اللامبالاة الدولية بالأزمة السورية

محمد سيد رصاص

عقب هجمات باريس في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، قال وزير فرنسي العبارة التالية: «عود الثقاب الذي اشتعل في باريس تم قدحه في الرقة»، في إشارةٍ إلى مدينة الرقة التي كانت يومها عاصمة تنظيم داعش الذي تبنى الهجمات. في 18 ديسمبر/كانون الأول من نفس العام، أصدر مجلس الأمن القرار رقم 2254 الذي وضع خريطة طريق لحل الأزمة السورية، إذ تم تحديد مفاوضات بدأت في الشهر التالي مدتها ستة شهور تنتهي في الشهر السابع عام 2016. كانت هناك الكثير من المؤشرات على أن التوافق الأميركي- الروسي لحل الأزمة السورية سيتجه نحو فرض  حل على نموذج اتفاق دايتون في يوغسلافيا السابقة عام 1995 حينما فُرض حلٌ دولي على الأطراف المحلية المتصارعة. لذلك، دفعت تركيا، التي كانت في خصومة مزدوجة مع واشنطن وموسكو آنذاك، منسق «الهيئة العليا للمفاوضات» المعارضة رياض حجاب إلى الانسحاب من مفاوضات جنيف3 مع السلطة السورية في أبريل/نيسان 2016 من أجل إفشال حلٍ سوري بصدد فرضه من قبل واشنطن وموسكو، رأته أنقرة لغير صالحها.

وعندما سيطر «داعش» على مجرى نهر الفرات في سوريا والعراق من جرابلس حتى الفلوجة، إضافةً إلى الموصل، في صيف 2014، تشكّل تحالفٌ دولي خريف ذلك العام لمجابهة التنظيم. ودفع هدف هزيمة التنظيم واشنطن وموسكو إلى التلاقي على اعتباره مصلحةً مشتركة، بعد تباعدهما إثر أزمة القرم في أوكرانيا في مارس/آذار 2014. كما أن تمدد المعارضة الإسلامية المسلّحة في سوريا وسيطرتها على محافظة إدلب وأقسام واسعة من منطقة الغاب في ربيع وصيف 2015 دفع واشنطن إلى منح الضوء الأخضر للتدخل العسكري الروسي في سبتمبر/أيلول 2015 أو ممارسة «الصمت الموافق» حياله، وهو ما تُرجم لاحقاً في لقائي فيينا في أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني 2015، إذ ظهر تفاهم أولي بين الأميركيين والروس لحل الأزمة السورية تمثّل في القرار 2254.

هنا، برز تمدد «داعش» في سوريا والعراق وتمدد الاسلاميين في إدلب والغاب كدافعٍ لهذا الاهتمام الدولي المستجد لحل الأزمة السورية، وما رافق هذا التمدد بقطع طريق دمشق- حمص من قبل مسلحي «جيش الاسلام» في دوما في سبتمبر/أيلول 2015 ثم امتداد شرارة «داعش» إلى الغرب مع هجمات باريس. قبل هذا الاهتمام، وضعت الأزمة السورية في الثلاجة جرّاء الخلاف الأميركي-الروسي على خلفية النزاع في أوكرانيا، ما قاد حينها إلى انهيار مفاوضات جنيف2 التي بنيت على تفاهمٍ بين البلدين جسّده القرار 2118 في 27 سبتمبر/أيلول 2013 الذي دعا إلى عقد جنيف2 من أجل تنفي بيان جنيف1. والقرار الدولي ذاته، أتى بعد الاتفاق الأميركي- الروسي فيما يخص الترسانة الكيماوية السورية في 14 سبتمبر/أيلول.

ومن الضروري في هذا الصدد، الإشارة إلى أن الصدام الأميركي- الروسي كان واضحاً في سوريا منذ ممارسة موسكو حق النقض في مجلس الأمن في أكتوبر/تشرين الأول 2011، تلاه إمداد الأميركيين المعارضة السورية بالسلاح بشكلٍ مباشر وغير مباشر، فيما وقف الروس بقوةٍ مع السلطة السورية سياسياً وعسكرياً. ولم يتلاقى البيت الأبيض والكرملين سوى في ربيع 2013 في ظل اتفاق كيري- لافروف في مايو/أيار 2013 في موسكو الذي نصّ على تفعيل بيان جنيف1 الصادر في يونيو/حزيران 2012 الذي بقى حبراً على ورق، ثم تفعّل مع اتفاق الكيماوي السوري والقرار 2118 وجنيف2.

عملياً، جاء اتفاق كيري- لافروف نتيجة تراجع واشنطن عن دعم الحركات الإسلامية الإخوانية التي منحتها الضوء الأخضر للوصول إلى السلطة في تونس ومصر عامي 2011 و2012، وهو ما دفع الأميركيين والروس إلى التقارب لاحقاً. لكن هذا البعد الأميركي عن الإسلاميين، الذي جاء بالتوازي مع تنحي أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني وسقوط حكم الإخوان المسلمون في القاهرة، أدى إلى توتر العلاقات بأنقرة على اعتبار أن الاتفاق مع لافروف عنى فيما عنى رفع المظّلة الأميركية عن الدور التركي في سوريا وبدء مرحلة تعاون بين واشنطن وموسكو في سوريا لم يعكّره سوى الفاصل الأوكراني في 2014 قبل أن يعيد «داعش» التقارب ومعه كذلك الاتفاق على منع المسلحين الإسلاميين السوريين المعارضين من الانتصار.

في هذا الصدد، يلاحظ كيف تنطلق محرّكات حلول الأزمة السورية مع اتفاق واشنطن وموسكو في القرارين 2118 و2254. ولكن في الأعوام الستة الماضية، انطفأت تلك المحرّكات، في حين برز توترٌ مكتوم بين 2017 و2021، من مظاهره بناء قواعد عسكرية أميركية في شرق الفرات منذ 2017 لمواجهة الوجود العسكري الروسي إنما من دون تصادم، وإن كان واضحاً أنه بالضد منه. وعليه، تبدو سوريا الدولة الوحيدة في العالم التي قواعد عسكرية أميركية وروسية في آنٍ، في تعبيرٍ عن حالة تضادية، تزامنت مع تعطّلٍ منذ 2017 لأي تلاقٍ على الحل في سوريا على عكس ما حصل حينما رأى القراران 2118 و2254 النور. وأتى كل ذلك في ظل تصريحاتٍ أميركية بجعل سوريا «مستنقعاً» للروس ومع اتجاهٍ أميركي بتحويل المناطق السورية التي يتواجد فيها الروس إلى مناطق مأزومة اقتصادياً من خلال عقوبات قانون قيصر الذي بدأ تطبيقه في يونيو/حزيران 2020. وعملياً، تمسك واشنطن، من خلال وجودها في شرق الفرات، عصب الاقتصاد السوري، الأمر الذي يجعلها في وضعٍ أقوى من موسكو في سوريا.

واللافت هنا، كيف أن التباعد الأميركي- الروسي أفسح المجال للرئيس التركي رجب طيب أردوغان لكي يقيم علاقةً مع الروس أتاحت له قضم العديد من الأراضي السورية ووضعها تحت السلطة العسكرية التركية أحياناً مباشرةً وأحياناً بشكلٍ غير مباشرة. كما أن هذا التباعد، أعطى الأتراك فرصة اللعب على الحبلين، خاصةً مع المصلحة الأميركية المعلنة بشأن الحفاظ على الوضع في منطقة إدلب وفق ماهو عليه، وهو ما يتناقض مع ما تريده موسكو. كما أن التقارب الروسي- التركي المتزايد  في مرحلة ما بعد الغزو الروسي أوكرانيا، وضع أنقرة في حالةٍ تتجاوز المسافة الوسطى التي كانت تتخذها بين موسكو وواشنطن في الأعوام الماضية. ويمكن لهذ التقارب المتزايد بين أنقرة وموسكو أن ينتج تفاهماتٍ وتحرّكاتٍ مشتركة على الأراضي السورية، لا يُعرف حتى الآن كيف سيكون رد الفعل الأميركي عليها.

خلاصةً، تعتبر واشنطن وموسكو المحرّكين الفعليين لحلول الأزمة السورية منذ 2011. ووضع تباعدهما الأزمة السورية في حالة جمود. ومن غير المعلوم حتى الآن إن كان الصدام الروسي مع حلف الناتو عبر أوكرانيا سيترجم إلى مواجهة في سوريا كذلك ولو بشكلٍ غير مباشر. ولكن من المؤكد أنه إن حصلت تسوية في أوكرانيا، فإن التلاقي الأميركي- الروسي فيها سيترافق مع تسوية دولية للأزمة السورية.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد