بشار عبود
لو عدنا بالتاريخ إلى فترة ما قبل سقوط الدولة العثمانية، وتحديداً إلى اللحظة التي تسلم فيها حزب الاتحاد والترقي السلطة عام 1908 عندما أعلن رسمياً البدء بممارسة سياسة التتريك على جميع الولايات العثمانية بحيث تكون اللغة التركية هي اللغة الرسميّة الوحيدة للدولة، لوجدنا الكم الهائل من الإجراءات التعسّفيّة التي صاحبت ذاك القرار ضد الشعوب غير التركية، إذ حارب العثمانيون كل ما له علاقة بثقافات ولغات الدول التي احتلوها وقرروا منع أبناءها من التحدث بغير لغة السلطنة.
لم يكن العرب بمنأى عن هذه السياسة، إذ جرى بحقهم ما جرى على غيرهم من الشعوب الأخرى التي كانت واقعة تحت نير الاحتلال العثماني. وككل شعبٍ لا يقبل الضّيم، اختار العرب مقاومة هذه السياسة عبر تأسيسهم الجمعية العربية الفتاة عام 1911 في باريس على الرغم من علمهم أنهم لن يسلموا من بطش الأتراك. وهو ما حدث فعلاً، إذ تعرض أعضاء الجمعية وحتى مؤيدوها لأبشع المضايقات والإجرام بحقّهم والتي توّجها الوالي التركي جمال باشا السفاح بإعدام أحرار العرب في دمشق وبيروت بين عامي 1915 ـ 1916، وهي الفترة نفسها التي ارتكب فيها العثمانيون أبشع مجزرة بحق الأرمن راح ضحيتها أكثر من مليون ونصف أرمني من الأبرياء.
على امتدادها، لم تترك الإمبراطورية العثمانية 1516 ـ 1918 إرثاً حضارياً يشير لها أكثر من تكريس مركزية السلطة بالقوة المطلقة واختراع الخازوق وزراعة الأحقاد والعنصرية والفتن والطائفية بين الشعوب التي احتلتها لترسيخ سيطرتها وضمان بقائها، مستندة إلى «نظام الملي» الذي استثمره حكامها بخبثٍ من أجل تمزيق المجتمعات ودفع شعوبها نحو التخلّف. لكن على الرغم من قسوة هذه السياسة، إلا أنها حملت في الوقت نفسه جانباً إيجابياً لبقية الشعوب غير التركية، إذ عجّلت المركزية الشديدة في سقوط الدولة العثمانية وأدخلتها سريعاً في مرحلة الانحدار والتفكك ومن ثم الانهيار لتنتهي تماماً مع معاهدة سيفر عام 1920.
الحقيقة الأولى التي نتعلّمها من ذاك الدرس هي أنه لا يمكن للشعوب أن تنسى ثقافتها ولا لغتها الخاصة مهما حاولت الدول التسلطية فعل ذلك. فاللغة والثقافة تتحوّلان في هذه الحالة إلى هوية وطنية تجمع كل المتحدثين بها ويزداد التشبث بهما كلما ازداد الشعور بأن الشعب يتعرض للتهديد من قبل قوة خارجية.
أما الحقيقة الثانية، فهي أن الشعوب المحكومة من قبل أنظمة قمعيّة لن توفر مناسبةً للانفكاك عن الدولة التي تتحكم بهم، وستنتهز اللحظة المناسبة لتبدأ في المطالبة بحقوقها المسلوبة. هذا تماماً ما فعله العرب قبيل سقوط الدولة العثمانية، حيث شهدنا كيف أخذت الولايات تنسلخ عن دولة «الرجل المريض»، وبدأت الشعوب تؤسس لعقدها الاجتماعي كل حسب حدوده الجغرافية الجديدة.
لم تكن دول الشرق الأوسط، ومنها سوريا، سوى واحدةً من المناطق التي عاشت ظروف الانفصال الأولى عن الدولة العثمانية، فأعيد تأسيس وتشكيل جغرافية المنطقة لعدة دولٍ بناءً على ما رسمته اتفاقية سايكس ـ بيكو لتجد الشعوب نفسها تموضعت ضمن حدود دولٍ رسمها لهم وزيرا خارجية فرنسا وبريطانيا وحافظت على شكلها حتى اللحظة.
لكن ما إن نشأت الدولة السورية الحديثة على أساس تلك الاتفاقية الدولية مطلع القرن العشرين، حتى تبيّن أنها هي الأخرى دولة غنيّة بالطوائف والقوميات ومتنوعة المشارب والأفكار. وهذا كان يمكن أن يكون مدعاةً لغناها فيما لو قبلت الدولة السورية الناشئة هذا التنوع وقامت برعايته على أساسٍ ديمقراطي حقوقي وإنساني. لكن ما حدث، مع الأسف، أن هذا التنوع تم قمعه لاحقاً نتيجة سطوة إيديولوجيا القومية العربية التي تصدرت المشهد السياسي العام للمنطقة، ومورس بسبب تلك الأيديولوجيا أنواعاً من الظلم بحق شرائحٍ واسعة من مكونات الشعب السوري، مُمهّدةً الطريق أمام ديكتاتوريات حكمت سوريا بيدٍ من حديد ومنعت كل أملٍ في إعادة بناء الدولة والمجتمع على أساسٍ ديمقراطي حقوقي. فكان جلّ همّ السلطات الحاكمة أن تمنع الحريّات وتفرّغ المجتمع من طاقاته، حتى كادت ملامح تعدّدية المكونات السورية تختفي تحت ضغط الخوف والرعب لولا تمسّك كل مكوّنٍ بخصوصيته وحفاظه عليه.
أدى غياب الديمقراطية عن مفهوم بناء الدولة السورية إلى غياب التنوّع في المجتمع، والذي هو جوهر أي عملٍ وطني، فغابت الرؤية وفشل البلد فيما انتصر الديكتاتور! هذا التفرّد في القرار وإلغاء الآخر والشعور بالقوة كان سمةً من سمات وآليات تطبيق الحكم في سوريا منذ لحظة تسلم الناصرية مقاليد الحكم فيها إبان الوحدة. ثم ما لبث أن عزّزها حزب البعث بعد الانفصال، فلحق الظلم والحيف بحق أبناء الوطن، ووصل إلى درجة التغيير الديمغرافي للمناطق الشمالية الشرقية عبر ما يعرف بسياسة «الحزام العربي» الذي اعتمدته السلطات السورية في دمشق عام 1966، بالإضافة إلى منع حق الجنسية عن نسبةٍ كبيرة من أبناء المكون الكردي وحرمانهم من تعلّم لغتهم أو نشر ثقافتهم، ليتكرر ذات الوجع الذي عانى منه العرب على يد العثمانيين لحظة سقوط امبراطوريتهم القرن الماضي!
مع انطلاق ثورة 2011، غمرنا التفاؤل بأنه يمكن لهذا الحدث الجلل أن يعيد بناء الدولة السورية على أسس العدالة والكرامة. وكان الأمل كبيراً في أن تعيد تلك الثورة بناء ثقافةٍ جديدة ومجتمعٍ جديد تسوده المساواة بين جميع مكونات الشعب وتعيد الحقوق لأصحابها التي سلبها منها النظام الشمولي المستند إلى عقيدةٍ قومية متينة. إلا أن المعارضة السورية التي تصدّرت المشهد السياسي فشلت هي الأخرى في توحيد جهودها وتحقيق رؤية العمل بشراكةٍ مع كل المكوّنات للوصول إلى دولة الوطن والمواطنة. وأدى فشلها إلى عدم قدرتها في تقديم وعودٍ أو ضمانات ليس فقط للأكراد وإنما لكل الأقليات المنتشرة في البلاد، ما جعل المعارضة في وادٍ بعيد تماماً عن حقيقة الواقع السوري.
لم تتمكن المعارضة السورية، على الرغم من الدعم المالي والدولي اللامحدود لها، من إقناع المجتمع الدولي بقدرتها على احتضان جميع مكونات الشعب السوري في ظلّها. أما تمثيلية أن يكون لكلّ مكوّنٍ تمثيلاً ديكورياً في مؤسسات المعارضة، فلم تنطلِ على السوريين ولم تقنع أحداً منهم، بدليل أن التمثيل الكردي في الائتلاف السوري لقوى المعارضة السورية لم يَحْمِ بيوت أهالي عفرين من التعفيش والهتك على يد فصائل لها ممثلين في ذات الائتلاف.
أدى سلوك المعارضة الذي يمكن تسميته بـ«غير الوطني» إلى انفصال عُرى العمل المشترك وتفتّت الجهد وعدم وجود أية قيمةٍ أو أثر له على الأرض. لا بد من مراعاة هذا الواقع الذي أورثتنا إياه المعارضة في صراعها مع النظام وأخذه بعين الاعتبار ومعالجته إذا ما أردنا تحقيق أي تقدّمٍ مأمول على المستوى الوطني لمستقبل سوريا.
دائماً ما يفرد التاريخ لحظاتٍ تكون بمثابة دروسٍ أو عظات تساعد العقل الجمعي العام في البلاد للتعلّم منها والاستفادة من مقاصدها في ترميم ما لا بد من ترميمه. ويحضرني في هذا المقام الثورة الفرنسية كواحدةٍ من أهم المفاصل حساسية، ليس فقط في تاريخ الأمة الفرنسية بل وفي العالم أجمع. لقد فهم الفرنسيون الدّرس بشكل جيد وتعلّموا أنه لا يمكنهم الاستمرار على ما كانوا عليه من قبل ولا بد لهم من إعادة هيكلة بناء الدولة والمجتمع على أسسٍ مغايرة تماماً لعهد لويس السادس عشر ومن سبقه من الملوك. فسطّر الفرنسيون وثيقتهم التاريخية التي تركت أثرها على كل شعوب العالم. تلك الوثيقة التي أصدرتها الجمعية التأسيسية الوطنية عام 1789 «إعلان حقوق الانسان والمواطن، Déclaration des droits de l’homme et du citoyenne» والتي يسير بهديها جميع الفرنسيين حتى هذه اللحظة.
في سوريا، الكلّ يعاني، الكلّ مشرد، الكلّ بلا أمل، لكن الكل أيضاً ينتظر الحلول. لا أعتقد أن لحظةً تاريخية يمكن أن تكون أنسب من هذه اللحظات العصيبة التي يعيشها السوريون على اختلاف مكوناتهم لكي يبدأوا في إعادة حياكة عقدهم الاجتماعي الجديد بحيث تحصل جميع المكونات على حقوقها الدستورية في الوجود والبناء والشراكة على أساسٍ وطني.
إن ارتدادات الظرف الصعب، التي نمر بها حالياً، تركت شرخاً لدى جميع القوى السياسية اللاعبة على الأرض السورية بمن فيها النظام الحاكم، وهو ما يحتّم علينا كسوريين أن نعمل على قراءة مستقبلية جديدة لسوريا تنقذها وتنقذنا مما نحن فيه. لقد جاء الوقت ليشبك العرب والأكراد أياديهم ببعض معلنين لحظة الانطلاق نحو المستقبل الجامع. فالدعوة للعمل المشترك لم تعد ترفاً ولا مِنَّةً من طرف على آخر، وإنما أصبحت بنداً أساسياً لإنقاذ ما تبقى، بشرط أن يكون مبنياً على أسس المصالح المشتركة بين جميع المكونات وليس لصالح طرفٍ على آخر.
آن الأوان لترتيب العمل وخلق مشروعٍ سوري جديد قائم على التشاركية في العمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي ويمكنه جذب مكونات الشارع السوري من جهة، وحصد تأييد المجتمع الدولي من جهة أخرى. فالمصالح التي تجمع مكونات الشعب السوري أقوى بكثير من الكراهية والأحقاد التي تعمل على تأجيجها القوى الإقليمية. فلا الكردي ولا العربي اختارا هذا التشابك العصي على الفكاك بين المكونين، ولا هما اختارا الأرض التي يسكنان عليها. فالتاريخ المشترك والطويل بينهما حريٌّ بهما أن يعيدا لهذا التعايش تكامله وغناه وقوته.