سري ثريا أوندر: جيل “الاختصارات الكتابية” يريد تركيا مختلفة

حسين جمو

من تقاليد الانقلابات العسكرية في تركيا صدور قائمة من أسماء السياسيين يحظرعليهم ممارسة العمل السياسي عدة سنوات. حدث هذا في أعوام 1960 و 1971 و 1980 و 1997. هذا بالنسبة للأحزاب القومية واليسارية التركية. أما بالنسبة للكرد، فإن العمل السياسي الجماعي بقي محظوراً منذ عام 1925 حتى عام 1992. ببساطة ذلك يعني ان الدولة في حالة حرب ضد المجتمع طيلة هذه الفترة. بعد العام 1992 تغيرت طبيعة حظر العمل السياسي، فبينما كانت تستهدف الأفراد والأحزاب منذ ثورة كردستان 1925 حتى مطلع التسعينيات، بات قانون الحظر يصوّب على الأحزاب التي تكون ذات قاعدة جماهيرية كردية، وعليه ليس من السهل حصر أسماء الأحزاب الكردية التي حظرت ثم أعادت تشكيل نفسها تحت أسماء أخرى منذ ذلك الحين. كان القانون – الإقصائي بطبيعته – في الفترة من 1992- 2021 يغض الطرف عن حق الإرادة في ممارسة السياسة، وممارسة السياسة تعني – في الحالة التركية – حق الترشح في الانتخابات ومخاطبة الناس في الساحات العامة وتمثيل مصالحهم. مع اقتراب العام 2021 من نهايته، تعود مظاهر الستينيات والسبعينيات إلى الحياة السياسية تحت تأثير الانقلاب الأكثر تجذراً في تركيا (الانقلاب المكون من قيادة مدنية متحالفة مع جهاز الاستخبارات مع هيمنة على العسكر). الحظر هذه المرة لا يستهدف حزب الشعوب الديمقراطي، إنما كوادره القيادية. ويطلب الادعاء العام التركي حظر الطبقة القيادية في الحزب من ممارسة أي نشاط سياسي لمدة خمس سنوات.

قدّم القيادي في حزب الشعوب الديمقراطي، والنائب السابق، سري ثريا أوندر، مرافعة كتابية ضد الاتهامات الموجهة لهم، وتوقف عند مفهوم السياسة قلّل فيها من أهمية دور الأحزاب في صناعة التغيير ومتحدثاً عن أكبر صانع للتغيير السياسي في البلاد ألا وهو الحياة اليومية.      

تتضمن لائحة الاتهام المرفوعة أمام المحكمة الدستورية التركية لحظر حزب الشعوب الديمقراطي، طلباً بحظر العمل السياسي لمدة خمس سنوات بحق 687 شخصاً من أعضاء الحزب، بمن فيهم الرئيسان المشاركان السابقان للحزب: فيغين يوكسيكداغ وصلاح الدين دميرطاش، والرئيسان المشاركان الحاليان: بروين بولدان ومدحت سنجار، إضافة إلى مجموعة قيادية تتضمن سيزاي تمللي، سيري ثريا أوندر، ميرال دانيش بيشتاش، وصباحات تونجال.

في مرافعته الكتابية الموجهة إلى المحكمة الدستورية، اعتبر سري ثريا أوندر أن الذين أعدوا لائحة الاتهامات ضده مطالبين بحظره عن العمل السياسي، لا يفقهون أبجديات مفهوم السياسة، قائلاً: “ليس من المفهوم بالنسبة لي ما الذي سيتم حظره؟ طالما أن هناك حياة، فهناك سياسة، والحياة تدور حول السياسة التي تنتهي بالموت فقط. لذلك المطالبة بعدم ممارسة السياسة، شبيه بأن تقول توقف عن الحياة “.

كتب أوندر في المرافعة المؤرخة في 2 كانون الأول / ديسمبر 2021: “معذرة، لا أعتقد أن الأشخاص الذين أعدوا لائحة الاتهام للمطالبة بـ”حظري عن ممارسة السياسة” لديهم أدنى معرفة بمفهوم السياسة. ليس من المفهوم بالنسبة لي ما الذي سيتم حظره. أرى أنه من واجبي كمواطن أن أنقل ما أعرفه دستورياً، بصفتي شخصاً درس السياسة في كلية العلوم السياسية وشغل عضوية البرلمان لثلاث فترات إلى حين اعتقالي.. ليس لدي أي نية للاستهزاء أو النيل من مكانة المؤسسة التي أعدت اللائحة. كما أن هذا الخلط ليس حصراً بالقضاء فقط. لقد شاهدت الكثير. في عام 2012، كنت أمثّل حزبي في لجنة كتابة الدستور الجديد التي تأسست في الدورة الـ24 للبرلمان التركي. عضو في الحزب الحاكم قال لي آنذاك، رداً على اقتراح قدمته أثناء مناقشة الحقوق الأساسية في الدستور الجديد “أرجوكم دعونا نبتعد عن السياسة هنا”. هذه الحادثة موثّقة في السجلات الرسمية للبرلمان. في ذاكرتنا الاجتماعية توجد الكثير من الأمثلة الواضحة على حظر ممارسة السياسة. من المؤكد أنكم سمعتم عن حظر السياسة في المدارس والثكنات والمساجد، فيما أن الواقع أن أكثر ما تمارس السياسية في هذه الأماكن الثلاثة”.

