المعارضة التركية التي فشلت منذ فترة طويلة في تبنّي موقف متماسك تجاه السياسة الخارجية للحكومة، تتحول الآن إلى خطاب متشدد قد يحسده أردوغان نفسه.
الكاتب: فهيم تاشتكين
أثارت سلسلة من الانفعالات القومية من قبل زعيم المعارضة الرئيسي في تركيا الشكوك حول ما إذا كانت المعارضة قادرة على تخفيف السياسة الخارجية المشحونة للبلاد مع اقتراب تركيا من إجراء انتخابات حاسمة.
تحرّك الرئيس رجب طيب أردوغان مؤخراً للمصالحة مع إسرائيل والعرب، بعد سنوات من الأعمال العدائية التي أبقت أنقرة معزولة إلى حد كبير في المنطقة. في ظل هذا المسار، أطلق كمال كيليجدار أوغلو، رئيس حزب الشعب الجمهوري (CHP)، انتقادات واسعة النطاق بحق إسرائيل والمملكة العربية السعودية في 26 حزيران (يونيو)، دون أن ينسى اليونان أيضاً.
وفي إشارة إلى الغارة الإسرائيلية المميتة على العبارة المتجهة إلى غزة وعلى متنها الناشطين الأتراك المؤيدين للفلسطينيين في عام 2010، غرّد زعيم حزب الشعب الجمهوري قائلاً: “إن استشهاد المواطنين الأتراك في المياه الدولية له ثمن. رسالتي إلى إسرائيل هي أن هذا الملف لم يغلق بعد”.وكذلك وبّخ ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الذي استقبلته أنقرة الأسبوع الماضي. وقبل الزيارة، تم اغلاق دعوى قضائية بشأن مقتل المعارض السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول عام 2018، ونقل الدعوى إلى الرياض في وقت سابق من هذا العام.
كتب كيليجدار أوغلو في إشارة إلى ولي العهد الذي يُعتقد أنه أجاز جريمة القتل، “ارتكاب جريمة قتل على أرضنا له ثمن أيضاً، لم نغلق الملف بعد، ربما يستطيع ملاعبة أردوغان، لكن تركيا دولة عظيمة وسيُجبر على دفع ثمن ما فعله”.
ومروراً بمخاوف أنقرة من قيام أثينا بتسليح جزر منزوعة السلاح في بحر إيجه، ذكّر زعيم حزب الشعب الجمهوري اليونان بالنصر التركي على القوات اليونانية الغازية قبل قرن من الزمان.
لطالما كان رد حزب الشعب الجمهوري على السياسات الخارجية للحكومة مزيجاً من النقد والدعم الخجول، ولكن الآن بعد أن حاول أردوغان التصالح مع المحور العربي الإسرائيلي، بينما تصاعد التوترات مع اليونان وإيران، يبدو أن المعارضة الرئيسية تمضي نحو الوقوع في فخ محاكاة سياسات أردوغان على أمل استمالة الناخبين القوميين والمحافظين.
يعود الارتباك في خطاب ومواقف حزب الشعب الجمهوري من السياسة الخارجية إلى عدة أسباب. يعتبر حزب الشعب الجمهوري نفسه حارساً للجمهورية وإرث مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية التركية الحديثة. وفي نهاية المطاف، غالباً ما تتطلب مثل هذه الرؤية دعم سياسات الحكومة.
يؤكد كيليجدار أوغلو أن حزبه لا يمكنه تجاوز الخطوط الحمراء للدولة، على الرغم من أن حزب الشعب الجمهوري انتقد بشدة انزلاق الحكومة إلى السياسات الخارجية العدائية والتدخلية في السنوات الأخيرة. على سبيل المثال قال كيلجدار في خطاب ألقاه في 14 أيار (مايو)، “يجب أن تكون السياسة الخارجية وطنية، بمعنى أنه لا يمكن أن تكون هناك معارضة تنافس الحكومة في السياسة الخارجية. علينا أن نقف معاً في السياسة الخارجية”.
العامل الآخر الكامن وراء الارتباك هو تذبذب الحزب بين التيارات القومية والمؤيدة للتغيير. اتخذ جناح قومي أوروآسيوي داخل الحزب مواقف منسجمة مع سياسات أردوغان في مجموعة من القضايا مثل ملاحقة حزب العمال الكردستاني المحظور على الأراضي العراقية، والعمليات العسكرية في سوريا التي تستهدف الجماعات الكردية التابعة لحزب العمال الكردستاني، التدخل في ليبيا، والدعم العسكري التركي لأذربيجان في حربها مع أرمينيا، ولعبة المواجهة التي لعبت في شرق البحر الأبيض المتوسط بما يتماشى مع مفهوم الوطن الأزرق، والتوترات مع اليونان بشأن النزاعات الإقليمية في بحر إيجة والصراع القبرصي. من حين لآخر، شكك هذا الجناح أيضاً في شراكة تركيا مع الناتو والاتحاد الأوروبي، مما يشير إلى توثيق العلاقات مع روسيا والصين.
في الوقت نفسه، يعتقد بعض أعضاء حزب الشعب الجمهوري أن ميل الحزب الديمقراطي الاجتماعي يجب أن ينعكس ليس فقط على المسائل الاقتصادية والاجتماعية، ولكن أيضاً على السياسة الخارجية. تمت ترجمة هذا النهج إلى واقع عملي في البرلمان في تشرين الأول (أكتوبر) 2021، عندما صوّت حزب الشعب الجمهوري بلا على تجديد تفويض الحكومة للعمل العسكري في العراق وسوريا.
شكك الحزب الذي دعم على مضض التفويضات السابقة في مكاسب التدخل العسكري التركي في سوريا، مبيناً أنه انحرف عن أهدافه الأصلية في التصويتات السابقة، كان حزب الشعب الجمهوري ينتقد الحكومة بشدة لكنه يدعم مشاريعه في النهاية، على أساس مصالح الأمن القومي وسلامة الجنود الأتراك.
وبالمثل، امتنع حزب الشعب الجمهوري عن دعم تمديد المهمة العسكرية التركية في ليبيا لمدة 18 شهراً في تصويت برلماني الشهر الماضي.
في تبرير لهذا الموقف الجديد، جادل أعضاء الحزب بأن الحكومة أساءت استخدام التفويضات لصالح سياسية محلية بدلاً من التركيز على حماية المصالح الإقليمية لتركيا.
دفعت التصويتات على العمل العسكري عبر الحدود حزب الشعب الجمهوري لمواجهة تناقضاته الداخلية. جادل معسكر متعصب في الحزب بأنه على الرغم من كل الزلات الحكومية، فإن معارضة تفويض سوريا والعراق سيكون ضد المصالح الوطنية. كان لدى المعسكر نفسه مخاوف أيضاً بشأن الحوار مع حزب الشعوب الديمقراطي الموالي للأكراد. جادل المعسكر الآخر، الذي يدافع عن الالتزام بمبادئ الديمقراطية الاجتماعية، بأن دعم التفويض من شأنه أن يرقى إلى دعم سياسة أردوغان في سوريا وأن التفويضات السابقة لم تؤت ثمارها.
أثار الموقف الجديد لحزب الشعب الجمهوري هجمات شرسة من قبل الجهات الموالية للحكومة، والتي تعزو التحول إلى شراكة سرية مزعومة بين حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديمقراطي.
كجزء من تكتيكات تشويه سمعة خصومها، سعت الحكومة إلى مساواة حزب الشعوب الديمقراطي بحزب العمال الكردستاني، الذي تصنفه تركيا على أنه جماعة إرهابية، وتصوير حزب الشعب الجمهوري على أنه متعاون مع حزب الشعوب الديمقراطي. اشتدت حدة مثل هذه الهجمات بسبب الانتقادات لسياسات أنقرة الإقليمية. تم استهداف السفير المتقاعد أونال جيفيكوز، وهو الآن عضو في البرلمان عن حزب الشعب الجمهوري ومستشار السياسة الخارجية لكيليجدار أوغلو، العام الماضي بعد أن حذر من إصرار تركيا على منطقة بحرية كبيرة في البحر الأبيض المتوسط.
العامل الثالث وراء تذبذب حزب الشعب الجمهوري هو جهود الحزب للحفاظ على تحالفه الوليد مع خمسة أحزاب أخرى، تم تشكيله بهدف هزيمة حزب العدالة والتنمية وحلفائه القوميين في الانتخابات المقبلة. يتمسك الحزب الجيد، ثاني أكبر قوة في التحالف بميول الدولة القومية، كما يتضح من دعمه لآخر تمديد لانتداب سوريا والعراق وليبيا.
كان الحزب الجيد قد صوت ضد تلك التفويضات في عام 2020. لتبرير التغيير اللاحق، جادل بأن الوجود العسكري الأمريكي المتزايد في اليونان قد أفسد أثينا، والتي بدورها عرّضت مصالح تركيا في ليبيا للخطر، وأنه يجب إحباط محاولة الأكراد السورييين بإقامة دولة.
يؤكد قادة حزب الشعب الجمهوري والحزب الجيد أن اختلافهم بشأن التفويضات لا ترقى إلى فك التحالف لأن المبادرة السداسية لا تنطوي على عمل مشترك بشأن الأمور الحالية. قد تساعد هذه المرونة الأطراف الستة على الحفاظ على شراكتهم لكنها تعيق ظهور معارضة متكاملة ضد حزب العدالة والتنمية.
ومع ذلك، تتوقع قيادة حزب الشعب الجمهوري أن يستغل أردوغان قضايا السياسة الخارجية بشكل مكثّف قبل الانتخابات لذا فهي تصر على الحاجة إلى نهج تكتيكي للضغط على الحكومة بحججها الخاصة.
في 1 حزيران (يونيو)، تحدّى أردوغان كيليجدار أوغلو للإجابة على 10 أسئلة، بما في ذلك ما إذا كان يدعم العمليات عبر الحدود ضد حزب العمال الكردستاني والمنتسبين إليه في سوريا وسياسة دولته بشأن محاولة السويد وفنلندا الانضمام إلى الناتو. كما سأل عما إذا كان زعيم حزب الشعب الجمهوري يقف إلى جانب بلاده في النضال الوطني الذي يخوضه في البحر الأبيض المتوسط وبحر إيجة.
ردّ كيليجدار أوغلو بأنه يدعم العمليات العسكرية عبر الحدود. وفيما يتعلق بحلف شمال الأطلسي، قال إن مطالب أنقرة من السويد وفنلندا لها ما يبررها، لكنه دعا إلى الدبلوماسية الصامتة بدلاً من المشاحنات العلنية. وأكد أن تركيا بحاجة إلى الناتو. في الوقت نفسه، دعا إلى ضغط أقوى على اليونان في شرق البحر المتوسط وبحر إيجه، وتحدى أردوغان باتخاذ إجراء بشأن قضية الجزر التي تقوم اليونان بتسليحها.
لذلك، يبدو أن حزب الشعب الجمهوري ماضي في تكتيك مواجهة الصخب القومي بالوعود القومية أو ضرب أردوغان بسياساته الخاصة.
قال مصدر من حزب الشعب الجمهوري، طلب عدم ذكر اسمه لـ “المونيتور” إن مبادئ السياسة الخارجية المعلنة للحزب لم تتغير، ونفى أي تنازلات للحفاظ على الشراكة السداسية. يهدف هذا الخطاب إلى زيادة الضغط على أردوغان في السياسة الداخلية. ومن المرجح أن تستمر حتى الانتخابات بنبرات مختلفة. وأشار المصدر إلى أنه “لن يكون هناك تغيير جوهري في رؤيتنا لسياستنا الخارجية”.
ومع ذلك، فإن هذا يثير احتمالية تنافس المعارضة مع الحزب الحاكم حول من هو أكثر قومية، ووسط جهود أنقرة للتطبيع مع الخصوم الإقليميين، قد لا تؤدي المعارضة التي تحمل الورقة القومية أيضاً إلى تراجع شعبية أردوغان كما هو متوقع.
المصدر:المونيتور