مبادرة الإدارة الذاتية خطوة باتجاه وطن يتسع للجميع

بشار عبود

لم يسبق لمبادرة حل للأزمة السورية أن أثارت كل هذا الجدل كما حدث مع مبادرة “الإدارة الذاتية” التي طرحتها في 18 نيسان/أبريل الجاري؛ فمنذ اندلاع الاحتجاجات عام 2011، والمشهد السوري يتزاحم بمحاولات إقليمية ودولية، وأيضاً محلية، من أجل إيجاد حل سياسي ينهي الصراع ويكون مقبولاً لدى جميع الأطراف، إلا أنها فشلت جميعها في التقدم ولو خطوة واحدة، الأمر الذي زاد في تعقيدات القضية السورية ومفاقمة البؤس وانسداد الأفق إلى مستويات غير مسبوقة.

لعل أكثر ما يتفق عليه السوريون اليوم، هو الشعور بالخذلان والتخلي عنهم من قبل الجميع، القريب قبل البعيد، والصديق قبل العدوّ، ودول الجوار قبل المجتمع الدولي. هذا الجفاء الدّولي إثر فشله في فرض تسوية ترقى إلى مستوى أوجاع السوريين، يفرض على أبناء البلد تحمّل مسؤولياتهم في البحث عن مخرجٍ لقضيتهم، وبات من الواجب عليهم أن يقدموا أنموذجاً جديداً لحلٍّ قادرٍ على إنهاء الانقسام والانطلاق في البناء، تمهيداً لتقديم السلام لأنفسهم وللشعوب المجاورة. من هذه المسؤولية التاريخية تأتي مبادرة الإدارة الذاتية لتقدم نقاطاً عملية وحلولاً جادّة يمكن العمل عليها وتنفيذها والتفاعل معها لوقف نزيف الدماء ودمار البلد.

الاهتمام الذي حظيت به المبادرة يعكس ثلاثة أمور أساسية: أولها يظهر مدى حضور وتأثير الإدارة الذاتية في المشهد السياسي والعسكري والاقتصادي بين مختلف قوى المعارضة.

الأمر الثاني يشير إلى حجم الثقة التي اكتسبتها هذه الإدارة  بقدرتها على لعب دور محوري في خلاص الشعب السوري ومساهمتها في استقرار عموم المنطقة، لاسيما إثر الجهود الكبيرة التي بذلتها، ولاتزال، قوات سوريا الديمقراطية، في محاربة الإرهاب وعلى رأسها تنظيم داعش.

ثالثاً يؤكد على رغبة السوريين الكبيرة في الخلاص من هذا الوجع اليومي الذي يعيشونه، مُتيقّنين بأن الحل النهائي لقضيتهم لن يكون إلا عبر الحوار الوطني وعلى أيدي سوريين مثلهم يعيشون المعاناة ذاتها ويعرفون سُبل الخروج من شعابها بأقل الخسائر الممكنة.

تستند المبادرة على بنود رئيسية وطنية مهمة، أولها أن سوريا لا تقبل التقسيم، فهي دولة واحدة ديمقراطية ولامركزية، وهذه قضية جوهرية تمسّ مشاعر جميع السوريين بلا استثناء، حيث لا يمكن حل المشاكل التي تعيشها سوريا إلا في إطار وحدة البلاد وتماسكه. ثانياً، كما تشدد على أن ثروات النفط والغاز والحبوب والمياه الواقعة في مناطق الإدارة الذاتية هي من حق جميع السوريين أينما كانوا، وأنه لا بد من الاتفاق على توزيع عادل لهذه الثروات الوطنية. هذا البند أيضاً هو أكثر ما يطمئن السوريين تجاه هذه المبادرة، بحيث يشعر الجميع بأن  لهم حصة في ثروات بلدهم، وأن الإدارة لن تستأثر وحدها بهذه الثروات.

أما الأساس الثالث المهم في هذه المبادرة، فهو في تأكيدها على ضرورة صياغة عقد اجتماعي جديد ينظم العلاقات البينيّة بين جميع مكونات السوريين على أسس واقعية، بحيث يتم احترام الحقوق الثقافية والاجتماعية والدينية لكل مكونات الشعب، وبهذا فإن المبادرة تقطع وبشكل نهائي مع مفهوم إنشاء دولة على أساس قومي، كما يروج لذلك النظام والمعارضة، لاسيما أن المبادرة دعت العرب كي يضطلعوا بدورهم الضروري تجاه الدولة السورية والشعب السوري وعموم القضية السورية وليس تجاه النظام وحده. فيما يشكل الأساس الرابع للمبادرة تأكيداً من قبل الإدارة الذاتية على فتح أبوابها أمام اللاجئين السوريين لاستقبالهم في المناطق التي تقع تحت سيطرتها، وهذا يساهم في حلّ مشكلة المهجرين والنازحين داخل البلاد وخارجها، تحديداً أولئك المتواجدين في تركيا. هذا العمل فضلاً عن أهمّيته بالنسبة إلى وحدة سوريا وفكرة تقاسم الثروات بين أبناء البلد، فإنه يؤكد على أن الإدارة الذاتية الديمقراطية قادرة على صناعة نموذج قابل للتطوير والتحديث بحيث يكون لجميع السوريين عبر صيغة الحكم اللامركزي.

استناداً إلى مثل فارسي قديم: “أن ترمي حجراً في وقته خير من أن تلقي ذهباً في غير أوانه”، فإن المبادرة تأتي في وقتها المناسب، حيث تكاد تنعدم فيه آفاق الحل في سوريا؛ فالمجتمع الدولي الذي أخفق في إيجاد حلّ للقضية السورية، تارة بسبب تعدد اللاعبين على الأرض السورية، وتارة أخرى بسبب تناقض مصالحهم فيها، جعل من مبادرة الإدارة الذاتية فرصة للتأكيد على أن الحلّ لا يمكن أن يكون قابلاً للحياة ما لم يكن داخليّاً سوريّاً، ولا يمكنه الاستمرار إن لم توقّع عليه كل الأطراف السورية، دون إقصاء لأي طرف عن طاولة المفاوضات أو الحوار، ولذلك على كل القوى السورية الأخرى أن تتحمّل مسؤولياتها التاريخية والوطنية في التفاعل والمساهمة والمشاركة مع ما تم طرحه في هذه المبادرة.

الكرة الآن أصبحت في ملعب جميع السوريين بلا استثناء، النظام والمعارضة وقوى المجتمع المدني، ذلك أن المبادرة هي بمثابة ورقة عمل وطنية تم اقتراحها من قِبل طرف وطني سوري (الإدارة الذاتية)، وهذا الطرف، بما يمتلكه من أوراق ضغط متوازنة لإدارة الصراع، قام بتوجيه الدعوة لمشاركة جميع القوى السورية من أجل إنضاج الظروف الداخلية للبلد وتحديد رؤية وطنية وخارطة طريق، تُسهّل البحث عن قواسم مشتركة تساعد السوريين على وضع حلّ سياسي ينتشل الدولة السورية والشعب من كل هذا الخراب. ورغم أن هذا المسار طويل ويحتاج إلى الصبر والعقلانية والبراغماتية في الطرح، وإلى التنظيم والاستفادة من الظروف الإقليمية والدولية التي تخيّم على المنطقة ككل، إلا أنه لا سبيل أمامنا سوى المضيّ به والسير عليه.

في ظل غياب القراءة الوطنية عن أسباب الوجع السوري، وفي ظل انعدام أي مشروع سياسي، اقتصادي، اجتماعي للخروج من الأزمة السورية الخانقة، وفي ظل تخلّي المجتمع الدولي عن مسؤوليّاته تجاه القضيّة السوريّة، حريٌّ بأبناء الوطن الواحد أن يكون لهم موقف تاريخي وكلمة مسؤولة في قضية بلدهم، وأن يبحثوا عن قواسم مشتركة بينهم، وهي كثيرة على أية حال، للوصول إلى تشخيص حقيقي للوضع المأساوي الذي يعيشونه، وهذا من أبسط حقوقهم المشروعة والتي لا يمكن أن ينازعهم أحد عليها؛ فالمبادرة المقترحة، لم تدّع بأنها تعطي إجابات نهائية عن الأسئلة المُلحّة التي يطرحها السوريون على اختلاف مشاربهم وولاءاتهم، وإنما تعطي هامشاً من العمل الوطني المشترك ليقول كل فريق كلمته فيها وبالتالي التوصل من خلالها نحو نهايات تكون مقبولة لجميع الأطراف، أما المقصود بالقول الوصول إلى “تسوية مقبولة” فيعني أن أيّ  تسوية لسوريا المستقبل مهما بلغت حدود طهرانيتها فإنها لن ترضي الجميع، لكن من باب الواقعية السياسية وضرورة البدء بمشروع عمل وطني، فإننا أمام فرصة البدء بالمسيرة الطويلة تجاه اجتراح الحلول وإعادة الإعمار.

واحدة من عيوب العمل السياسي السوري تكمن في التشكيك بالنوايا، إذ إن الأولوية لدى الكثيرين لا تكمن في البحث أو تفنيد المشروع المقترح، بقدر ما تتوجه نحو السؤال عن الجهة التي تقف خلفه وبناء على الموقف من تلك الجهة تُبنى المواقف من المشروع، إلّا أنه يكفي مبادرة الإدارة الذاتية تأكيدها على وحدة كامل التراب السوري، لنبدأ في إعادة ترتيب أولوياتنا والتفاعل مع هذه المبادرة، بما يقودنا نحو وطن يتسع للجميع.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد