الزلزال إذ يصيغ صورة الكردي 

شورش درويش 

عقب زلزال السادس من فبراير/شباط، طرأ تغيّرٌ ملحوظ على تصوّرات سوريين كانوا أسرى الخطاب الإعلامي التركي المتطرّف، أو سوريين يروّجون لخطابات كراهية ونبذٍ وتشكيك متواصل مشفوعين بدعم تركي. ولعل سبب التغيير الطفيف وإعادة تصوّر الكرد مبنية على ما يمكن أن نسميه بروز القوة الكردية الناعمة المتمثّلة بإرسال المساعدات والإغاثات إلى المناطق المنكوبة منذ اللحظات الأولى.

صحيح أن تمنّع ثم رفض المليشيات و«الحكومة المؤقتة»، ومن ورائهما تركيا، للمساعدات المقدّمة من الإدارة الذاتية جاء تبعاً لمنطقٍ يريد مراكمة كراهيتها والإبقاء على حالة العداء المفتوح معها، إلّا أن جدية تحرك الإدارة وبلوغها مرحلة قبول كل شروط إيصال المساعدات والانتظار على المعابر مدّة تجاوزت الأسبوع، يشي بمعاني التفوّق الأخلاقي على رافضي المساعدات. كما أن عرقلة إيصال المساعدات المقدّمة من كردستان العراق، ثم السيطرة عليها وتجييرها جاء في ذات الاتجاه.

وظهرت إلى سفح عالم الإغاثة كلمة «فزعة»؛ فكانت فزعة الجزيرة دليلاً مضاعفاً على رغبة الإدارة الذاتية وكرد شمال شرقي سوريا التجاسر على الجلف واللامبالاة التي أبدتها المليشيات والحكومة المؤقتة، ذلك أن إفساح المجال أمام المساعدات المقدّمة من دير الزور والرقة والحسكة  وتدفقها غرباً، وإن ارتدت ثوب الفزعة أو «الغيرة العشائرية»، إنما جاء بفضل موافقة الإدارة ومساهمتها في مسألة التحشيد ودعم الراغبين في إرسال المساعدات كيفما اتفق.

كما برز دور منظّمات المجتمع المدني في شمال شرقي سوريا في عملية حشد الجهود الإغاثية، وإرسال شاحنات  المساعدات ومرافقتها إلى حين وصولها إلى المناطق الأكثر تضرراً، وهو ما يعني إمكانية اتصال المنظمات العاملة في سوريا على الرغم من التحاجز العسكري. ويعني أيضاً أن الشمال الشرقي أيّد دور تلك المنظمات ولم ينزح إلى منع أنشطة المنظمات بعد أن مُنعت مساعدات الإدارة الذاتية من الدخول، وبالتالي تحييد العمل الإنساني عن ردود الأفعال التي تسببت بها الحكومة المؤقتة.

وبالمثل، اشتغل كرد وعرب سوريين، وكرد وأتراك، على تنظيم العمل الإغاثي في «الدياسبورا». أعادت الجهود المشتركة في رفع أنقاض بيوت إنهارت على رؤوس ساكنيها من دون معاينة أصولهم القومية الحياة لفكرة أن ما يجمع أكبر مما يفرّق. بكلماتٍ أخرى: أعادت الكارثة النبض لفكرة تضامن الأفراد والشعوب.

بدورها، اضطلعت كردستان العراق بمهمة إرسال المساعدات إلى عفرين المنكوبة، تحديداً إلى جنديرس، على الرغم من سياسة التمييز العنصري المتبعة هناك. إذ لم تغيّر مسألة مساعدة الإقليم الكردي مزاج الفصائل المسلحة التي أبقت على سلوكها العدائي والعنصري تجاه السكان المحليين، فيما تحدّثت شهاداتٌ كردية وأخرى عربية من عفرين عن أن التمييز لم يقتصر على توزيع المساعدات بل طاول عملية انتشال العالقين الكرد تحت الأنقاض.

بطبيعة الحال، لم يكن القصد من إرسال المساعدات من جانب الكرد تسجيل موقفٍ دعائي. لكن الدعاية الإيجابية جاءت من قبل سوريين أشادوا بالتضامن وإمكانية التسامي على الخلافات في سبيل إنقاذ ومساعدة المنكوبين. وكتب مثقفون وسجّل ناشطون مقاطع مصوّرة وأخرى صوتية تشيد بموقف الكرد، وكذا الإدارة الذاتية وكردستان العراق، ما تسبب في توجيه ضربة للدعاية التركية التي تصرّ على «شيطنة» هذه الأطراف، ذلك أن خطابات التعبئة التركية ضد الكرد لم تتوقف منذ أن تم الإعلان عن تأسيس الإدارة الذاتية وخوض كرد العراق تجربة الاستفتاء على الاستقلال وتحوّل حزب الشعوب الديمقراطي في تركيا إلى معارضة راديكالية للنظام الرئاسي في أعقاب إنهيار عملية الحل أو عملية السلام الكردية التركية.

عملت الدعاية التركية على تعبئة سوريين ضد الكرد السوريين. تواطأ سوريون مع خطاب التعبئة هذا. ولعل أعلى مستويات التواطؤ تمثّل في الإصرار على عزل الإدارة الذاتية وكرد سوريا وإبقائهما في دائرة العداء والاتهام بالسعي للانفصال.

تاريخياً، خضعت صورة الكرد في المخيال الشعبي في سوريا وتركيا، وفي العراق في فتراتٍ سابقة، لمزاج الأنظمة الحاكمة والدعاية المناهضة لوجود الكرد، ناهيك التمنع الصلب إزاء منح حقوقهم.  وخلال المئة عام الماضية تناوبت مدرستان في هذا الاتجاه، الأوّلى تنفي وجود الكرد كإثنية/قومية وجماعة لها مطالبها السياسية والثقافية والاقتصادية، فيما تصر الثانية على محاولة استيعاب الكرد واخضاعهم ونزع هويتهم، على الرغم من الاعتراف الشكلي بوجودهم، فيما الجامع بين هاتين المدرستين هو الرؤية العدمية لحل القضية الكردية. وبالتالي، تخضع هذه القضية لما أطلق عليها الباحث الكردي حميد بوز أرسلان ثنائية «الإنكار والمقاومة».

وبصرف النظر عن أن زمن الإبادات الكبرى ولى على الرغم من الإبقاء على مشاريع القتل والقمع والتأديب والتغيير الديمغرافي، فإن سياسة الاحتواء والاستيعاب والمجانسة ما تزال قائمة. ولأجل ذلك، تبذل تركيا، مثلاً، جهوداً جبارة لتحجيم التطلعات الكردية أو تحطيمها، وقصر المطالب الكردية على الحقوق المدنية البسيطة، أو إدخالهم في «سيستم» الانتخابات تحت طائلة معاقبة سياسييهم ونوابهم ورؤساء بلدياتهم ومثقفيهم حال خروجهم عن «السيستم».

داخل هذا المشهد، تُبقي تركيا على لياقتها العالية وجهوزيتها الدائمة فيما خص خطاب التعبئة ضد الكرد ونسج الأساطير عن ارتباطاتهم الخارجية ومؤامراتهم التقسيمية، مدفوعةً بهوس حماية الوحدة الترابية من جهة، ومحاولة قضم المناطق الكردية خارج تركيا أو حتى تغييرها ديمغرافياً وفق إيديولوجية «الهندسة الاجتماعية»، من جهةٍ أخرى.

وباضطراد متزايد، عملت الدعاية التركية على تعبئة سوريين ضد الكرد السوريين. تواطأ سوريون مع خطاب التعبئة هذا. ولعل أعلى مستويات التواطؤ تمثّل في الإصرار على عزل الإدارة الذاتية وكرد سوريا وإبقائهما في دائرة العداء والاتهام بالسعي للانفصال. ولعل رفض مساعدات شمال شرقي سوريا جاء لئلا تُعدّل صورة الكردي في المخيال السوري، وهو ما يعني أيضاً أن تركيا، وإن كانت في أحلك ظروفها، لن تتغافل عن تعقّب الكرد والإساءة لصورتهم.

والحال، أن المقدّرات المالية والإعلامية التي اعتمدت عليها تركيا في هذا الاتجاه، وكذا الإعلام الرسمي للنظام السوري، غاب تأثيرهما تحت وطأة الانتقادات القوية لمعارضين ومثقفين وناشطين سوريين اصطفوا مع التحرك الكردي العاجل. بالمثل، برزت مقاطع مصورة لناشطات وناشطين أتراك تفند الدعاية التي صوّرت الكردي في تركيا على أنه «إرهابي». واحدةٌ من تلك الناشطات تحدّثت عن الشبان الكرد الذين اندفعوا للمساعدة، وأن كل ما سمعته عن وحشية الكرد و«إرهابهم» في المدارس ووسائل الإعلام الحكومية لم يكن سوى أكاذيب.

لا يعيب أن يستثمر الكرد لاحقاً في مثل هذه الأعمال الإنسانية والإغاثية بمعزل عن إمكانياتهم. ربما يحفّز ذلك لأن تصبح هذه الأعمال مقدمة لقوةٍ ناعمة كردية، جرياً على ما تقوم به دول أوربية وعربية. ولئن كانت قوّة تركيا الناعمة تكمن في مسلسلاتها وأفلامها وتأثيرها الإعلامي، فإن بوسع الكرد أن يراهنوا على العمل الإنساني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد