المركز الكردي للدراسات
أجرى الرئيسان الروسي والتركي مكالمة هاتفية الأحد الماضي تناولا فيها العديد من القضايا الساخنة والمهمة بالنسبة إلى الجانبين. جاءت المكالمة تتويجاً لسلسةٍ من اللقاءات المكثّفة بين مسؤولي البلدين، آخرها الاجتماع المنعقد قبل نحو أسبوع في اسطنبول بين نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي فيرشين ونظيره التركي سيدات أونال بمشاركة عدة وفودٍ من الجانبين ولمدة يومين متواصلين. والأهم، بمشاركة المبعوث الروسي الخاص إلى سوريا الكسندر لافرانتييف، ما يشير إلى حضور الملف السوري بثقله الكبير في زحمة المحادثات المشتركة.
من جهةٍ أخرى، وإلى جانب اللقاءات السياسية، فإن الاجتماع الذي عقد الجمعة الماضي بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ومدير عام شركة «غاز بروم» الروسية الكسي ميلر (أحد أكثر المقربين من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والذي يتولى منصبه منذ 2001)، بحضور وزير الطاقة التركي فاتح دونماز، لا يقلّ أهميةً عما سبق، ويمكن اعتباره في خضم الحركة السياسية نتيجة التداخل القوي بين السياسة والطاقة في الآونة الأخيرة بشكلٍ خاص.
الطاقة تعيد تشكيل العلاقة
أدّى التخفيف التدريجي لتدابير كوفيد في الصين، وقرارات «أوبك» و«أوبك +» لجهة فرض قيودٍ على إنتاج الطاقة إلى شعور موسكو بالراحة فيما يخص بيع النفط. إلا أن قرار تحديد سقفٍ لسعر النفط الروسي المرفوض من قبل موسكو، الأسبوع الماضي، أدى إلى فوضى في حركة المرور ضمن البوسفور، إذ أشارت تقارير إعلامية تركية وعالمية إلى زيادة عدد الناقلات المنتظرة لعبور المضيق لتبلغ 20 ناقلة الجمعة الماضي.
يمكن اعتبار هذه الأزمة استمراراً للأزمة التي تعيشها موسكو لجهة تراجع الطلب على الطاقة الروسية، والغاز الروسي بشكلٍ خاص، وهو ما زاد من حاجتها إلى تركيا بموقفها الوسطي بين الغرب الضاغط وروسيا الرافضة للإملاءات والقرارات الغربية.
لا شك أن لقاء المدير العام لشركة «غاز بروم» مع الرئيس التركي، من دون الالتفات إلى مبدأ التناظر في المناصب، يشير إلى الأهمية التي توليها أنقرة للغاز الروسي والخطط المرتبطة به بشكلٍ مباشر. وبحسب المعلومات التي حصل عليها المركز الكردي للدراسات من شخصياتٍ تركية وروسية متابعة لملف الطاقة بين البلدين، طلب الجانب التركي من «غاز بروم» حسماً بقيمة 25 في المئة على الغاز الذي استجرّته تركيا خلال عام 2022 وما ستقوم باستجراره في 2023. كما طالبت أنقرة بالبدء بدفع مستحقات كميات الغاز لعامي 2022 و2023 بدءاً من 2024 وعلى دفعاتٍ، من أجل فك الخناق المالي عن أردوغان حتى الانتهاء من الاستحقاق الانتخابي. كما طلبت تركيا من روسيا زيادة كميات الغاز المصدر إليها بمقدار ثلاثة مليار متر مكعب العام المقبل. ويعتقد أن السبب في ذلك الرغبة التركية في التحرر من النفوذ الإيراني على القرار السياسي التركي عبر ورقة الغاز.