تطرق أوندر في مرافعته بإسهاب إلى كيفية صناعة السياسة من قبل المهمّشين وسكان ضواحي المدن الكبرى القادمين من الأرياف والمدن غير الصناعية، وكذلك دور تعاقب الأجيال في تغيير وجه تركيا منذ تأسيسها إلى اليوم. وقال أوندر:

“لو أن هناك مجال واحد فقط في الكون لا تدخل فيه السياسة، لكنت سلّمت بقيمة هذا الطلب. على سبيل المثال، بعد مغادرتكم للمنزل، فإن اتخاذكم لقرار وسيلة النقل التي ستستقلّونها للذهاب إلى المكان المراد، فإن تحديد أداة التنقل (النقل العام أم سيارة خاصة أم باستخدام الدراجة) عمل سياسي مهم للغاية. من عاداتكم الغذائية إلى اختياراتكم في الحب، كل شيء سياسي ولا يدعو للحرج”.

يضيف أوندر: “حيث توجد الحياة، توجد السياسة؛ الحياة تدور حول السياسة ولا تنتهي إلا عند الموت في حالة الأفراد. في هذا الصدد مطلب “لا تمارس السياسة” شبيه بأن تقول “لا تعش!” إنه ذات الشيء. دعونا نلقي نظرة على تاريخنا الاجتماعي. الخطأ الشائع هو الاعتقاد بأن “السياسي” هو الوحيد القادر على ممارسة السياسة. في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، كان تعبير “ممارسة السياسة” ترتبط بأشخاص مثل ديميريل وأجاويد وأربكان وتوركيش. لكن هل الواقع كان كذلك؟ بالطبع لا! لقد استقر ملايين المهاجرين من قلب الأناضول على شواطئ المدن الكبرى غربي الأناضول. لقد كان هؤلاء بمثابة قطرات شكلت معاً فيضاناً لم يغير حياتهم فقط، بل قلب الاقتصاد والتركيبة الاجتماعية للمدن وللبلد كله رأساً على عقب. مقاربات هؤلاء الناس هي التي غيّرت البلاد، هؤلاء من صنعوا السياسة الحقيقية. لقد غيروا البلاد، ومصير البلاد، ومصيرهم رأساً على عقب، لكنهم كانوا هشّين. كانوا يفتقدون للثقة في النفس، كما أنه تم عزلهم عن الآخر الذي يشبههم. الكثير من هؤلاء ارتبط بمن يعتقدون أنهم يشبهونهم ويمثلونهم قيمياً، من خلال أورهان غينجيباي وإبراهيم تاتليسيس وفيردي تايفور ومسلم غورسيس (أسماء مطربين مشهورين). لقد أدركوا من خلال أغاني هؤلاء المطربين في حافلات النقل، أنهم لم يكونوا وحدهم في المدن التي عاملتهم بقسوة واعتقدوا أنهم لن يستطيعوا تحمّل ثمن العيش فيها. ربما لم يكن هؤلاء الفنانون على دراية بأنهم كانوا من بين أكثر الفاعلين السياسيين نفوذاً في ذلك الوقت. من ناحية أخرى، كان هناك يلماز غوني، زولفو ليفانيلي، يشار كمال، شيفان برور، وغيرهم الكثير. لم يكونوا يمارسون السياسة بالشكل الذي نعرفه. لكن الذين استقروا في ضواحي المدن التفوا حولهم. لقد أثّرت هذه الشخصيات الفنية على عدد أكبر من الناس مما يمكن أن تفعله أي مدرسة أو حزب”.

يردف أوندر في حديثه عن العناصر الأكثر كفاءة في صناعة التغيير السياسي بالقول: “حصر الفاعلية السياسية بالسياسيين فقط بعيد عن الواقع. أفراد عائلة سماوي (العائلة المؤسسة لصحيفة ودار نشر حرييت) واليجاك (العائلة المؤسسة لأول شركة قابضة) والمدعين العامين والقضاة والجنرالات وحتى العقداء والنقباء لهم الدور الأكبر لما أصبحت عليه اليوم تركيا، أكثر من ديميريل أو أجاويد. من خلال دعمهم أو معارضتهم للأشخاص أو الجماعات، أثبتوا أنهم العناصر الأكثر فاعلية في السياسة”.

وتطرق أوندر إلى تقاليد حظر الأفراد من العمل السياسي خلال الحقب السابقة، ساخراً من نتائج هذه الإجراءات: “إنّ معدي لوائح الاتهامات في تلك الحقبة، ولأنهم كانوا بعيدين عن فهم التصدعّات والتحوّلات الكبيرة في حينه، فقد فرضوا حظراً للعمل السياسي على ديميريل وأجاويد وتوركيش وأربكان. لكن ماذا كانت النتيجة؟ وصل هؤلاء جميعاً إلى السلطة، فيما أسماء معدي لوائح الحظر تلك لم تعد معروفة اليوم”.

رسم أوندر ملامح من التغيير السياسي القادم في تركيا وأبرز عناصر التغيير المتمثل في جيل الألفية. يقول أوندر مخاطباً المحكمة الدستورية في رده على لوائح الاتهام:

“يجب أن تعلموا أنه إذا قرر الناس تغيير العالم ليكون أفضل بالنسبة لهم، فإن العوائق التي تضعونها في طريقهم لن تكون مجدية. لن أستهلك من وقتكم الثمين، دعونا نسرّع من وقائع هذا الفيلم. اليوم يتم تشييد أسواق ضخمة مكان الأحياء الفقيرة على أطراف المدن. سكان تلك الأحياء عاشوا وعلّموا اولادهم. كانوا ملايين من فئة المحافظين، التي صوتت غالبيتها العظمى للأحزاب المحافظة. لم يرسلوا أبناءهم فحسب إلى الجامعات، بل بناتهم أيضاً، لم يقولوا “دعوا الإناث يلزمن منازلهن لكي لا يتعرضن لأي مكروه”، أرسلوهن للدراسة مع أقرانهن من الرجال. لم يُسمح لهؤلاء الفتيات بالدخول من باب الجامعة لأن رؤوسهن كانت مغطاة بالحجاب. لكن، هؤلاء الشابات مررن مثل الجرافات على المتعجرفين الذين تخيلوا أنهم أصحاب القرار في تحديد الاتجاه الذي يجب أن تسير عليه تركيا. لم تكن أي من الفتيات سياسية بالمعنى المتعارف عليه، لكنهن صنعن السياسة. لقد غيرن تركيا. لا تعتقدوا أنني أؤيد هذا المسار. بغض النظر إن كانت تلك الأفعال صحيحة أم لا، أنا أقول إنهم غيروا تركيا في الخمسين عاماً الماضية، وأنهم صنعوا السياسة. أنا فقط أود الإشارة إلى أنه مهما كانت الحريات والحقوق التي ستصادرونها مني عبر حظر مزاولة السياسة، فقد كان هؤلاء أكثر فاعلية من جميع السياسيين في البلاد، دون استخدام تلك الحقوق في العمل السياسي”.

سلط أوندر الضوء على طبيعة جيل التغيير الذي يأمله ويتحدث عنه بتفاؤل:

“اليوم، لا يجد الناس بعضهم البعض من خلال الأغاني. لم تعد هناك حاجة إليها! لديهم الـ “واتس اب” و”تويتر”. في أقل من ثانية، يمكنهم الوصول إلى مئات ملايين الأشخاص على وجه الأرض من الذين يفكّرون مثلهم، ويمكنهم نقل أفكارهم وأفعالهم إليهم. هذه الأجيال، التي تحاول أن تستعمل حروف أبجدية مختلفة وتعتمد على الاختصارات، تريد تركيا مختلفة أيضاً. إنهم يريدون دولة غير تلك التي يتخيل السياسيون في أنقرة أن السياسة فيها حكر عليهم فقط. ربما سيتلاشى هذا الجيل، لكن ليس قبل أن ينجز المهمة، وربما هم غير مدركين بأنهم يمارسون السياسة، لكنهم يغيرون البلاد مرة أخرى”.

عند هذه النقطة، لم يحدد أوندر وجهة أو مسار التغيير الذي يتوقعه من هذا الجيل الذي يجمع فئات تدعى “الألفية” و “Z” و “ألفا”. هل سيكون جيلاً يريد تركيا مختلفة من ناحية إعادة توزيع السلطات فقط بصيغتها التقليدية الأحادية من حيث الجوهر، أم أن تصبح الدولة أكثر تمثيلاً للسكان بمن فيهم الكرد؟ فمسار التغيير قد لا يكون إيجابياً من الناحية الحقوقية/ خاصة أن شريحة جيل الألفية ليس بعيداً عن الاتجاهات الحزبية والتأثر بأيديولوجيا الدولة من ناحية التعددية. وليست هناك دراسات تستقرئ اتجاهات الجيل الجديد من ناحية الحقوق والحريات. هل هو جيل متأثر بالحريات الفردية وحرية الوصول إلى المعلومات دون الاهتمام بالحقوق الجماعية للمجتمعات غير المعترف بها في الدولة؟ 

يتابع أوندر: “شخص ليس لديه تأثير نقطة، ولا حتى فاصلة، يفترض أن الجميع يجب أن يكونوا سجناء عقليته التي هو سجينها أيضاً، فيحاول فرض حظر العمل السياسي على أولئك الذين لا يستطيع التعامل معهم. دعوني أتكلّم عن نفسي، هذا الطلب لا ينطبق علي! لأنني، مثل الآلاف من رفاقي محظور منذ أن بدأت الأفكار التي أدافع عنها اليوم بالظهور لأول مرة. كل ما فعلته وقلته، قمت به وأنا أعلم أن له كلفة. أولئك الذين يدفعون الثمن هم أكثر الناس حرية في العالم. أي أن هذا لا يعني أنني لن أمارس السياسة المحظورة بالفعل أو التي كلفتها عالية. أفعل وسأفعل ذلك.. في الولايات المتحدة لم تنهض روزا باركس من مقعدها في الحافلة، التي كان من المفترض أن تكون مقاعدها حكراً على البيض. اعتقلوها. انطلقت على إثرها حملة مقاطعة للحافلات استمرت لمدة 13 شهراً. في النهاية تغيرت القوانين وتغيرت حياة السود. بتعبير أدق، حدثت الخطوة الأولى للتغيير الكبير الذي غير حياة السود. لم تكن باركس عضواً في مجلس الشيوخ، ولم تكن عضوًا في أي حزب. لكنها كانت أكثر تأثيراً على مستقبل الولايات المتحدة من جميع ممثلي جميع الأحزاب، بمن فيهم رئيس الولايات المتحدة.

محمد البوعزيزي أضرم النار في نفسه في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010، عندما كان في 26 من عمره. كان بائعاً متجولاً تونسياً. عندما صادروا عربته التي كانت وسيلة كسبه لرغيف خبزه. لم يوجه غضبه نحو من ظلموه. أشعل جسده، لتتحول الأنظمة الفاسدة في الشرق الأوسط، والتي بدت وكأنها ستستمر لألف عام، إلى كرة نارية وانهارت مثل أحجار الدومينو. السياسيون المتعجرفون الذين اشتهروا بقسوتهم بدؤوا البحث عن حفر للاختباء. لم يكن البوعزيزي سياسياً أيضاً، لكنه أشعل مسار تصفية جيل كامل من أصحاب الدكاكين السياسية. لقد مثل سلوكه أصدق تعبير عن السياسة الفعالة الحقيقية.

كذلك الأمر بالنسبة للحركة الكردية، فهي ليست حركة أنشأتها السياسة الكردية أو السياسيون الكرد، بل حركة أنشأها الكرد أنفسهم. حتى لو لم يكن هناك نواب يجلسون تحت قبة البرلمان، فإن تلك الحركة السياسية ستظل موجودة دائماً. لن يزول الحظر حتى يتم حل هذه المشاكل والمشاكل المماثلة لأولئك الذين تعرضت لغتهم وهويتهم وكرامتهم للإهانة.

بالنسبة لي، لم يكن يغريني يوماً أن أكون ممثلًا للأكراد أو اليساريين في تركيا أو لأولئك الذين يحلمون بمستقبل أكثر عدلاً وإنسانية. لكن ما هو الحظر الذي يمكن أن يسلب كرديتي، يساريتي، أو أمنياتي بمستقبل أكثر عدلاً وإنسانية؟

اختتم أوندر مرافعته وهو يتوجه بالكلام إلى ممثلي الإدعاء العام والمحكمة الدستورية:

“لا أعرف ما الذي ستحظرونه، وما الذي سيفعله الحظر. أعتقد أنكم تدركون حقيقة أنهم يشغلونكم بأشياء لا جدوى منها. إذا قلت لأولئك الذين يشغلونكم بأن ما يفعلونه لا طائل منه، ربما سيأخذون كلامكم على محمل الجد. طلبي من مقاكم الأعلى، أنه في حال صدور حكم بحظري عن مزاولة العمل السياسي عليكم أن تقولوا لمن يدفعكم إلى مثل هذه الأشياء التافهة: انظروا، نحن نصدر أحكامنا باسم الله، فلتكن هذه المرة الأخيرة، رجاءً!”. 

*يمكن الاطلاع على نص المرافعة في موقع “T24” باللغة التركية

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد