكون الطموح القومي التركي كماهو مبين في (الميثاق الملي) مبنياً على خط رسمه اتفاق الاستسلام والهزيمة في جزيرة مودروس ، ولكنهم لم يستطيعوا تحقيقه كسقف للتوقعات من خلال محطة (لوزان) التي اضطر صاحبها التركي لأن يبلع طموحاته التي أعلن عنها في (الميثاق الملي).
هذه النزعة التوسعية كان أول مظاهرها في أزمة ولاية الموصل التي أسقطت تركيا في كانون الأول/ديسمبر1925مطالباتها بها وربما كان وضعها المضطرب بعد الثورة الكردية بقيادة الشيخ سعيد بيران (آذار1925) قد ساهم في هذا التراجع. كان ثاني مظاهرها في سلخ لواء الاسكندرون1937-1939وثالثها في احتلال شمال قبرص عام1974وخامسها في نزاعها مع اليونان حول جزر بحر إيجه منذ السبعينيات وسادسها في غزوها لمنطقة جرابلس – الباب- إعزاز عام2016 ثم غزو عفرين عام 2018 ثم تاسعاً غزوها وسيطرتها على خط تل أبيض- رأس العين (سري كانيه)عام2019، وعاشرها سيطرتها عبر وكيلها جبهة النصرة على محافظة إدلب منذ عام 2015، والمظهر الحادي عشر من هذه النزعة التوسعية التركية ما دعاه أردوغان في الخريف الماضي بـ”شريط المنطقة الآمنة”على طول الحدود السورية- التركية بعمق اثنين وثلاثون كليومتراً نحو الجنوب .
يمكن الملاحظة هنا كيف أن النزعة التوسعية التركية تتجه نحو تعديل معاهدة لوزان وعدم القبول بها في اتجاه أراضي تخلّت عنها تركية في تلك المعاهدة وادعت ملكيتها في الميثاق الملي. وهناك تصريحات لمسؤولين أتراك،ومنهم أردوغان،يعتبرون فيها معاهدة لوزان وكأنها “حبساً ” تم سجن وحبس تركيا في قفصه، وهم على مايبدو في تاريخ ما بعد 24تموز/يوليو2023،بمناسبة مئوية معاهدة لوزان، يريدون الخروج من ذلك “الحبس”،ويريد أردوغان القول، إن فاز بانتخابات يوم14أيار/مايو القادم، أنه من خلال تحطيمه لقيود “حبس” لوزان قد استطاع تحقيق (الميثاق الملي)الذي عجز عن تحقيقه أتاتورك.