استجابة تركيا للزلزال سياسية

جينا كراجيسكي

بعد أن ضرب الزلزال الأول الذي بلغت شدّته 7.8 درجات بالقرب من مدينة عنتاب صباح الاثنين قبل الماضي، اعتبر غوركان عربجي نفسه محظوظاً. فالزلزال تسبب في انهيار ثلاث أو أربع مبانٍ فقط بعددٍ قليل جداً من الضحايا في بلدة البستان الصغيرة التي يعيش فيها على بعد حوالي ثمانين ميلاً من عنتاب. نزل معظم قاطني البلدة إلى الشارع في ظل البرد القارس من دون أن يعلموا ما يجب عليهم القيام به. امتلأت سيارة غوركان وسيارة والديه بأكبر عددٍ ممكن من الجيران، متوجّهين إلى حقلٍ قريب حيث يمكنهم إجراء مكالماتٍ هاتفية ومشاركة بعض الطعام والحصول على قسطٍ من النوم بعيداً عن الحطام المتساقط. عندما طلب منه رئيسه في محطة الطاقة المحلية، حيث يعمل عربجي كمهندسٍ ميكانيكي، الحضور في وردية عمله الصباحية، استقلّ غوركان حافلة الشركة مع عددٍ من زملائه في جو يسوده الصمت والخوف والإرهاق. كانت قعقعة الحافلة على الطريق نتيجة تأثير الزلزال تبث الخوف في نفوس الركّاب.

في الساعة 1:30 مساءً، كان عربجي، البالغ من العمر 30 عاماً، غارقاً في عمله عندما ضرب الزلزال الثاني بقوة الزلزال الأول تقريباً. وهذه المرة، كان مركز الزلزال أقرب إلى البستان. يصف عربجي الأمر قائلاً: «كان مثل شيءٍ ضخم يطرق على الجدران والأبواب». سارع العمال للاتصال بأسرهم. ويوضح عربجي: «كانت والدتي بأمان، فهي لم تغادر السيارة». شقيقته المقيمة في قريةٍ مجاورة كانت بخير أيضاً. مرة أخرى، شعر عربجي بأنه محظوظ. كان الناس في حالة كرب ولا يستطيعون الوصول إلى أحبائهم، أو أنه أقربائهم كانوا محاصرين تحت الأنقاض و بعضهم فارق الحياة. خرج عربجي من محطة الطاقة من دون أن ينتظر حافلة الشركة.

يمكن القول إن الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا كان صادماً تماماً، مثل معظم الزلازل، وفي الوقت نفسه قابلاً للتنبؤ. تقع المنطقة على فالقين رئيسيين، وتاريخ تركيا مليء بالزلازل منذ حتى قبل المسيحية والإسلام وقبل الرادارات وعلم الزلازل، وبالتأكيد قبل الصعود الاستقطابي للرئيس رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية الذي ينتمي إليه. لقد عشت في اسطنبول بين عامي 2011 و 2015، وكان تهديد الزلزال حاضراً بقوة في الذاكرة. تشكّل القضبان المعدنية البارزة بين أحجارٍ عمرها قرونٌ في قلب إسطنبول التاريخي دليلاً على المحاولات المبكرة للتحضير للزلازل. عادةً ما يتم إظهار صور المدينة، بعد سلسلةٍ من الزلازل بدأت في عام 553 مع انهيار قبة آيا صوفيا الشهيرة، على البطاقات البريدية.

ومع ذلك على الرغم من كل هذا التاريخ، من المرجّح أن الزلزالين اللذين وقعا هذا الأسبوع كانا أكبر كارثةٍ طبيعية واجهتها البلاد على الإطلاق، إذ ضربا عشر مدنٍ رئيسية في جنوب تركيا، بالإضافة إلى أجزاءٍ من شمال سوريا التي تضررت أساساً بشدة بسبب الحرب وتعرضت في الغالب إلى أضرارٍ كبيرة. لمدة ثلاثة أيام تقريباَ، لم تصل المساعدات والإنقاذ من الحكومة التركية، وتُركت المجتمعات المحلية إلى حدٍ كبير تواجه مصيرها لوحدها. والد عربجي، مختار، وهو زعيم محلي منتخب، عاد مع عربجي بعد الزلزال الثاني بفترةٍ وجيزة إلى البستان ليتقصيا ما يمكن فعله. تدمّر منزلهما، بينما اتصل والده بكل جهةٍ حكومية يعرفها، طالباً المساعدة من وكالة إدارة الكوارث الحكومية، في حين ساعد عربجي الناجين الآخرين في إزالة الأنقاض. حفرا بأيديهما وأدواتهما الصغيرة والعصي، محاولين نقل الكتل الخرسانية الثقيلة من دون الآليات الثقيلة. يقول عربجي: «أعتقد أنني سأسمع بعض هذه الأصوات طوال حياتي: ‘أنا هنا، لا تتركني، أنا هنا، أنا هنا’. لكن كان علينا تركه». في الليل، عاد عربجي ووالديه للنوم في سياراتهما. تناول البعض خشباً من الأكوام المخصصة لفرن الخبز المحلي وأشعلوا ناراً للتدفئة.

في النهاية، ونتيجة لمحدودية الردود، كفّ والد عربجي عن الاتصال بالجهات الحكومية المركزية. وبدلاً من ذلك، بدأ الرجلان في التواصل مع الأصدقاء في مدنٍ أخرى وتفعيل علاقاتهما في الشتات ومكاتب أحزاب المعارضة في اسطنبول والمدن المجاورة. عائلة عربجي من الأكراد العلويين، أي أقلية داخل أقلية. نشر أصدقاؤهما الرسائل على وسائل التواصل الاجتماعي، بما في ذلك «تويتر»، إلى حين تقييد الحكومة الوصول إلى المنصة مؤقتاً. (يعتقد العديد من الناس أن حظر «تويتر» جاء بسبب التغريدات التي انتقدت حزب العدالة والتنمية، بينما زعم المسؤولون الحكوميون وجود مشكلةٍ فنية في الشبكة). منطقة الزلزال، وهي مساحةٌ شاسعة من الأرض تضم عشر مقاطعات ذات ديموغرافية متنوعة عرقياً ودينياً وثقافياً وسياسياً، هي موطنٌ للعديد من المجتمعات مثل العلويين الأكراد، الذين يشعرون منذ فترةٍ طويلة بالعزلة والتجاهل من قبل حزب العدالة والتنمية، وأسسوا مجتمعاتٍ بديلة للدعم. أخبرني عربجي أنه في الأيام القليلة الأولى «جاءت خمسة وتسعون في المئة من المساعدات من الناس، أشخاص طيبون، ومتطوعون»، حتى بعد أن بدأت الشاحنات الصغيرة الحكومية في الوصول إلى البستان، استمرت المساعدات غير الرسمية. ويقول عربجي: «مجتمعنا، جيراننا. الناس يثقون ببعضهم البعض، الناس يساعدون بعضهم البعض».

في عام 2011، عندما غادرت رولا بيطار وعائلتها إدلب في سوريا إلى تركيا، لم تفكر في اصطحاب وثائق مهمة ولا أي شيءٍ من إرثها العائلي. قالت لي: «قررنا أن نرحل ونهرب من الحرب مؤقتاً. عشرة أيام تحوّلت إلى عشرة أعوام». تتحدر بيطار من عائلةٍ متعلّمة وميسورة مادياً، وتخرجت من الجامعة في تركيا حاصلةً على شهادةٍ في الصحافة، وتزوجت من رجلٍ سوري هاجر إلى ألمانيا. كانا أنهيا شهر العسل في عمان ويتوجّهان في حافلةٍ من المطار إلى منزلهما في عنتاب عندما ضرب الزلزال الأول. تقول بيطار: «شعرت بنفس الخوف الذي كنت أشعر به في سوريا. كان الجميع في الشارع. كنت مرعوبة وخائفة من الدخول إلى بيتي الذي لطالما شعرت فيه بالأمان». هرعت إلى الداخل لاصطحاب أوراقها، إذ حصلت مؤخراً على الجنسية التركية وتخلّت عن الحقائب المليئة بالهدايا التي اصطحبتها من عمان وركضت عائدةً إلى الشارع، مذهولةً من الدمار. وتضيف: «لقد عشنا 11 عاماً من الحرب في سوريا. ولكن ما حدث في أحد عشر عاماً هناك، حدث هنا في أربعين ثانية».

وتُعتبر تركيا موطناً لما يقرب من أربعة ملايين لاجئ سوري تعيش غالبيّتهم العظمى في المناطق المنكوبة، والكثير منهم في عنتاب. تقول بيطار: «كانت حالة طارئة، الشرطة تصرخ مطالبةً الناس بالفرار من منازلهم والتوجّه نحو أماكن مفتوحة أو ملاجئ». بدأت بيطار، التي تتحدث التركية والعربية، بترجمة نداءات الشرطة لزوجها الذي لا يتحدث التركية، ثم لحشودٍ من المتحدثين باللغة العربية.

وبسبب عدد السوريين الكبير، تحتفظ المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بوجودٍ جزئي في المنطقة. عندما ضرب الزلزال، بدأ عمال الأمم المتحدة في توزيع الخيام والمواد الغذائية المخصصة عادةً للاجئين، حيث أشارت المسؤولة في مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة سيلين أونال: «الفوضى تعم المكان. في ظل هذه الفوضى، أصابت الحيرة العديد من اللاجئين بشأن المكان الذي يتوجب عليهم التوجه إليه للبحث عن المساعدة أو المأوى». توجّه يزن الأحمد، وهو من جنوب سوريا ويعيش في عنتاب منذ ثلاثة أعوام، إلى إحدى الساحات المليئة بالخيام بسبب تضرر مبناه. لكن المخيم كان ممتلئاً بالفعل، فغادر يائساً وغاضباً بعض الشيء. قال: «معظم جيراني أتراك». علاقته معهم لم تكن أبداً مثيرة للجدل، لكنها لم تكن وثيقة أيضاً. فضّل قضاء وقته مع سوريين آخرين. قال عن جيرانه: «لم يدلّوني على مكان يمكنني الذهاب إليه».

لساعات، تجول الأحمد بين المساجد أو انضم إلى أي حشدٍ يراه باحثاً عن الطعام. وذكر أن المعلومات الوحيدة التي تلقاها من المسؤولين الأتراك تتعلق بالتهديد بوقوع هزاتٍ ارتدادية. قبل الزلزال، لم يكن حتى على علمٍ بأن منزله الجديد يقع على خط زلازل. عندما أيقظه صوت الهزة هو وزوجته وطفليه الصغار احتار فيما إذا كان عليه القفز من شرفة شقتهم في الطابق الثاني أم الإسراع في النزول عبر السلالم. ويقول: «عشت في ظل حربٍ لمدة عشرة أعوامٍ، كان هذا أسوأ منها».

بحسب بيطار، ركّز فريق الإنقاذ الحكومي الذي وصل عنتاب وأنطاكيا، وهي مدينةٌ قريبة من الحدود التركية السورية، على إنقاذ الناس من تحت الأنقاض. وتقول بيطار: «أعرف الكثير من الناس في سوريا لا يستطيعون الوصول إلى أقاربهم هنا في تركيا. وعلى الجانب الآخر، أعرف أناساً على قيد الحياة في أنطاكيا، لكنهم لا يعرفون شيئاً عن أقاربهم داخل سوريا».

أما زكي الدروبي، وهو صحافي وسياسي سوري يعيش في اسطنبول، فيقول: «شمال سوريا بحاجةٍ إلى كل شيء. لقد تركوا وحدهم». بدوره، قدّر الناشط الإعلامي محمد العمر في إدلب، عصر الخميس، مقتل أكثر من ألفي شخص وإصابة قرابة خمسة آلاف في مدينته وانهيار مئات المباني. ويقول: «ما زلنا نسمع أصوات بعض الناس من تحت الأنقاض. لكن ليس لدينا طريقة لإنقاذهم». من دون المعدات الطبية المناسبة، لم يتمكنوا من علاج أولئك الذين تمكنوا من إخراجهم. وكما هو الحال في تركيا، ضاعفت درجات الحرارة المنخفضة من المعاناة. لم ير العمر أي مساعداتٍ خارجية، وبالتأكيد لا مساعداتٍ من الدولة السورية. ويضيف: «كل ما كان لدينا عبارة عن مجموعاتٍ من المتطوعين مكونة من فريق الدفاع المدني والفصائل العسكرية وطلاب الجامعات. الجميع يحاول مساعدة بعضهم البعض».

حتى قبل رئاسة أردوغان، كان جنوب شرق تركيا معقلًا للنشاط السياسي المناهض للحكومة. ولدت الحركة الكردية في ديار بكر، وهي مدينةٌ ليست فقط القلب الثقافي والسياسي لتركيا الكردية، بل قلب حركة الإعلان عن كردستان الكبرى المستقلة. بسبب هذه الحركة والعنف الذي حصل، تعرّض الأكراد في تركيا للقمع من قبل القادة الأتراك.

في الأعوام الأخيرة، أثبت أردوغان، الذي اعتاد تقديم نفسه على أنه داعمٌ للسلام، أنه من بين أكثر هؤلاء القادة قمعاً. تمتلئ السجون التركية بالسياسيين والنشطاء والصحافيين والأكاديميين الأكراد، إلى جانب المتعاطفين مع الحركة الكردية. كما تم عزل رؤساء البلديات الأكراد الذين كانوا لفترةٍ طويلة قوةً في السياسة الوطنية واستبدلوا بـ«الأوصياء» الموالين لحزب العدالة والتنمية. بسبب الزلزال، تعرّضت ديار بكر، التي كانت محاصرة لفترةٍ طويلة، إلى درجةٍ هائلة من الدمار وإن كان أخف بالمقارنة بالمناطق المتضررة الأخرى. ويبدو عدم الثقة في حزب العدالة والتنمية كبيراً جداً في ديار بكر لدرجةٍ أن الزلزال قوبل بما يمكن وصفه بأسرع استجابة مدنية وأكثرها تنظيماً.

عندما تواصلت مع كارو بايلان عبر الهاتف، كان في ديار بكر يتفقّد المباني المهدمة. وبيلان عضوٌ في حزب الشعوب الديمقراطي، وهو حزبٌ سياسي كردي أدى فوزه في الانتخابات البرلمانية التركية لعام 2015 إلى رد فعلٍ عنيف ضد الأكراد، ما أدى إلى وضع معظم نواب الحزب في السجن بتهم الإرهاب، وصفها مراقبون مستقلون بالسخيفة. في بلدٍ شديد الاستقطاب، فإن سياسة حزب الشعوب الديمقراطي في الإدماج، وهو الذي يركّز برنامجه الأساسي على حقوق المرأة والمثليين والأقليات العرقية والعمال، تواصل مناشدة المواطنين ذوي الميول اليسارية، في ظل ظروف عملٍ شديدة التضييق.

قدّر بيلان، وهو تركيٌ من أصل أرمني، أن ثلاثين مبنى في ديار بكر دُمّرت أو تضررت بشكلٍ لا يمكن إصلاحه. كما تحوّل العديد من المباني الأخرى إلى منشآتٍ غير آمنةٍ لعودة الناس إليها. غالباً ما يكون لدى البلدان التي تقع في مناطق الصدع، مثل تشيلي واليابان، معاييرٌ هندسية صارمة. لكن حزب العدالة والتنمية اتّبع سياسة تشجيع مشاريع الإسكان الجماعي الرخيصة، مع تفضيل الشركات التي لها علاقات بالحزب في كثيرٍ من الأحيان. لطالما كان هذا محل انتقادٍ للأحزاب السياسية المعارضة. ولكن في اليوم الذي تحدث فيه بايلان، كان الوقت إما متأخراً جداً أو مبكراً جداً للتحدث عن ذلك، أو يدور حول تأثير الزلزال على الانتخابات في تركيا المقرر إجراؤها في مايو/أيار، حيث يسعى أردوغان إلى إعادة انتخابه. لا تزال جهود الإنقاذ جارية. ويحتاج عددٌ كبير من سكان ديار بكر البالغ عددهم مليوني نسمة إلى مساعداتٍ طارئة. ويقول بايلان: «لدينا إرثٌ عظيم من التضامن. من بين المدن العشر المتضررة، تُعتبر ديار بكر في أفضل وضعٍ لناحية أعمال المساعدة».

ويتابع: «على مدى أربعين عاماً، واجهت ديار بكر أسوأ قمعٍ في تركيا. لكن بالتوازي مع شدة القمع، فإن النضال من أجل الحقوق كبيرٌ أيضاً. لهذا السبب، فإن ديار بكر قويةٌ جداً. ولهذا السبب، يمكننا التعافي في غضون ثمانٍ وأربعين ساعة». افترض العديد من الأكراد أن حكومة أردوغان لن ترسل مساعدات. في زلزال عام 2012 في مدينة فان الكردية، منعت الحكومة بعض المساعدات. في ديار بكر، كانت هذه السياسة كذلك. أخبرني بايلان أن «قصة أردوغان تتعلق بالقوة. مع أي مشكلة، يريد دائماً إظهار نفسه كقائدٍ قوي. لا أعتقد أنه بهذه القوة. هذه السياسة تركت مئات الآلاف من الأشخاص من دون مأوى، وتحت تهديد كوارث طبية تلوح في الأفق، فيما عدد القتلى يقترب من عشرين ألفاً، والهزات الارتدادية لا تزال تعيد الناس إلى خوفهم العميق، كل هذا بالتأكيد خارجٌ عن قوته وقدرته».

المصدر:نيويوكر

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد