العولمة والحرب الكبرى: الحرية ضد التجارة الحرة

حسين جمو

يُجمع معظم خبراء الاقتصاد حول العالم على أن العام 2022 سيكون صعباً وقاسياً على الجميع، وأن الأفق قاتم في ظل التضخم العالمي جراء أزمات متتالية آخرها الحرب في أوكرانيا والإغلاق في الصين. هذه التوقعات مدعمة بأرقام وإحصائيات. في الدول النامية يزداد الوضع خطورة، و في إحدى بلدانها، و هي سريلانكا، سقطت الحكومة و ما زالت الاضطرابات مستمرة بسبب ضغوط معيشية غير مسبوقة على السكان والناجمة عن ارتفاع الأسعار فضلاً عن سوء الإدارة المزمن.

المعضلة الكبيرة أمام الانقسام الحاد بين القوى الكبرى، أنه للمرة الأولى منذ انتصار “السوق الليبرالي المفتوح” على “سوق الدولة القومية” و “السوق الاشتراكية” منذ نهاية الحرب الباردة، تعود إلى الواجهة دعوات لصياغة الاقتصاد على أساس الموقف السياسي، رغم استحالة تحقيق ذلك نظرياً بسبب طابع العولمة الاقتصادية الذي ربط بين الدول بشكل غير مسبوق في التاريخ. وبلغ هذا التحدي ذروته في الغزو الروسي لأوكرانيا.

3 كتل اقتصادية- سياسية

مبدئياً تلوح في الأفق ثلاث كتل اقتصادية – سياسية – عسكرية، اثنتان منها في حالة مواجهة؛ أكبرها كتلة حلف شمال الأطلسي (بما في ذلك الاتحاد الأوروبي)، و في الجهة المقابلة هناك روسيا رغم صغر حجم اقتصادها (المرتبة 11 عالمياً) لكنه مسنود بصناعة عسكرية قوية و حضور روسي كقوة عظمى دولية. و الكتلة الثالثة هي الصين، لكن ما زال غير محسوم ما إذا كانت موسكو وبكين ستتقاربان لتشكلا ما يشبه كتلة متحدة، رغم الاختلاف الكبير في طبيعة الاقتصاد ونوعيته بين البلدين، وكذلك الارتباط الكبير بين الصين والاقتصاديات الليبرالية الغربية، وهذا ما يرجح بقاء الصين على حافة الصراع بين الغرب و روسيا.

على خلفية الإجراءات المتزايدة الرامية لعزل بلاده، ذكر وزير الخارجية سيرغي لافروف، في 23 مايو، أن الكرملين سيركز على تطوير العلاقات مع الصين مع قطع العلاقات الاقتصادية مع الولايات المتحدة وأوروبا. وقال في خطاب نشر موقع وزارة الخارجية على الإنترنت نصه “إذا أرادوا (الغرب) عرض شيء ما فيما يتعلق باستئناف العلاقات، فسننظر بجدية فيما إذا كنا سنحتاجه أم لا.. وبما أن الغرب تبنى الآن ’موقف الدكتاتور’، ستنمو علاقاتنا الاقتصادية مع الصين بشكل أسرع”.

هل تحسم المجر مصير العولمة؟

إن الإجراء الذي سيحسم الانقسام الاقتصادي وتفكك عولمة “السوق المفتوح” لصالح نسخة أكثر خضوعاً للأيديولوجيات الكبرى، يتمثل في ما إذا كانت الدول الغربية ستنجح في الاتفاق على حظر شراء النفط والغاز من روسيا. وهناك تضارب بشأن الإجماع الأوروبي في ظل معارضة قوية من المجر للحظر بسس عدم جاهزيتها لمثل هكذا خطوة. و الثلاثاء (24 مايو) رجحت ألمانيا أن يوافق الاتحاد الأوروبي على حظر  واردات النفط الروسية “في غضون أيام”، فيما تمسكت المجر بمطالبها بالحصول على استثمارات في مجال الطاقة قبل أن توافق على مثل هذا الحظر، واصطدمت مع دول الاتحاد الأوروبي التي ضغطت من أجل موافقة سريعة على هذا الإجراء العقابي. وعرض الاتحاد الأوروبي ما يصل إلى ملياري يورو (2.14 مليار دولار) لدول في وسط وشرق أوروبا تفتقر إلى إمدادات غير روسية.

