بشار عبود
قبل الشروع في معرفة إن كان لنظام الأسد أية رغبة في إقامة مصالحة حقيقية ومتوازنة مع مجلس سوريا الديمقراطية، حريٌّ بنا أن نسأل إن كان له مصلحة بإجراء مثل هذه التصالح مع قوة سورية تتحكم بمناطق مهمة شمال غرب سوريا وتتعامل بندّية معه ولا تزعن لأوامره.
اللقاءات بدأت بين الطرفين في آب 2018، ورغم أنها تعد على أصابع اليد الواحدة إلا أنها لم تنقطع وكان آخرها اللقاء الذي جمع وفد من مسد برئاسة بدران جيا كورد مع وفد من النظام السوري برئاسة اللواء علي مملوك رئيس مكتب الأمن القومي برعاية روسية أواخر شهر كانون الثاني/ يناير الماضي. لكن وكغيره من اللقاءات السابقة يخرج الطرفان من اللقاء دون التوصل إلى حل منطقي يمكن البناء عليه من أجل سوريا المستقبل.
المتحدثون باسم “مسد” يشيرون إلى أن جلوسهم على طاولة التفاوض مع النظام يأتي بهدف التوصل إلى اتفاق يجنب المنطقة المزيد من الكوارث ويساعد في البدء بالسير نحو إيجاد حلّ حقوقي دستوري في ظل الدولة السورية الجامعة لكل مكونات شعبها مع احتفاظ كل مكوّن بخصوصيته الثقافية والاجتماعية واحترامها من قبل شركاء الوطن. لذا، عندما أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نيّته اقتحام الأراضي السورية واحتلالها، سارعت “مسد” للتأكيد على لسان رئيسها المشترك الشيخ رياض درار بأن قوات سوريا الديمقراطية ستقاتل إلى جانب قوات جيش النظام في الدفاع عن الأراضي السورية ضد العدوان التركي.
الإعلان عن وقوف قوات سوريا الديمقراطية إلى جانب قوات الجيش السوري في التصدي للعدوان التركي يؤكد على مسألتين يمكن اعتبارهما نواة لعقد اجتماعي جديد. أولهما: ترسيخ مبدأ مفهوم وحدة الشعب السوري ضد كل من لديه أطماعاً في أراضي الدولة السورية أو يحاول الاعتداء عليها. ثانيهما: الحرص على توحيد جهود كل المكوّنات السورية للخروج من المأزق السوري ككل، والسير بخطوات إعادة بناء الدولة والوطن على أسس جديدة تضمن الحقوق وتؤكد على الواجبات الدستورية للجميع، كما يشدد على أن أي حل جاد ووطني لمستقبل سوريا لا بد أن يستند إلى ركيزة جهود العمل المشترك بين جميع السوريين.
إذا كان هذا هو دافع مجلس سوريا الديمقراطية للحوار، فما الذي يدفع نظام الأسد للجلوس على الطاولة وتكريس فكرة أنه يرغب في التفاوض مع “مسد” في الوقت الذي لم تسفر فيه كل اللقاءات السابقة عن أي تقدم ملموس؟
إن أية مصالحة مع نموذج “مسد”، فضلاً عن أن نظام الأسد لا يرغب بها، فهي، بالنسبة له، لن تكون في مصلحته أيضاً لأنها تعني ضمنياً انكساراً لهيبته أمام طرف سوري آخر، وهذا لم يكن ولا يمكن أن يكون ضمن حساباته السلطوية التي تعطيه الحق الوحيد بامتلاكها. فعقلية “الأسد أو لا أحد”، متأصلة في بنية هذا النظام ولا يمكن تفكيكها بسهولة أو الخلاص منها. لذلك فإن نظام الأسد مستعد لتقديم تنازلات لكل دول العالم، وهو ما فعله ولا يزال مع روسيا وإيران، لكنه غير مستعد البتّة لتقديم أي تنازل مهما صغر للشعب السوري أو أي مكوّن منه.
للجواب على هذا السؤال، لا بد من العودة إلى بداية حقبة تسلم البلد والتي رسّخ فيها حزب البعث العربي حضوره في السلطة ليتحول لاحقاً على يد حافظ الأسد إلى نظام العائلة التي بيدها وحدها القرار في كل ما يتعلق بسوريا وشعبها. هذا الشكل من الحكم الشمولي لا يستطيع تقبل وجود قوة أخرى على الأرض السورية غير قوته. فكيف للآمر والناهي على مدار نصف قرن في أدق تفاصيل البلد أن يفاوض قوة أخرى مثل قوات سوريا الديمقراطية، لاسيّما وأنها تتميّز بأن جميع أفرادها ينتمون إلى مكوّنات أصيلة من الشعب السوري ويحلمون بالديمقراطية والعلمانية ويؤمنون باللامركزية كحل لسوريا المستقبل، بمعنى أنه لا يستطيع أحد أن يزاود على سوريتهم؟
إن أية مصالحة مع نموذج “مسد”، فضلاً عن أن نظام الأسد لا يرغب بها، فهي، بالنسبة له، لن تكون في مصلحته أيضاً لأنها تعني ضمنياً انكساراً لهيبته أمام طرف سوري آخر، وهذا لم يكن ولا يمكن أن يكون ضمن حساباته السلطوية التي تعطيه الحق الوحيد بامتلاكها. فعقلية “الأسد أو لا أحد”، متأصلة في بنية هذا النظام ولا يمكن تفكيكها بسهولة أو الخلاص منها. لذلك فإن نظام الأسد مستعد لتقديم تنازلات لكل دول العالم، وهو ما فعله ولا يزال مع روسيا وإيران، لكنه غير مستعد البتّة لتقديم أي تنازل مهما صغر للشعب السوري أو أي مكوّن منه.
هذه النظرة الاستعلائية تؤكد على حقيقة كارثية وهي أنه ليس للانسان السوري أهمية ضمن أجندة هذا النظام، فالمواطنون في عرفه ليسوا سوى مجرّد رعايا ضمن مزرعته، لكلّ حصّته بحسب خدماته التي يقدمها لرأس النظام ودائرته الضيّقة.
الخراب الذي طال سوريا وإنسانها بعد 12 سنة، لم يزد السّلطة ـ مع الأسف، إلا تمسكاً بهذه الفوقية تجاه الشعب، لكن رغم ترهّل النظام وعجزه وعدم مقدرته على المواجهة العسكرية، إلا أنه لا يزال يصرّ في كل لقاء مع وفد من مجلس سوريا الديمقراطية على وضع شروط تعجيزية أمام أية محاولة للبدء بطريق الحل!. والسؤال، طالما نظام الأسد لا يريد التوصل لأي حل جدّي يمكن البناء عليه، أو على الأقل يمكن أن يفتح الطريق لإنهاء الوجع، فلماذا هذا الإصرار من قبله على تكرار إجراء مثل هذه اللقاءات؟
انطلاقاً من فهمنا لبنية نظام الأسد، فإنه لن يقبل بالتوصل لحلول وطنيّة مع أية جهة سورية، لا مع مسد ولا مع غيرها. إذ لا مصلحة له بأي حل سياسي ينتزع شيئاً من سلطته. لكن التوصل إلى حل شيء، وعقد الاجتماعات التي لا تفضي إلى حل أمر آخر تماماً، فالنظام الذي يعيش على حالة اللااستقرار وعدم الأمان، بات من مصلحته إبقاء الحرب مستعرة واستمرار وجود أعداء له، لأن ذلك هو التبرير الوحيد له ليستريح من عبء معالجة الوضع الاقتصادي الخانق للسكان في مناطقة.
إذ لا شيء يساعد استمرار بطش نظام الأسد وجرّ الشباب إلى حروب الموت المجاني أكثر من إيهام الناس بوجود عدوّ يحاربه، فهي الحالة الوحيدة التي يستطيع من خلالها إقناع الناس بعدم قدرته على حلحلة أوضاعهم المعيشية الكارثية كونه في حالة صراع وحرب ومواجهة مع الأعداء، وبالتالي يستطيع أن يحافظ على عدم انهيار ما تبقى من سلطته العميقة، وهذا جلّ ما يطمح إليه.
إن توصل النظام للمصالحة مع مسد، فهذا يعني أنه لم يعد هناك أي مبرر للاختناق الاقتصادي في مناطقه، وستبدأ أصوات الناس المنكوبة في الارتفاع للممطالبة بحقوقها وخبزها كرامتها، وهو لن يكون قادراً على تلبية حاجات الناس، ليس لأنه لا يرغب فقط، وإنما لأنه مُحمّل بالهزائم والخسائر وخزينته خالية وحيلته قليلة. إضافة إلى ذلك، سيضطر، في حال المصالحة، إلى تأمين عودة آمنة لملايين اللاجئين الراغبين بالعودة إلى منازلهم، وهذا يحتاج إلى أموال كثيرة هو غير قادر على تأمينها وبالتالي لا يمكنه تقديم أي عون للناس بهذا الخصوص.
أمام مثل هذه الحقائق لا يمكنه التفكير بإجراء حوار جاد يفضي إلى حل وطني؟ على العكس تماماً، هو من مصلحته إبقاء الأمور في حالة عدائية مع الجميع وخصوصاً مع قوات سوريا الديمقراطية، كونها تتحكم بمناطق مصادر الطاقة والغذاء، فهذه هي الحالة الوحيدة التي تمكّنه من امتصاص حالة الغضب الشعبية في المناطق التي يسيطر عليها.
بقاء النظام في حالة صراع مع القوى السورية والمجتمع الدولي، هي بمثابة إجابته على أسئلة الناس عن أوضاعهم السيئة؟ فمعها سيتحول غضب الناس الفقراء على النظام الذي تسبب بكل هذه المآسي في حقيقة الأمر، إلى العدو الذي يحاربه النظام، فيصبح النظام والناس وكأنهم في خندق واحد، حتى وإن كان الجميع يعلم أن هذا الخندق وهمي وغير صحيح.
تبقى مصلحة النظام في إيهام حاضنته الشعبية بأنه يجلس على طاولة التفاوض مع مجلس سوريا الديمقراطية لإيجاد حل، حجة هو بأمس الحاجة إليها، لكنه في الحقيقة هو لا يريد التوصل لأية نتيجة، فحاجته لإبقاء مسد عدواً أهم بكثير من التوصل لحلول مرضية معها، وأعتقد أن كل محاولات “مسد” لجرّ النظام على التعاون والتنسيق معها ستبوء بالفشل، لأنه سينكشف أمام حاضنته بالدرجة الأولى وسيظهر على حقيقته العارية التي لن تستطيع أية ورقة توت تغطيتها.