لا تفرض تركيا حظراً على الطاقة الروسية، ما يتيح لها إمكانية شراء النفط الروسي بسعرٍ مخفض. باشرت تركيا بشراء كمياتٍ قياسية من النفط الروسي الخام وتكريره على أراضيها، إذ أدرج البنزين التركي في السوق المحلية للمرة الأولى. وبلغت نسبة اعتماد تركيا على النفط الروسي العام الماضي قرابة 14 في المئة، لترتفع العام الجاري إلى نحو 47 في المئة. في المقابل، ووفق المصادر ذاتها، طلب الجانب الروسي من تركيا التوسّط من أجل بيع الغاز الروسي إلى الدول الأوروبية، حتى ولو بكمياتٍ قليلة. وبالتالي، الإسراع في مشروع جعل تركيا مركزاً لتوزيع الغاز، إذ تعاني روسيا من تراجعٍ في الطلب على غازها المكدّس بكمياتٍ كبيرة نتيجة تراجع الطلب الأوروبي عليه. وحاولت موسكو استدراك ذلك بزيادة الكميات المصدّرة إلى الصين برفعها إلى أكثر من 16 في المئة مقارنةً بالكميات السابقة والتصدير إلى الهند. ولكن حتى الآن، لا يزال الطلب على الغاز الروسي أقل بكثيرٍ من الكميات المتوفرة، أو تلك التي كان يتم تصديرها سابقاً. ويعتقد الروس أن بإمكان تركيا بيع الغاز الروسي إلى أوروبا، أو في شرق القارة على الأقل. وأكدت المصادر أن الجانب التركي أطلع موسكو على خططه في زيادة كميات الغاز الأذربيجاني المصدّر إلى تركيا، بالإضافة إلى عزم أردوغان زيارة تركمانستان خلال الأيام المقبلة من أجل التباحث في إمكانية إيصال الغاز منها مسالاً عبر بحر قزوين إلى أذربيجان ليتم لاحقاً ضخّه بشكله المسال عبر خط أنابيب جيهان إلى تركيا.
وتهدف أنقرة من خلال هذه الخطوة إلى التمويه على كون الغاز المراد تصديره إلى أوروبا من منشأ روسي بالمطلق، بل الايحاء بأنه غاز مجمّع من عدة مصادر، للتحرر من الضغوطات المتزايدة لاجبارها، كدولةٍ أطلسية وعضو في البرلمان الأوربي، للامتثال إلى العقوبات الغربية على موسكو. كما عرضت تركيا على الجانب الروسي أيضاً، والكلام للمصادر التي تواصل معها المركز الكردي للدراسات، البحث في امكانية استخراج الغاز من قبالة سواحل البحر الأسود، ولو بكمياتٍ قليلة، من أجل التأكيد على تحوّل تركيا إلى مركزٍ لتوزيع الغاز في عيون الغرب، وليس ممراً للغاز الروسي فقط. وردّ الجانب الروسي على المطالب التركية بتبيان رغبته في دراسة هذه المواضيع بتأن، ولكن مع التأكيد على شرط التوافق بشأن الجهة الراغبة بشراء الغاز، وألا تكون تركيا وحدها صاحبة القرار في ذلك، علماً أن روسيا تؤمّن ما يقارب نصف احتياج تركيا من الغاز. في العام الماضي، تم تأمين 59 مليار مترٍ مكعب من الغاز الروسي إلى تركيا. ومن المحتمل أن تبلغ فاتورة الغاز هذا العام قرابة 100 مليار دولار. ومن المهم الإشارة إلى أن بيان الكرملين للمحادثة الهاتفية بين بوتين وأردوغان تطرق أيضاً إلى لقاء ميلر مع أردوغان، ما يؤكد وجود نيةٍ جدية لدى الطرفين للمضي قدماً في تنفيذ الأفكار المطروحة. وفي حال تحولت تركيا إلى مركزٍ للغاز المصدّر إلى أوربا، فهذا يعني ورقةً تركية إضافية ضد الغرب، إلى جانب ورقة اللاجئين، لما للطاقة من أهميةٍ سياسية واستراتيجية، بشكلٍ خاص بالنسبة إلى أوروبا حالياً، خاصةً أن الغاز الروسي سيبقى أقل كلفةً بالنسبة إلى الأوروبيين من الغاز الأميركي، وأسهل نقلاً من القطري.
موسكو تراهن على أردوغان
من المتوقع أن يصل حجم التبادل التجاري بين روسيا وتركيا إلى رقمٍ قياسي هذا العام متجاوزاً 80 مليار دولار، لعاملين مهمين: أولهما قيام روسيا بتجارتها مع أوروبا عبر تركيا التي باتت تشكّل نافذتها الوحيدة مع الغرب، وثانياً، بسبب ارتفاع أسعار الطاقة عالمياً. ويرى السياسي الروسي ألكسي بوشكوف أن أهم ثلاث دول بالنسبة إلى روسيا اليوم هي الصين والهند وتركيا. وبعد الحرب الأوكرانية، أصبحت تركيا النافذة الوحيدة لروسيا المفتوحة على الغرب. كما تولي موسكو أهميةً كبيرة لحقيقة عدم مشاركة حكومة حزب العدالة والتنمية في الحظر الغربي عليها، وهو ما يدفعها إلى إيلاء أهميةٍ كبيرة لاستمرار التجارة مع تركيا ومنح تراخيص للشركات الروسية للعمل على أراضيها وفتح مكاتب تمثيل للعديد من الشركات الروسية، وإبقاء جسر السياحة مفتوحاً.
وزادت عملية «ممر الحبوب»، التي تضمن نقل المنتجات الزراعية الروسية إلى السوق العالمية، من تعاطف موسكو مع الحكومة التركية. وفي إشارةٍ إلى حزب العدالة والتنمية، يلخّص بوشكوف العلاقة الروسية معها بالقول: «نحن نعلم ما نريده منهم، وهم يفهمون ما نريد». وطلب الجانب الروسي من نظيره التركي خلال المباحثات الأخيرة توزيع الحبوب الروسية إلى الدول الراغبة في شرائها، مقابل تجديد اتفاقية اخراج الحبوب الأوكرانية. وتسعى روسيا بهذه الخطوة إلى التحرر من العقوبات المفروضة عليها وعلى عملية الشحن وتأمين البواخر من قبل الدول الغربية من خلال الايحاء بقيام تركيا ببيع الحبوب إلى الدول التي تخشى التعامل مع موسكو بشكلٍ مباشر.
وفي هذا الصدد، من المهم الإشارة إلى الزيارة التي قام بها فيرشين إلى مركز العمليات المشتركة بين روسيا وتركيا وأوكرانيا والأمم المتحدة من أجل تنسيق عملية ممر الحبوب الأوكرانية. ويعتَقد بأن المركز يقع داخل كلية الدفاع الوطني التابعة لوزارة الدفاع التركية. ومن القضايا الملحّة التي تثير اهتمام روسيا بالنسبة إلى جارتها التركية انتخابات عام 2023. تخشى موسكو وصول قوّةٍ أميركية وحلفاء لواشنطن إلى السلطة في تركيا خلفاً لحزب العدالة والتنمية. وبالتالي، تخشى احتمال مشاركة خليفة السلطة الحالية في العقوبات التي يفرضها الغرب على روسيا. وفي الوقت نفسه، لا يوجد حزبٌ تركي آخر، باستثناء «العدالة والتنمية»، على تواصلٍ مع النخب الروسية وإدارة بوتين. إن حقيقة عدم وجود مكتبٍ تمثيلي أو ممثلٍ عن حزب الشعب الجمهوري في موسكو، على غرار ذاك الذي في واشنطن، تزيد من شكوك الإدارة الروسية. وتعتزم موسكو استثمار مليارات الدولارات في مشاريع ضخمةٍ في تركيا، مثل محطة مرسين أكويو للطاقة النووية وأنابيب النفط والغاز الطبيعي، وغيرها. بالمقابل، تعتمد حكومة حزب العدالة والتنمية، التي تراجع الدعم الغربي لها إلى حدٍ كبير، على موسكو من أجل إطالة حياتها السياسية والتعويض عن فقدان جزءٍ من شعبيّتها في الداخل. بهذا المعنى، فإن أهم ديناميكية وقوة خارجية تساهم في ابقاء حكومة أردوغان وحزب العدالة والتنمية على قيد الحياة على أبوب انتخابات 2023 هي روسيا.
سوريا ملعب خصب
من اللافت في البيان الصادر عن الخارجية الروسية، عقب المكالمة الهاتفية بين الرئيس الروسي ونظيره التركي، التأكيد على تباحث الجانبين في موضوع توسيع الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي. ليس من الواضح سبب مناقشة هذه القضية مع تركيا، وعما اذا كانت روسيا ترغب في ضم تركيا إلى مجلس الأمن كعضوٍ دائم أم لا، لكن يُعتبر ذكر هذه المسألة سابقةً في المباحثات بين البلدين. فمن المعروف أن موسكو تحاول منذ مدة طويلة ضم عدد من الدول، مثل الهند، إلى العضوية الدائمة لمجلس الأمن. كما أنها أعلنت مراراً ضرورة انضمام دول، هي في الأصل لا تكن الود لموسكو، مثل ألمانيا واليابان، إلى مجلس الأمن. يُعتقد أن السبب وراء الحملة الروسية هذه إعطاء أوربا ثقلاً أكبر في القرار الأممي كوسيلةٍ قد تكون ناجعةً لتحرير قرارها السياسي من الهيمنة الأميركية، بالإضافة إلى توزيع مراكز الثقل الدولي خارج القارتين الأميركية والأوروبية، بحيث تكون للقارة الآسيوية حظوتها أيضاً. قد ترى روسيا مصلحةً ما في انضمام تركيا إلى مثل هذا المسار. وقد يكون الاقتراح المذكور مناورة روسية لإحراج الدول الغربية أمام أنقرة من خلال رفض هذه الدول طموح الأخيرة في الانضمام إلى النادي العالمي للدول الأكثر قوة.
هناك مسألةٌ أخرى من المهم الوقوف عندها ألا وهي إشارة البيانين الصادرين عن الكرملين والرئاسة التركية إلى ضرورة الالتزام ببنود اتفاقية سوتشي 2019، والقاضية بوجوب تراجع قوات سوريا الديمقراطية جنوباً لمسافة 30 كيلومتراً عن الحدود السورية. اللافت في هذا الإعلان، الاستناد إلى بنود اتفاقية سوتشي 2019 وليس سوتشي 2018، التي تقضي بضرورة قيام تركيا فرز ما يسمى بالمعارضة المعتدلة عن المتطرفة وفتح طريق «إم 4» بين حلب واللاذقية. ويعني الاستناد إلى سوتشي 2019، بدلاً من 2018، عدم مطالبة تركيا الإيفاء بالتزاماتها الخاصة فرز المعارضة وفتح الطريق الدولي، والتركيز على الالتزامات الروسية فقط، وهو ما يمكن أن يشكّل مدخلاً لعمليةٍ عسكرية تركية تحت ستار فشل موسكو في الايفاء بوعودها لأنقرة والزعم بعدم التزام قوات سوريا الديمقراطية بالوعود التي قطعتها لروسيا مقابل ضمان الأخيرة استمرار وقف إطلاق النار في شمال سوريا. وتطّرق البيان أيضاً إلى الاتفاق على استمرار اللقاءات بين الجانبين على مستوى الوفود الأمنية والعسكرية، ما يعني إمكانية وجود مسارٍ تفاوضي على عمليةٍ عسكرية تركية والحاجة إلى البحث في تفاصيل هذه العملية، وليس رفضها من الأساس كما كان الوضع سابقاً.
توحي البنود السابقة انتقال روسيا من مرحلة رفض أي عملٍ عسكري في سوريا، كقرارٍ استراتيجي، إلى مستوى تكتيكي قائم على النظر في المنافع التي يمكن أن تحققها مقابل منح تركيا الضوء الأخضر. لا تخص هذه المنافع الوضع السوري فحسب بل تتجاوز سوريا إلى جميع الملفات التي تتعلق بالعلاقات الروسية-التركية، وصولاً إلى رغبة بوتين في حسم أردوغان للانتخابات المقبلة لصالحه.
ستكون العملية العسكرية التركية، في حال الموافقة الروسية، موجّهة إلى كوباني بالدرجة الأولى، لأنها وإن كانت تقع في المجال الحيوي للسيطرة الروسية، لكنها لا تقع ضمن نطاق إحكام السيطرة الروسية عليها، كما هو الحال في منطقتي تل رفعت ومنبح. بالمقابل، ستزيد هذه العملية الشرخ بين تركيا والولايات المتحدة التي ستجد نفسها محرجةً أمام الهجوم التركي على مهد تحالفها مع قوات سوريا الديمقراطية. ويجب ألا ننسى أن الجيش السوري استطاع الدخول للمرة الأولى إلى العديد من المناطق التي سيطرت عليها قوات سوريا الديمقراطية بعد الهجوم التركي عام 2019.
يتزايد الاعتقاد لدى المحللين الروس والأتراك، ممن تواصل معهم المركز الكردي للدراسات من اجل إنجاز هذه القراءة، بأن روسيا منحت “الضوء البرتقالي” إلى تركيا بانتظار انتهاء المفاوضات التي ستحدد ما إن كان اللون سينقلب إلى الأحمر أم الأخضر.