واعتبر رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان أن بلاده “ليست في وضع يسمح لها بقبول الحزمة السادسة من العقوبات على روسيا”. فالحظر النفطي المقترح سيؤدي على الفور إلى اضطرابات خطيرة في الإمدادات للمجر ويرفع الأسعار بحوالى 55 إلى 60 %.

وقد يكون أمراً استثنائياً وتاريخياً أن يتوقف بقاء نموذج “العالم سوق واحدة” على قرار رئيس الوزراء المجري.

هل يمكن تحييد الاقتصاد عن الحرب؟

و تفتح فلسفة “العقوبات” في الفكر السياسي الغربي، الباب أمام أسئلة عن جدوى هذا السلاح في العلاقات الدولية في ظل دفع العلام بالأجمع الثمن، خاصة حين يكون الهدف اقتصاد دولة كبرى. و سبق أن تسببت مدرسة العقوبات في انهيار وتداعي اقتصاديات دول عدة بدون أن يؤثر ذلك على تماسك وصلابة الأنظمة المستهدفة. وتكون التداعيات عابرة للحدود في حالة دولة مثل روسيا، فالاقتصاد الروسي رافد قوي لنموذج اقتصاد العولمة في الطاقة والزراعة، والدليل على ذلك ليس تحليلاً، إنما في التحذيرات التي يطلقها القادة في القارة الأفريقية، وكذلك المنظمات الدولية، من خطورة اضطرابات قارية تعصف بأفريقيا جراء تداعيات العقوبات والحرب على الاقتصاديات الهشة في أفريقيا. و الواقع أن في الأمر معضلة اخلاقية يتعين على صناع السياسة التعامل معها: هل من الأفضل تحييد الاقتصاد عن الحرب؟

في كل الأحوال، المعطيات تشير إلى أن الأسوأ لم يأتِ بعد. فقد حذّرت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستالينا غورغييفا من “أفق قاتم” للاقتصاد العالمي، خلال ندوة في دافوس. وأشارت إلى توقع حدوث انكماش اقتصادي في بعض البلدان التي لم تتعافَ من أزمة كوفيد، والتي تعتمد بشكل كبير على روسيا أو على استيراد المواد الغذائية.

ولتقدير فداحة الأزمة الحالية في الاقتصاد العالمي، أشار جوزيف ستيجلتس، الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد، إن الارتفاع العالي للأسعار  “أسوأ من حيث الحجم” من الأزمة التي شهدها العالم في سبعينيات القرن العشرين أثناء الحظر العربي لتصدير النفط إلى الدول الغربية بسبب انحيازها لإسرائيل.

“الناتو” ضد التجارة الحرة!

أمام هذه الصورة “القاتمة” كما وصفتها مديرة صندوق النقد الدولي، أدلى ينس ستولتنبرغ الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو) في دافوس، بدلوه حول التداخل بين الأمن والاقتصاد، و لخّص الاتجاه المستقبلي حول هل يمكن للعولمة أن تشمل فقط الدول ذات النظام السياسي المتماثل؟ بمعنى آخر: هل يمكن تجزئة العولمة حسب الأنظمة السياسية والاقتصادية؟

قال ستولتنبرغ: الحرب في أوكرانيا أظهرت كيف أن العلاقات الاقتصادية مع الأنظمة السلطوية يمكن أن توجد نقاط ضعف”، في إشارة إلى واردات الاتحاد الأوروبي من الوقود الأحفوري الروسي وبناء الصين لشبكات الجيل الخامس من الاتصالات. وأوضح: “علينا أن نعترف أن خيارتنا الاقتصادية لها تداعيات على أمننا”. ثم أردف جملة قد تصبح علامة أيديولوجية للحقبة التي يتم تأسيسها حالياً في أوكرانيا و إيذاناً بتفكيك العولمة الاقتصادية، أو بعبارة أدق “محاولة” تفكيك التشابك في السوق العالمية، وكانت هذه الجملة التي نطقها ستولتنبرغ هي: “الحرية أهم من التجارة الحرة”.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد