د. آزاد احمد علي
تفاعلت مجموعة من العوامل والمؤثرات على الساحة الدولية، وكذلك جملة من التراكمات الإقليمية، لإزاحة أوروبا نسبياً عن موقعها الجيو-تاريخي، وبالتالي عن صدارة مشهد قيادة وتحديث وتوجيه عالمنا المعاصر. وبات الدور الأوروبي موضوع تقييم وشك، خاصة من زاوية القدرة على أداء وظيفته الريادية المركزية، كما كان طوال القرون والعهود الماضية. حدثت هذه الإزاحة في سياق إعادة تموضع وتمركز القوة والسلطة والرأسمال، فضلاً عن تقنية إنتاج السلاح، على أطراف الساحة الدولية. فأوروبا كانت ومنذ القرن السادس عشر مركزاً للفكر والعلم والطباعة، والأهم: مركزاً للصناعة.
عملية التقييم هذه تنبثق بصيغة ما من الحدث الأوروبي الراهن، والأبرز، أي الغزو الروسي لأوكرانيا، وبالتالي سعي روسيا لتحطيم جدار السلم الاعتباري بينها وبين دول الغرب الرأسمالي. فالحرب الروسية الأوكرانية أفصحت بيسر عن أنها حرب بين ما تبقى من النظام الشرقي المتبلور خارج سياقات المنظومة الليبرالية الأوروبية بقيادة روسيا من جهة، والنظام الأورو-أميركي المركزي الذي وصل الى ذروة قوته المعنوية والعسكرية إبان انهيار الحكم السوفيتي (المعسكر الاشتراكي) مطلع تسعينيات القرن العشرين. فالارتداد الروسي العسكري جاء كصيغة من صيغ الرفض لحالة الركون والستاتيكية التي صبغت علاقة الشرق الناهض (الصين–روسيا) مع الغرب المهيمن، المستظل بمظلة حلف شمال الأطلسي (ناتو) أو بالتحالف المدني-السياسي بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية.
يمكن مقاربة توصيف الحالة المتولدة في الأشهر الأخيرة بخلاصات ومقدمات نظرية بسيطة، تكمن في حقيقة أن كل المعطيات والمؤشرات على الساحة الدولية قد تغيرت تماماً في الأعوام الثلاثين الأخيرة التي تلت تفكك النظام الشيوعي في روسيا وانفكاك عرى دول أوروبا الشرقية من حولها. ولم يكن التغيير نصيب هذه المنظومة فحسب، والتي توزعت على الليبرالية وأنظمة حكم برلمانية شبه ديمقراطية، بل أوروبا نفسها تغيرت اقتصادياً وتكنولوجياً وفكرياً، إذ تصاعدت تيارات الاشتراكيين الديمقراطيين والخضر، وانشغلت مجتمعات أوروبا بتفاصيل ترفيهية عالية النخبوية. بالتوازي مع ذلك، ازداد الشرق تنظيماً وسكاناً وسلاحاً وتماسكاً داخلياً، خاصة الصين، الصخرة الكبيرة الساندة للنهوض الروسي الجديد.
يستشف من هذه المقدمات والاختلالات ولادة الاضطرابات، إذ انسحبت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وأهانت إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الأوروبيين في جزئية حمايتهم من القوة الروسية، كما ظلت المانيا منشغلة باقتصادها. هذه العوامل، والكثير غيرها، تفتح أبواب التغيير والتصادم، في وقت كنا نعتقد بأن أوروبا طوت صفحة الحروب والصراعات الى الأبد. ربما توهم الكثير منا ذلك، لكن مجتمعات أوروبا اليوم هي وريثة القارة والمجتمع الذي فجر حروب عديدة كان آخرها الحربين العالميتين، بضحاياها الذين تجاوزوا عشرات الملايين بين قتيل ومعوق. للأوروبيين أيضاً دولهم العميقة، منظوماتهم الأمنية والعسكرية، مصالحهم الاقتصادية، وتناقضاتهم الداخلية والخارجية، وبالتالي استعدادهم وقابليتهم على خوض الحرب.
شكّلت الشرارة الأوكرانية صدمة لتستفيق أوروبا على واقعها الجديد. قارة تراجعت ديمغرافياً وعسكرياً وباتت تستند على دعم دولة عسكرية كبرى كالولايات المتحدة، ودولة أخرى من تراث الماضي الإسلامي الاستبدادي المناهض تاريخياً لأووربا، أي تركيا. وهنا أيضاً، يكمن جانب من المأزق الأوروبي.
أوروبا الحائرة
اكتشفت أوروبا، ربما ليس فجأة وإنما بصيغة صادمة، أن مركزيتها ودورها التاريخي الريادي على المحك، ومن المحتمل أنه بات من الماضي المجيد. لذلك ستعمل للمحافظة على أمنها وسلم مجتمعاتها الداخلي في المقام الأول. فالمعارك تدور بالقرب من شوارع أوروبا الوسطى وحتى الغربية. وحرب أوكرانيا ليس مجرد حدث عابر، ولا خطأ في حسابات دولة، أو مجرد نزوة لرئيس يفكر بأمجاد القيصرية. الحرب الأوكرانية تعبير عن نهاية منظومة توزان وتفاهم سياسي على الصعيد الدولي. وهي بداية لتفعيل مرحلة جديدة، سواء من الصراعات أو التفاهمات، وصولاً إلى صياغة نظام عالمي سياسي وقانوني جديد.
تحركت قيادات أوروبية لتطويق الحرب الأوكرانية ولمواجهة تمدد روسيا، وللتأكيد للحليف الأميركي، وحتى البريطاني، بأنه لديها من القوة والوحدة والإرادة ما يؤهلها أن تبقى صاحبة المبادرة والدور المركزي. لذلك، عقد اجتماع مهم في كييف بين كل من المستشار الألماني أولف شولتس والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراجي، وكذلك الرئيس الروماني كلاوس يوهانيس في 16 حزيران ( يونيو) الماضي. كانت دلالة الاجتماع واضحة ومتعددة الجوانب، إذ أشارت شكلاً الى أجواء الحرب، حيث لا استقبال ولا مراسم ولا سجاد أحمر في المطارات. كما شكلت خطوة سياسية أولى منذ الغزو الروسي لأوكرانيا في أواخر شباط (فبراير) 2022. خطوة أوروبية جماعية متأخرة نسبياً، إلا أنها خطوة جادة للتضامن السياسي الميداني مع أوكرانيا، ومحاولة إنقاذها ولو جزئياً من بين فكيّ النمر الروسي. وهذا ما تبين من مؤتمرهم الصحافي، إذ لم يبدو أي من الرؤساء متفائلاً، أو حتى متوعداً حازماً، في التعامل مع الانعطافة الكبرى التي تتجه نحوها أوروبا، إلى درجة أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عبّر عن ذلك المناخ المتشائم ملخصاً المشهد: ليس هنالك زعيم أوروبي قادر أن يوقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عند حده. وفي اليوم التالي، لم تضف زيارة رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون أي جديد، سوى تشجيع المقاومة الأوكرانية ضد روسيا. وحتى اجتماع “ناتو” الأخير في مدريد لم يكن ذا وزن عملي إلا من زاوية تحديد العدو بدقة.
يمكن القول إن الحرب التي تجري على أرض أوروبا، وتتعرض أحد أكبر دولها مساحةً إلى القضم والضم وإعادة التشكيل على يد قوة عسكرية ودولة آسيوية وشبه أوروبية هي روسيا، ستؤثر على كل أوروبا. وعندما تؤثر أي ظاهرة سياسية أو عسكرية، أو حتى فكرية، على أوروبا فبالضرورة سيتأثر العلم كله به، وسيترجم الأمر عملياً كتغيير عميق في البنى والنظم السياسية على الصعيد الدولي.
لذلك نفترض بداية نهاية دور أوروبا المركزي منذ معاهدة ويستفاليا سنة 1648 وحتى الحرب العالمية الأولى. أي بمعنى قدرتها على التجديد والريادة منذ القرون الوسطى، والتأسيس للدول القومية والتأثير على العالم وصياغته مطلع القرن العشرين.
لا تجد أوروبا نفسها موحدة تماماً في الموقف من كيفية مواجهة روسيا. لكن أغلب نخبها وقادتها أدركوا اليوم، بصيغ متفاوتة، أنهم أمام جار قوي وجديد. جديد بمسعاه الانقلابي. إذ لم تعد روسيا حجراً ثقيلاً وبارداً في توازن القوى العالمية، وإنما صخرة ملتهبة تتدرج وقد تحرق وتهدم الكثير من بنيان النظام الأوروبي فالعالمي.
تبدو أوروبا وكأنها لم تقرأ المشهد المعقد بدقة. لذلك تبدو حائرة وخائفة. فهي على مفترق طرق صعب. تركتها بريطانيا وأدارت ظهرها، حتى أغلقت الحدود في وجه المواطن الأوروبي. والولايات المتحدة طبخت (الطبخة – اللعبة)، وقد يسرها أن يظل الصراع أوروبياً- روسياً إلى حين استثماره لصالح خططها المستقبلية.
تبدو أوروبا والعالم أمام عهد جديد. بدأت مرحلة خطرة بالنسبة إلى المجتمعات الأوروبية التي ركنت للسلم والسكينة وحياة الرخاء لعهود طويلة. الساسة الأوروبيين محتارون اليوم. فثمة صعوبة في اختيار اتجاه ومسار الحركة لأن كل الخيارات صعبة: العسكرة، أو الاستسلام للإرادة الأميركية والانضواء التام تحت راية الحلف الأطلسي الذي وصفه ماكرون منذ عدة سنوات بأنه (ميتة سريرياً). الخيار الأصعب يكمن في السماح لروسيا البوتينية، بدعم صامت من الصين، التمدد غرباً والتوغل داخل أوروبا من طريق تحقيق النصر عسكرياً.
مهما تكن الخيارات الأوروبية، فقد انتفضت روسيا في وجه النظام العالمي المهيمن واختارت التوقيت والمكان المناسبين. قالها بوتين بوضوح شديد قبل أيام إن “زمن الهيمنة ونظام الأحادي القطب انتهى”. وقالها ثانية إن “العالم تغير”. فضريبة مواجهة الآلة الحربية الروسية باهظة بالنسبة لأوروبا منفردة. واحتمالات الحرب والعسكرة واردة. وبقية القرارات والخيارات كلها صعبة. فالمواقف التاريخية صعبة الصياغة، خاصة في ظل غياب أحزاب جماهيرية وقادة سياسيين كبار.
إن كانت أوروبا مصدومة وحائرة فهذه مشكلة. لكن المشكلة الأكبر أن الرئيس الشاب زيلينسكي، الذي مارس الكوميديا والدراما، يتحرك بأدوات غير سياسية وغير معرفية وكأنه لم يفهم ولم يستوعب (الجيوبوليتيك التاريخي) لأوروبا ولروسيا بشكل خاص. كما يفترض أن جوهر الصراع ثنائي وعسكري، ومن الممكن ردع أو هزيمة روسيا التي أعدت نفسها ربع قرن لهذا المنعطف والانقلاب التاريخي الكبير. فسواء كان بوتين مريضاً بالسرطان وعمره قصيراً أو مختلاً نفسياً ويتقمص شخصية القيصر بطرس الأكبر، فإنه نفخ في روح القومية الروسية وزعزع النظام العالمي الرتيب تحت قيادة أوروبية– أميركية، وقد لا يكتفي بهذا القدر.
تكمن المشكلة، مع افتراض انتهاء أو تراجع دور أوروبا المركزي، في أن مركز العالم المستقبلي لم يعد واضحاً في ظل التخبط الأميركي والصمت الصيني المريب.