شورش درويش
لم يكن في وسع الكيان السوري الجنيني والهش، المنتزع من رقعة الدولة العثمانية، أن يصمد في مواجهة الأطماع التركية المبكّرة، لولا تواجد الانتداب على أراضيه، وهي مفارقة أسست، على الرغم من خسارة الإسكندرونة والأقاليم الشمالية في حلب، لشكل الكيان السوري المستقّر منذ العام 1939.
ورغم ممالأة فرنسا لتركيا وخطب ودّها إبان الحرب العالمية الثانية، ومساهمتها في مهمّة سلب الإسكندرونة ومساحاتٍ شاسعة من سوريا المرسومة على خرائط الانتداب الأولية، إلا أنها حالت دون مضي تركيا في قضم الأراضي السورية تباعاً. ومن ذلك، رفضها مطالب تركيا السيطرة على حلب والجزيرة عام 1941 في مقابل تسهيل نقل القوات فرنسا الفيشيّة للأراضي السورية نتيجة الحصار الإنكليزي المُطبق للساحل السوري. بيد أن مساعي سياسة التوسّع التركية لم تتوقّف وبلغت أشدّها في الخمسينات بالاعتماد على تحالفها مع الولايات المتحدة بذريعة تثبيط «المد التقدمي» في سوريا لما له من تأثيرٍ على الداخل التركي، فيما بقي الأساس في كل استراتيجية تركيا التوسّع واستغلال هشاشة الأوضاع الداخلية في سوريا وانقسامات السوريين.
الخمسينات: سوريا في مرمى الأتراك
جاهدت العراق وتركيا لأجل ضم سوريا لتحالفهما تحت مظلّة حلف بغداد عام 1955، إلّا أن مساعي العراق الهاشمي وعراب سياسته نوري السعيد باءت بالفشل. ولأجل ذلك أيضاً، وصل رئيس الوزراء التركي عدنان مندريس مطلع يناير/كانون الثاني 1955 إلى دمشق، ما أحرج حكومة فارس الخوري الذي تنصّل من تنسيق الزيارة ووصفها بأنها غير مدبّرة، ما دفع السوريين لأن يخرجوا في تظاهراتٍ تستنكر الزيارة وتهتف بسقوط الحلف.
كان المزاج السوري العام، بطبيعة الحال، محكوماً بهوى عروبيّ وتقدّمي، ويحث الخطى للاتحاد مع مصر الناصرية، الأمر الذي دفع أنقرة إلى توجيه المذكّرات والخطب التي قالت فيها إنها لن تقف مكتوفة الأيدي من هذا التقارب بين دمشق والقاهرة لما يمثّله من خطورةٍ على تركيا والعراق وعزلهما عن العرب. وعليه، قامت التحرّشات التركية على الحدود السورية. ولأن المزاج السياسي والشعبي في سوريا راق لموسكو، أعلن السوفييت تأييدهم لسوريا، وأعلم وزير خارجيتها مولتوف دعمه الموقف السوريّ الرامي إلى التقرّب من مصر والافتراق تالياً عن حلف بغداد.
بعيد انتهاء حرب السويس (العدوان الثلاثي على مصر) عام 1956، وفي اليوم الأوّل من عام 1957، اجتمع الرئيس الأميركي دوايت إيزنهاور مع وزير خارجيته ونواب عن الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وإبلاغهم بوجوب ملء الفراغ الكبير في الشرق الأوسط قبل أن يسبقهم إلى ذلك السوفييت. وبطبيعة الحال، ستبرز تركيا عنصراً مهماً إلى جوار إيران والأردن ولبنان في هذا السياق الأميركي الجديد، ولتبدأ حقبة جديدة في سوريا القلقة.
أزمة 1957
يشرح إيزنهاور في مذكراته بداية الأزمة، والتي سيصبح اسمها «الأزمة السورية». ففي 13 أغسطس/آب 1957 «أذاع راديو دمشق تهمةً مفادها أن الولايات المتحدة مشتركة في مؤامرة لقلب نظام الرئيس شكري القوتلي، وأن ثلاثة ملحقين بالسفارة الأميركية في دمشق سيطردون من أجل نشاطهم التخريبي» (مذكرات إيزنهاور – ترجمة هيوبرت يونغمان 1969)، في وقتٍ كانت التقارير الأميركية تتحدّث عن أسلحةٍ سوفيتية أرسلت إلى سوريا وأن دمشق أصبحت في متناول موسكو. ضاعف من تلك الشكوك توقيع وزير الدفاع السوري خالد العظم معاهدةً اقتصادية وفنية واسعة المدى مع الاتحاد السوفييتي في موسكو، ومنح رئاسة الأركان السورية للعقيد عفيف البزري المتهم بموالاة السوفييت، بدلاً من توفيق نظام الدين. وعليه، كان الاستنتاج الأميركي، والذي توصلت إليه دول جوار سوريا كذلك، هو وجوب تغيير نظام الحكم في سوريا عبر عملٍ عسكري تقوم به تركيا والعراق ولبنان والأردن.
