هل ستطعن الانتفاضة الإيرانية حقوق الكرد مجدداً؟

هوجين عزيز

خلّف اغتيال الشابة الكردية جينا أميني(مهسا) في السادس عشر من سبتمبر/أيلول واحدة من أقوى الانتفاضات في إيران حتى الآن تنديداً بسياسات الهوية الإيرانية، ممتدةً أيضاً إلى المستوى الدولي. ومع انتشار المتظاهرين في شوارع إيران في عشرات المدن والبلدات، تحول اسم جينا أميني إلى صرخةٍ من أجل التحرير والحرية للنساء والطلاب وشرائح أخرى من المجتمع. وطالب البعض بتحرير كافة المجتمعات المضطهدة والمهمشة، فيما دعا البعض الآخر إلى الوحدة الوطنية تحت شعار «أمة واحدة، علم واحد».

مع ازدياد قوة الاحتجاجات، أظهر الكرد في إيران، وهم أكبر مجموعة أقلية عرقية وشريحة مضطهدة ومهمشة منذ فترة طويلة، استياءهم من إخفاء الهوية الكردية للشابة مهسا، وخرجوا منددين بشعارات كردية مثل «جين، جيان، آزادي» وتعني «نساء، حياة، حرية». قد يكون اغتيال جينا الشعرة التي قصمت ظهر البعير، في وقتٍ يخرج الهدف الرئيسي للانتفاضة الشعبية عن مساره.

تسلط هذه التوترات الضوء على تاريخ اضطهاد الكرد في إيران بشكلٍ خاص، وإلى جهود الأمة الكردية الأوسع في الاستقلال الثقافي.

تاريخ القمع

منذ فرض اتفاقية سايكس- بيكو في أوائل القرن العشرين، انقسم الكرد بين إيران وتركيا والعراق وسوريا والاتحاد السوفيتي. جاء تقسيمهم كسياسة استعمارية أدت منذ ذلك الحين إلى عقودٍ من القمع والتطهير العرقي وصلت حد الإبادة الجماعية. لم يكن أداء الكرد في إيران أفضل من نظرائهم في العراق أو سوريا أو تركيا. في أوائل القرن العشرين، اكتسبت القومية الكردية دعماً شعبياً. وبعد خطاب ]الرئيس الأميركي[ وودرو ويلسون المكون من أربع عشرة نقطة والذي يتلخّص بحصول المستعمرات السابقة على الاستقلال، ظهرت حركة قوية نحو تقرير المصير لدى الكرد. انخرط نظام ]الشاه[ البهلوي، مثل الدول المجاورة له، في سياسات التفريس القمعية تجاه الأقليات العرقية والدينية المختلفة إلى حدٍ ما عن مركزية السلطة والحكومة. أدت السياسات العنصرية والإقصائية، مثل الثورة الدستورية 1905-1911 المصمَمة لتعزيز اللغة والهوية الفارسية فوق الجماعات العرقية والدينية الأخرى، إلى زيادة عزل الكرد عن الحكومة المركزية. لكن على الرغم من ذلك، استمر الكرد في الدفاع عن حقوقهم العرقية والثقافية داخل إيران.

أدت التمردات الكردية عبر حدود تركيا والعراق، كما في انتفاضة الشيخ عبيد الله في 1879-1881 ضد الإمبراطورية العثمانية أولاً ثم إيران القاجارية ومحاولات تمردات البارزاني، إلى انتفاضاتٍ مماثلة في روجيلات ” كردستان إيران”، إذ كانت تمرد سمكو شكاك عام 1918 وثورة جمهورية مهاباد عام 1946 نتيجةً للجهود الكبيرة التي بذلها الكرد من أجل الحكم الذاتي والاستقلال.

ما زالت الجهود الانفصالية الكردية مكثفة ومستمرة منذ عام 1918 وحتى الآن، فيما زادت الحكومات المركزية من العنف تجاههم. في نهاية المطاف، تم قمع جمهورية مهاباد بوحشية، حيث شنق زعيمها الرئيس قاضي محمد والعديد من نظرائه المقربين علناً في الساحات. عاشت الجمهورية الناشئة 11 شهراً فقط، لكنها تمكنت من تشكيل مؤسسات حاكمة، وأزالت الشرطة الإيرانية بقواتها الكردية الخاصة، فضلاً عن ترسيخها اللغة الكردية لغةً رسمية. وبهذا، تركت مهاباد انطباعاً قوياً وعزيمةً للاستقلال بسبب نجاحها خلال فترةٍ قصيرة و نهايتها الوحشية.

ومن الأمثلة البارزة التي لعبت دوراً في الانتفاضة الإيرانية اليوم، مشاركة الكرد في ثورة 1979، والتي كانت ثورة شعبية جماهيرية أدت إلى إزاحة سلالة بهلوي تحت حكم الشاه محمد رضا بهلوي، ونتج عنها إنشاء الجمهورية الإسلامية في ظل حكم رجال الدين تحت راية آية الله الخميني. استولى رجال الدين على الثورة في اللحظة الأخيرة، على الرغم من حقيقة أن الانتفاضة تضمنت مجموعاتٍ يسارية وعلمانية ودينية متعددة. إلا أن الحكم الديني الجديد أطاح بالعلمانية واستبدل نظام البهلوي القمعي السلطوي المؤيد للغرب بنظامٍ ثيوقراطي مناهض للغرب تأسس على فكرة وصاية الفقهاء الإسلاميين. لم تقتصر هذه الوصاية الجديدة على إحياء الطائفة الشيعية المهمشة منذ فترة طويلة في الشرق الأوسط فحسب، بل صورت إيران على أنها حامية للهوية الإسلامية، وإن كانت شيعية.

كانت نتائج ثورة 1979 كارثية بالنسبة إلى الكرد، الذين شاركوا فيها بشكلٍ واسع ضمن صفوف الجماعات اليسارية والماركسية والعلمانية. لم يقتصر الأمر على كون الكرد علمانيين في المقام الأول، ولكنهم كانوا في الغالب من أتباع الطائفة السنّية أو دياناتٍ أخرى مثل اليارسانية أو البهائية أو اليهودية. على الرغم من أنه كانت هناك في البداية دعواتٍ لمزيد من الحقوق الكردية وحتى الحكم الذاتي، إلا أن الحوار بين الأحزاب الكردية والحكومة المركزية سرعان ما انهار. أدى خطاب بارز ألقاه الخميني رفض فيه فكرة الأقليات الموجودة في إيران واعتبارها غير إسلامية إلى فتوى دينية ضد الكرد. وصدرت الفتوى في أغسطس/آب عام 1979 تجيز قتل الكرد لكونهم كفاراً وانفصاليين. وكانت النتيجة حرباً وحشية ومستمرة ضد الكرد استُخدمت فيها الدبابات والمدافع والقوات المسلحة في المناطق الكردية وبدأت بذبح المدنيين.

كما أرسل الخميني أتباعه المخلصين، وأبرزهم آية الله صادق خلخالي الذي تمت ترقيته إلى رئيس محكمة الثورة الإسلامية والمعروف بلقب «القاضي الأحمر»، من أجل إعدام أكبر عددٍ ممكن من السجناء السياسيين الكرد بمن فيهم النساء والأطفال. ومع حرب القمع، تم اعتقال المزيد من الكرد وتعذيبهم وشنقهم على مر السنين.

لم تكن الحرب ضد الكرد عسكريةً فقط، بل كان هناك إجراءات اقتصادية واجتماعية تستهدفهم لإبقاء المناطق التي يسيطرون عليها متأذية وتفتقر إلى  التعليم والرعاية الصحية. ظلت المنطقة، مقارنةً ببقية إيران، متخلفة ومحرومة من الكثير من الحقوق، إذ رفض رجال الدين الحقوق الكردية سواءً تتعلق بالملابس أو اللغة، وأصبح التفريس مرادفاً لإبادة الكرد ثقافياً.

وبالمثل، في أجزاءٍ أخرى من كردستان، بما في ذلك في تركيا وسوريا والعراق، نفّذت الأنظمة المختلفة نفس السياسات. في تركيا، خُدع العديد من الكرد بوعد الجنرال التركي مصطفى كمال بدولةٍ كردية وتركيةٍ مشتركة. في السابق، تم قمع الحركات القومية الكردية للأمير محمد من رواندوز عام 1839 وحركة بدير خان باشا من بوتان عام 1847 بوحشية بمساعدة الجيوش الألمانية والبريطانية. ومع ذلك، انضم الكرد إلى الأتراك. ولكن، عندما تم إنشاء الدولة التركية الجديدة في يوليو/تموز 1923 إثر معاهدة لوزان، صُدم الكرد بعدما انتهك مصطفى كمال اتفاقه معهم وحظر على الفور الهوية واللغة والملابس والموسيقى الكردية. استمرت الانتفاضات الشعبية اللاحقة التي قام بها الكرد، بما في ذلك انتفاضات الشيخ سعيد عام 1925 وانتفاضات جبل أرارات عام 1927-1930 وانتفاضات ديرسم في 1936-1939. وكما هي العادة، تمت مواجهة هذه الانتفاضات بوحشية.

كرد العراق

لقي الكرد في العراق نفس المصير حينما تخلت القوى الاستعمارية للحكومات البريطانية والأميركية والفرنسية عن الحكم الذاتي الكردي مقابل العائدات النفطية. تشكّلت الدولة العراقية في أعقاب اتفاقية سايكس- بيكو بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، فيما تم إعطاء وعود بالحكم الذاتي للكرد. بحلول عام 1920 مع معاهدة سيفر، ثم أخيراً مع معاهدة لوزان، تم القضاء على آمال الحكم الذاتي أو الاستقلال لكرد العراق.

عانى كرد العراق عقوداً من الحروب والعنف والتهجير والتطهير العرقي بلغت ذروتها في حملة الأنفال الشائنة التي أطلقها ]الرئيس العراقي الأسبق[ صدام حسين في الفترة من 1987 إلى 1989، والتي تضمنت سياسات التعريب وتدمير آلاف القرى الكردية وعمليات التهجير القسرية وإعدام الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و60 عاماً، فضلاً عن استخدام الأسلحة الكيماوية. في عام 1991، انتفض الكرد والشيعة في العراق بشكلٍ جماعي ضد التعاطي الهمجي لنظام صدام مع الطائفتين بعد دعوة بهذا الصدد إدارة ]الرئيس الأميركي الأسبق جورج[ بوش ]الأب[. استمرت الانتفاضات من مارس/آذار إلى أبريل/نيسان. ولكن تم قمعها بوحشية من قبل الحرس الجمهوري. وكانت النتيجة تهجير أكثر من مليوني كردي ومقتل عشرات الآلاف وإعدامهم وسجنهم وتعذيبهم.

في الآونة الأخيرة، مع ظهور تنظيم داعش في العراق وبلاد الشام، أطلق الكرد حركة مقاومة أسفرت عن حصار مدينة كوباني في شمال سوريا، والتي تسمى أيضاً «روج آفا» باللغة الكردية. بعد اندلاع الحرب الأهلية السورية في 2012، أطلق الكرد الحكم الذاتي المستقل وشكّلوا وحدات حماية الشعب (YPG) ووحدات حماية المرأة (YPG).

في الأعوام التالية، شكّل الكرد نموذجاً علمانياً ديمقراطياً جامعاً تأسس على ركائز شملت المساواة بين الجنسين والتعددية الديمقراطية. وتمخض بالتالي واحدة من أكثر المناطق ديمقراطيةً وشمولية في العالم تعرضت إلى قمعٍ مستمرٍ من قبل النظام التركي عبر الحدود. لم يوفر نظام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أي فرصة لشن حملات الضم العنيفة والوحشية ضد الكرد في «روج آفا» وكذلك في «باشور» ( كردستان العراق).

ضمت تركيا عفرين إلى جانب مناطق أخرى مهمة، مع تمكين وتسليح الجماعات الإرهابية العنيفة في سوريا لمحاربة الكرد. بحلول أواخر 2019، فقد الكرد أكثر من 12000 من قواتهم في القتال ضد تنظيم داعش، وهم عملوا منذ عام 2014 عن كثب مع الجيش الأميركي في محاربة التنظيم مقابل حمايتهم من التوغلات والغزوات التركية. ومع ذلك، بحلول أكتوبر/ تشرين الأول 2019، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن الولايات المتحدة ستسحب قواتها من المنطقة في محاولةٍ للسماح لتركيا بغزو المنطقة. تم إخلاء المنطقة إلى حدٍ كبير من الجنود الأميركيين الذين شكّلوا حاجزاً ضد الغزو التركي، وشنّت تركيا غزواً وحشياً وحملةً عسكرية استخدمت فيها الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين. على خلفية ذلك، أدان جو بايدن (الذي لم يكن رئيساً حينها) بشدة خيانة ترامب الكرد، لكنه اتبع  نفس النهج حيالهم عندما أصبح رئيساً، وسمح لتركيا بالهجمات والضربات الجوية المستمرة.

إن التزام الكرد الطويل والراسخ بالحرية يقابله مرات عديدة تعرضوا فيها إلى الخيانة عبر التاريخ. يبقى السؤال، هل ستكرر الانتفاضة الإيرانية الحالية، التي لا تزال تبدو من دون قيادة، دورة الخيانة نفسها في الماضي؟ بعد تجاربهم السابقة يجب أن يبقى الكرد حذرين، خاصةً في ضوء محو كردية مهسا أميني واختزالها على أنها مجرد امرأة إيرانية.

نشر الأستاذ المساعد في دراسات الشرق الأوسط والإعلام في جامعة تكساس، ناهد سيامدوست، مؤخرا مقالاً بعنوان ” المرأة والحياة والحرية” شعار مائة عام في طور التكوين» ناقش فيه نشاط المرأة الإيرانية في المئة عام الماضية. ومن المثير للاهتمام أن المقال لم يذكر الكرد أو كردستان أو أن أميني كردية، ولو لمرة واحدة، ولا معاناة الأقليات العرقية والدينية من سياسات الدولة القمعية في إيران، ولا أن الأغلبية التي قُتلت خلال الاحتجاجات تتحدر من مجتمعات البلوش والكرد. يتوجب على الحركة الإيرانية أن تنبذ بشدة تكرار الممارسات الاستعمارية المتمثلة في المحو والاستيلاء الثقافي، حتى لا تفقد ثقة الكرد.

لا أصدقاء سوى الجبال

يشير الملخص الموجز للتاريخ الكردي الحديث إلى أن الكرد غالباً ما يتم استغلالهم في الحركات الديمقراطية الشعبية والانتفاضات. وفي كل مرة، يجدون أنفسهم عرضةً لقمعٍ وتهميشٍ أكثر من ذي قبل. في ضوء هذا التاريخ الوحشي والدامي، من الضروري أن يتخذ كرد إيران موقعاً متميزاً يتم فيه حماية حقوقهم بعد الثورة. يجب ألا يسمحوا للتاريخ بأن يعيد نفسه. لهذا السبب، يحتاج كرد إيران إلى صياغة خطة تتعلق بنوع الحكم الذاتي أو الحقوق الثقافية التي يحتاجون إليها. ربما تستلزم هذه الرؤية نظاماً فيدرالياً مثل ذلك الذي يمارسه الكرد في «روج آفا»، أو ربما تستلزم شكلاً من أشكال الحكم الذاتي كما يعيش الكرد في العراق حالياً. في كلتا الحالتين، توجد العديد من النماذج والأمثلة التي يمكن للكرد أن يقتدوا بها.

العامل الحاسم في الانتفاضة اليوم يشمل الفرس وغيرهم، إذ أثبت التاريخ أن الانتفاضات الشعبية في معظم الأحيان تصبح نسخاً مطابقة للأنظمة الوحشية والاستبدادية للنظام السابق. وتوجد بالفعل عناصر من هذا الاتجاه المقلق داخل الانتفاضات، في وقت حُرم المتظاهرون الكرد من الحق في التحدث وإعلان كرديتهم ورفع الأعلام الكردية أو حتى تم إسكاتهم في الاحتجاجات بشعار «أمة واحدة، علم واحد».

إذا أريد للانتفاضة الإيرانية الحالية أن تكون ناجحة وديمقراطية في نهاية المطاف، يجب أن تأخذ العنصر الكردي وتضحياته ومشاركته في الاحتجاجات في الاعتبار. وبالمثل، يجب أيضاً مراعاة المجتمعات المهمشة الأخرى مثل البلوش واللور وغيرهم، كما يتوجب اتخاذ جميع الخطوات لضمان حماية حقوقهم وسلامتهم الثقافية.

هناك شيءٌ واحد مؤكد: احتجاجات 2022 في إيران لا يمكن أن تكون تكراراً لثورة 1979. لا يمكن التضحية بحقوق الإنسان والحقوق الثقافية وحقوق المرأة والأطفال والبيئة والحيوان لصالح إرادة وأهواء النخبة المسيطرة.

هوجين عزيز، استاذة العلوم السياسية.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد