محمد سيد رصاص
يشتغل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على ايقاع 18 يونيو/حزيران 2023 حينما ستجري الانتخابات التركية بشقيها الرئاسي والبرلماني. وهذا الاشتغال لا يشمل فقط ما يريده أردوغان تركياً، أي البقاء رئيساً وحزباً حاكماً في السلطة، بل نراه يدير الدور التركي في الأزمة السورية على إيقاع ذلك اليوم.
يأتي هذا من أن الموضوع السوري أصبح موضوع خلاف كبير في الحياة السياسية التركية جعل أردوغان وحليفه دولت بهشلي، زعيم حزب الحركة القومية (يميل للقومية الطورانية بخلاف الأتاتوركية التي تؤمن بقومية تركية ضمن حدود جمهورية 1923)، في معسكرٍ بمواجهة معسكرٍ آخر يضم حزب الشعب الجمهوري (أتاتوركي) وحزب الشعوب الديمقراطي (يؤمن بنظرية الأمة الديمقراطية) وحزب الجيد (منشق عن الحركة القومية يميل للأتاتوركية) وحزب السعادة (إسلامي التوجه) والحزبان الجديدان لوزيري الخارجية السابقان أحمد داود أوغلو (حزب المستقبل) وعلي باباجان (حزب التقدم والديمقراطية). ويرى هذا المعسكر المناهض لأردوغان ضرورة الاستدارة التركية بعيداً عن الأزمة السورية نحو التخلي عن الانخراط التركي في تلك الأزمة عبر الاتفاق مع النظام السوري لتسليمه مناطق السيطرة التركية في الشمال والشمال الغربي السوريين ولحلٍ معه يعيد اللاجئين السوريين ويبعدهم خارج الأراضي التركية.
بالمقابل يبحث أردوغان، زعيم حزب العدالة والتنمية إسلامي التوجه، عن مسارٍ بالتوافق مع روسيا يريد من خلاله إنشاء ما يسميه خطاً أمنياً على طول الحدود السورية- التركية يُبعد من خلاله قوات سوريا الديمقراطية عن الحدود مسافة تصل إلى ثلاثين كيلومتراً. وكشف الأتراك مؤخراً عن وثيقةٍ موقعة بين أنقرة وموسكو في أوكتوبر/تشرين الأول 2019 نحو إقامة خطٍ أمني من الغرب حتى رأس العين- سري كانيه شرقاً. ويبدو أن ما أثير مؤخراً عن مشروعٍ لتوطين اللاجئين السوريين في تركيا في ذلك الخط الأمني عبر مجمعاتٍ سكنية تبنيها تركيا بتمويلٍ قطري يصب في هذا المشروع الأردوغاني.
وتدخل محاولات الرئيس التركي المصالحة مع النظام السوري تحت الرعاية الروسية في هذا الإطار. ويبدو أن الأتراك لا يمانعون وجود إدارة حكومية سورية في هذا الخط الأمني على أن يكون التحقق الأمني عبر دوريات روسية- تركية مع تطبيق اتفاقية أضنة الموقعة بين أنقرة ودمشق في 1998. ووفق مؤشراتٍ عديدة، تميل موسكو إلى هذا الطرح الأردوغاني بحكم علاقاتها مع تركيا التي تمتد إلى أبعد من الموضوع السوري لتصل إلى مصالح متداخلة أحد أعمدتها ما يحكى في أنقرة وموسكو عن مشروعٍ لجعل تركيا مركزاً لتوزيع الغاز الروسي أوروبياً وعالمياً عبر أنابيب برية وناقلات بحرية تحمل الغاز المُسيل. فيما تفضل السلطة السورية، التي تريد استرجاع سيطرتها على الشمال والشمال الغربي، الانتظار وتراهن على إزاحة أردوغان وحزبه في الانتخابات المقبلة ما دامت قوى المعارضة التركية تميل نحو النأي عن الأزمة السورية. فيما يوحي أردوغان بأنه يريد جعل الخط الأمني بمثابة شمال قبرصي ثانٍ يسيطر عليه الأتراك ولو بالتعاون مع الروس، هذا إذا ما كان للرئيس التركي مطامح لضم تلك المناطق وسلخها عن سوريا.
يقابل هذا الاصطدام بحائط دمشق الذي يواجه الرئيس التركي فشله في شن اجتياحٍ بري لمناطق في الشمال السوري مثل تل رفعت ومنبج وعين العرب- كوباني، إذ سبق وأعلن الرئيس التركي نيته اجتياحها الشهر الماضي برياً من أجل وصل الخط الأمني الحدودي الذي يتحدث عنه، ولكنه لم يستطع أن يفعل بحكم المنع الأميركي. وظهر الرئيس التركي مشلولاً الشهر الماضي وهو يهدد ويتوعد ويحدد المواعيد للهجوم البري، من دون أن يستطيع التحرك.
من الواضح هنا استعجال أردوغان حلٍ لهذا المأزق الذي وقع فيه، والذي يجعله مشلولاً عديم القدرة على الحركة نحو هدفٍ يريد من خلاله دغدغة مشاعر القوميين الأتراك الشوفينيين من ذوي الأحلام والمطامح الطورانية لكسبهم في الانتخابات. وهو هدفٌ يعتبره الرئيس التركي، إن تحقق، سيكون مدخلاً للتخلص من عبء اللاجئين السوريين في تركيا الذين يواجهون موجةً متصاعدة من الكراهية نتيجة أزمةٍ اقتصادية خانقة تعيشها تركيا.
هنا، يتوجب إجراء استعادة لخيبات أردوغان في الملف السوري منذ بدء الأزمة السورية في عام2011، إذ كان من الواضح، مع تفويضٍ أميركي آنذاك لأنقرة، بأن أردوغان سيكون في سوريا خريف 2011 ما كانه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في ليبيا ربيع 2011 عندما كان رأس حربة التدخل العسكري الأطلسي ضد نظام معمر القذافي، وأن ما منع ذلك السيناريو الأميركي- التركي الانخراط الروسي المباشر في الأزمة السورية مع الفيتو الروسي في مجلس الأمن الدولي في أكتوبر/تشرين الأول 2011 ثم إرسال قطع أسطول البحر الأسود الروسي إلى مرفأ طرطوس الشهر التالي. وحتى مع انفراط وغياب التفويض الأميركي للأتراك سوريّاً، بحكم اتجاه واشنطن في 2013 للتخلي عن رعايتها في 2011 و2012 لوصول قوى إسلامية إخوانية للسلطة في مصر وتونس، استمر أردوغان منفرداً في رعاية أحلامه ومطامحه، مستخدماً قوىً سوريّة إسلامية مدنية ومسلحة من أجل السيطرة على السلطة في دمشق عبر وكلاء محليين، على طراز ما فعلته طهران في بلاد الرافدين. وعندما اصطدم بالحائط، قام بتخفيض توقعاته ومطامحه مكتفياً، وبالتنسيق مع الروس منذ عام 2016، بالسيطرة على مناطق جرابلس- الباب- إعزاز في 2016 ومنطقة عفرين في 2018 وعلى خط تل أبيض- رأس العين (سري كانيه) في العام الذي يليه، مقابل مساعدة الأتراك للروس في إخلاء شرق حلب والغوطة وحوران وشمال حمص من المسلحين الإسلاميين . ومن الواضح الآن أن الرئيس التركي يريد وصل هذه المناطق وجعلها في خطٍ واحد حتى الغرب الإدلبي من خلال السيطرة على تل رفعت ومنبج وعين العرب- كوباني. ولكنه وجد نفسه مشلولاً عبر تجربة الشهر الماضي، ويخشى والحال كذلك أن يدمّر هذا مستقبله السياسي ويجعل نهايته السياسية في 18 يونيو/حزيران 2023.