لعبت تركيا دور مخفر واشنطن المتقدّم في الشرق الأوسط. لذا، أرسل إيزنهاور رسالةً لرئيس الوزراء التركي عدنان مندريس ليوصلها بدوره إلى جيرانه ومفادها أن الولايات المتحدة ستقدّم «ضمانات» حال وجدت دول الجوار ضرورةً لاتخاذ عملٍ ما ضد عدوانٍ تشنّه سوريا. وعليه، فإن وشنطن ستضع على عاتقها إرسال شحنات أسلحة، وأنها ستعوّض خسائر تلك الدول في أسرع وقت، على ألّا تقدّم المساعدات في حالة احتلال الأراضي السورية.
بدأت شحنات الأسلحة ترسل جواً من أوروبا الغربية إلى القاعدة الأميركية في أضنة. وعلى الرغم من قلق وشنطن من احتمال تفجّر الأوضاع، كان الثنائي مندريس ونظيره الإسرائيلي بن غوريون متفائلين. فالأول، كان يطمح إلى اجتياح سوريا، فيما كان الثاني قلقاً من أن تصبح سوريا قاعدةً روسية. ولعل تعبير بن غوريون التحذيري يشي بالقلق الإسرائيلي «من المستحيل أن تميز بين سوريا وروسيا».
على الرغم من انسحاب الولايات المتحدة والأردن والعراق من مشروع تغيير نظام الحكم في سوريا، بقيت تركيا مصرّةً، على الرغم من التحذيرات الأميركية، على اجتياح سوريا. واصلت تركيا حشد قواتها على طول الحدود السورية ليرتفع عديد قواتها من 32 ألف إلى 50 ألف جنديّ. بيد أن صرامة الزعيم السوفيتي نيكيتا خروتشوف التي أبطلت الاجتياح التركي وتهديده الصريح لأنقرة «إذا أُطلقت نيران المدافع (على سوريا)، فإن الصواريخ ستنطلق من الجو»، كان كفيلاً بوضع حدٍ للأتراك، ودفع واشنطن للتنصل من الخطط التركية ومراسلة خروتشوف وتذكيره بأن «تركيا دولةٌ مستقلة، قادرة على صنع سياساتها».
وإلى جوار موسكو، كانت القاهرة أيضاً متحفّزة لدعم الجيش السوري في مواجهته المحتملة مع الأتراك، فبادرت في أكتوبر/تشرين الأول 1957 إلى إنزال وحدةٍ من قوتها المسلّحة في ميناء اللاذقية لمساندة القوات السورية، إذ أن مصر تنبّهت باكراً إلى مسألة الأمن القومي المصري والعربي ووجوب تقويته في سوريا والعراق.
محاولة تركية أخرى
لاحقاً، سيكون العام 1958 حافلاً بالتقلّبات في منطقة الشرق الأوسط. من جهتها، كانت سوريا تحثّ الخطى للاتحاد مع مصر في دولة واحدة، وهو الذي تحقّق. فيما سيُجْهز عبد الكريم قاسم على الملكية ويطوي صفحتها وينتزع العراق من يد الأحلاف المرتبطة ببريطانيا، في وقتٍ كان لبنان يعيش أزمةً سياسية ويغفو على احتمال اندلاع حربٍ أهلية حادّة. وكذا كان الأردن يعاني أزماته التي هدّدت تاجه الهاشمي.
داخل هذا الجوّ المضطرب، وجدت تركيا الفرصة سانحةً لاستمالة واشنطن وإقناعها بضرب خصوم واشنطن الجدد: سوريا والعراق. فكانت محاولة الاجتياح الثانية التي يشير الصحافي الفرنسي كريس كوتشيرا إلى الإعداد والتجهيز لها؛ فقد تحصّل على مستندٍ حصري كتب عليه «سرّي للغاية» يعود تاريخه إلى يوليو/تموز 1958 تسلّمه من أحد «المتورّطين» الأميركيين في أحداث تلك الفترة. تشير الوثيقة إلى خطّةٍ سرية أرسلها رئيس أركان القوات المسلّحة التركية فيزي مينغوج إلى رئيس الأركان الأميركي ماكسويل تايلور ومضمونها «انتشار عدة هيئات من الجيش التركي –عشرات آلاف الجنود- على جبهةٍ واسعة للغاية، في العراق وسوريا، وحتى خط العرض 35، على خطٍ يبدأ من كركوك، إلى كردستان العراق، وحتى حماة في سوريا…» (مسيرة الكرد الطويلة – دار الفارابي 2014).
يسجل كوتشيرا ملاحظته على الخطة التركية، إذ لم يتخلَ الجيش التركي يوماً عن حلم استعادة الأراضي «الممتدة من شمال خط حلب كركوك التي كانت تتمسّك بها القوات العثمانية بتاريخ هدنة مودروس أكتوبر/تشرين الأول 1918»، ذلك أن أتاتورك تمسّك بها عبر «الاتفاق الملّي» (الميثاق الوطني) الذي أقرّه المجلس الوطني عام 1920. وعليه، فإن «الجيش وبعض المثقفين القوميين المتطرفين» لم يتخلوا عن أهدافهم التوسّعية، حتى بعد سلب الإسكندرونة السورية التي لم يتجاوز عدد الأتراك فيها 40 في المئة من مجموع سكّانها.
خاتمة
لم تتوقف تركيا، مذ أُقرّت حدودها مع سوريا، عن إبداء نواياها التوسّع جنوباً. ولعل تعبير الرئيس التركي مطلع الأحداث في سوريا عام 2011 أن سوريا مهمّة للأتراك لأن لهم فيها «حلب والقامشلي» يتطابق ومحاولات تركيا التاريخية التي تمّ سردها هنا. وعلى إثر احتلال المناطق الشمالية غربي الفرات، كانت أصوات الرسميين الأتراك والمثقفين القوميين المتطرّفين تشدّد على أن ما حصل لم يكن لأجل قتال المسلّحين الكرد فحسب، إنّما مثّل التدخّل استرداداً لأراضي «الاتفاق الملّي».
يمكن إلى ذلك التذكير بتصريحٍ قريب لياسين أقطاي، مستشار الرئاسة التركية، بأنه «يجب وضع حلب تحت الإدارة التركية»، على الرغم من تراجعه ووصفه للتصريح بأنه شخصيّ تحت وطأة الحاجة التركية للتفاوض مع نظام دمشق.
بطبيعة الحال، خدع متبنّو عقيدة التوسع التركية الرأي العام السوري بشأن طبيعة أطماعهم في سوريا وتصويرها على أنها إنما لأجل حماية الأمن القومي في مواجهة التطلّعات الكردية، على الرغم من أنه لم يكن هناك تطلّعاتٍ كردية زمن سلب الإسكندرونة أو الرغبة في اجتياح سوريا أعوام 1941 و1957 و1958.
وجديرٌ بالملاحظة التذكير بأن تركيا ترى في كل شبرٍ تتحصّل عليه في سوريا مكسباً قومياً وتنفيذاً لوصايا الآباء المؤسسين للجمهورية التركية. وفي ذلك، تبرز سيرة ضريح سليمان شاه والإبقاء عليه ضمن الأراضي السورية منذ اتفاقية أنقرة 1921 بين فرنسا وتركيا، وصولاً إلى اشتراط الأتراك الإبقاء على الضريح في الأراضي السورية إبان نقله من محيط قلعة جعبر وبناء سد الفرات لينقل إلى قره قوزاك على إثر مفاوضاتٍ جادة مع دمشق عام 1973. لتسترد تركيا رفات جدّها في فبراير/شباط 2015 لفترةٍ وجيزة إبان سيطرة تنظيم داعش على المنطقة المحيطة بالضريح. ولتعيده تالياً إلى قرية أشمة القريبة من الحدود التركية. ولعل قصة الضريح تشي بالبعد النفسي لفكرة إبقاء تركيا على موطئ قدمٍ لها في سوريا.
جديرٌ بالملاحظة أيضاً أن العامل الداخلي لم يكن سبباً في رد العدوان التركي أو وقف عدوانه، بقدر ما كان الخارج سبباً في ذلك. فصحيح أن فرنسا تخلّت عن أراضٍ سورية للأتراك تبعاً لمصالحها، وصحيح أن روسيا أيضاً منحتها عفرين وكذا منحت إدارة الرئيس الأميركي الابق دونالد ترامب رأس العين/سرى كانيه وتل أبيض للأتراك، وأيضاً نزولاً عند مصالحهما، إلّا أنه لولا تدخل هذه القوى الدولية لم يكن لسوريا أن تحافظ على ما تبقّى من وحدتها الترابية في مواجهة الأطماع التركية، خاصةً أن نسيجها الاجتماعي والعرقي شديد الاهتراء ويدفع الأتراك إلى مد النفوذ من خلاله، ويُبقي على سيرة الأطماع التركية مفتوحةً إلى حين.