فريدريكا خيردينك
شنّت الدولة التركية هجوماً عسكرياً شاملاً على حي سور في مدينة آمد(ديار بكر) عام 2016، وذلك عقب انقلاب أردوغان المفاجئ على عملية السلام. روّجت حينها الدعاية التركية بوجوب محاربة مناصري العمال الكردستاني في حي سور، لكن اتضح فيما بعد أن الهدف الخفي من هذا العدوان التوحشي، يكمن في تحويل هذا الحي الذي يعدُّ رمزاً ثقافياً وتاريخياً لهوية المدينة، إلى سوقٍ يخدم المشاريع السياحية والاستثمارات التي تعود بالفائدة إلى الشركات الخاصة المتحالفة مع أجهزة الدولة. فكان لا بد من إزالة العقبات المحلية والإرادة السياسية، بغية تمرير هذه الأجندة التي تخدم سياسة التمدن ورأس المال. وليس هناك طريقة سوى افتعال الحرب، ومن ثم تدمير المناطق الأثرية والتاريخية العريقة ومحو الذاكرة الثقافية للمدينة، وهي لعبة تحفل بها سجلات مؤسسات عنف الدولة والشركات الخاصة منذ تأسيس تركيا المعاصرة.
فكيف كانت أهوال هذه العملية الإبادوية على نفوس الكاتبة الهولندية، فريدريكا خير دينك؟ وما هو شكل التناقض الذي بقي راسخاً في ذاكرة الكاتبة وهي تتابع بقلق شديد إلى هذه اللحظة، محو آثار المدينة الحضارية على أنقاض سياسة الحرب ونزعة التسليع؟ للإجابة على هذه التساؤلات، أفردت الكاتبة رسالة خاصة للمركز الكردي، وهي تخاطب مدينة آمد، وعلى وجه الخصوص، حي سور، وذلك بطريقة أدبية حاذقة ومؤثرة.
عزيزتي آمد…
نسبياً، قد يبدو إرسال رسالة إلى مدينة ما ومخاطبتها، بمثابة أمرٍ غريبٍ بالفعل، غير أنّ الأمر يخص في المقام الأول لغةَ قلوبنا، فلا يزال قلبي يجوب شوارع حيّ سور الذي تحطم قلبه. من هذا المنظور، تغدو الغرابة في مخاطبة المدينة، كحالة اعتيادية جداً لديّ.
نفدت معركة سور غبارها في مثل هذا الشهر قبل ستة أعوام. حيث دامت المعركة بين الجيش التركي ومجموعة من الشباب المسلحين تحت لواء وحدات الحماية المدنية “YPS”، قرابة مائة يوم، دُمّر من خلالها جزءٌ من سور. يصعب النظر إلى مشهد الدمار وتصديقه، ذلك أنّ تلك الشوارع كانت مفعمةً بالحياة ومكتنزةً بحضور الناس، حيث يفوح من جنباتها عبق تاريخٍ خالد. فالشوارع والمباني المرصوفة بالحصى والجدار المحيط بها، كانت تختزن في طياتها ثراءً هائلاً لحضارات سادت على مرّ القرون، وأضافت هوياتها وبصمتها، لتندمج لاحقاً في موقع تراثي نابضٍ بالجمال الآخذ. كل ذلك في برهةٍ ما، اندثرت..
الوحشية
على من نلقي اللوم يا آمد؟ ( اعذريني ديار بكر، ما زلت عازمةً على عدم الاتصال بك، لا بأس في ذلك، أليس كذلك؟). لقد كنتُ في حيرةٍ من أمري. أتذكر أنني شاركتُ حيرتي في صيف عام 2016 مع الرئيس المشترك لمنظومة المجتمع الكردستاني، جميل بايك، وخاطبته قائلةً: هل كان نصب المتاريس وحفر الخنادق التي أقامتها وحدات الحماية المدنية بالتعاون مع جزء من السكان المحليين في حي سور، ضرورية حقاً؟ سيما أنهم كانوا على دراية بأنّ رد فعل الدولة سيكون فظيعاً، أليس كذلك؟ ثم استرسلت: إذا كان أيّ شخص يعي وحشية الدولة، فهم بالتأكيد قاطني حي سور، نظراً أنّ غالبيتهم هجروا من البلدات والقرى التي سوّيت بالأرض في حقبة التسعينيات. والحال هذه، أليست وحدات الحماية المدنية ومعهم حزب العمال الكردستاني، من ينبغي أن نلقي عليهما اللوم من جهة تدمير ومقتل العديد من المقاتلين والمدنيين، سيما أنّ الحزب من قدّم السلاح لهذه المجموعات، وكان يقودهم قائد متمرس، جياغر هيفي، الذي جاء بدوره من الجبل؟ ردّ بايك قائلاً: ” كانت الدولة ستدمّرها على أي حال”.
في تلك الأثناء، لم أكن متأكداً من إجابته. لكن عندما أنظر إلى سور الآن من منظور الأثر الرجعي، أي منذ آذار/مارس عام 2016، فإنه لم يتم تطهير الأحياء المتضررة فقط من المباني التاريخية التي كان من الممكن إنقاذها نسبياً، بل تم أيضاً تسوية الأجزاء المجاورة من سور التي لم تتضرر أو تلك التي لم تتعرض للدمار بشكل كبير. حالياً، تتناقل مواقع التواصل الاجتماعي بكثرة صور لهذه الأراضي القاحلة، وكذلك أيضاً لتلك المباني الجديدة التي شيّدتها الدولة. إنها مشاهد فظيعة وشاذة ومروعة يا آمد. فهي لا تليق بكِ، مثلما لا تليق بحي سور. فهذه الأبنية تتطابق تصاميمها مع السجون أكثر من المنازل. لا أحد يعيش هناك، ولا أحد يرغب بالعيش هناك.
شارع ضيق
أليست حكاية هذه الشوارع المشيدة الجديدة والتي كانت جزءاً من هويتك فيما مضى، مؤشراً على مدى الانتهاكات التي ارتكبتها الدولة؟ يا ترى ما هو تسمية ذلك الشارع الذي يأتي خلف المئذنة رباعية الأضلاع، حيث الكنيسة الأرمنية الواقعة في عُمق سور؟ فقد أطلقوا عليه شارع” البوابة الجديدة”.
كان من المعتاد أن يكون هذا الشارع ضيقاً، ولكنه صار الآن واسع النطاق. مثل كل الطرقات المشيدة حديثاً، ينبغي أن تكون مساحته الواسعة، بحيث يفسح للمدرعات والدبابات، الإقدام على المناورة. كان من بين الأسباب الرئيسية التي دفعت وحدات الحماية المدنية لمقاومة الجيش التركي لأكثر من مائة يوم، هو قدراتهم لمعرفة دهاليز الحي أفضل بكثير من القوات العسكرية، الأمر الذي ساندهم أيضاً في شق طريقهم سيراً على الأقدام عبر شوارع وأزقة سور بسهولة، بخلاف تعثر عربات الجيش.
لو تسمحين لي يا آمد، دعيني أطرح عليكِ هذا السؤال: ما مقدار الدمار الحاصل، وكيف تبدو المناطق الجديدة الجاثمة على قلبكِ الآن؟ في الحقيقة، بلوَرت ممارسات الدولة يقيناً لديّ، بأنها كانت ستدمر حي سور في جميع الأحوال. منذ مدة طويلة، وأنا أعمل على قصة هذا الموضوع، وناقشتُ مع العديد من الأشخاص بالفعل. أخبرني أحدهم، وهو رئيس بلدية سور السابق، عبد الله دميرباش، عن الخطط التي كانت الدولة قد وضعتها قبل نحو عقد من اندلاع حرب عام 2016. لقد كانت هناك محاولات حثيثة تحت مزاعم تحسين حي سور من قبل مطور الشركة، لكنها اصطدمت بمعارضة قوية من قبل السياسيين والسكان المحليين، لدرجة أنها أجهضت تلك الخطط. لكن الرغبة في تحويل سور إلى شيء يخدم الدولة لم يتم التخلي عنها بتاتاً. فكانت الحرب ذريعة للتدخل والرد بشكل فظيع، ومن ثم، باشرت عملية التحسين كما هو مخطط له.
الخريف
مؤخراً، ظهر شخص ما في مقطع مصوّر على تويتر، وهو يشير إلى عملية التجديد في مسجد قديم يقع في سور، وقد أوضح بأنه لمن الدهشة بأنّ الدولة قد أجرت بالفعل تجديداً ملائماً بما يتناسب مع التغيير. يا له من أمر سيّء! لقد قمتُ بإرسال المزيد من الصور للمباني التي لم يتم تدميرها، بخلاف الترويج الدعائي السائد، وحسب خطة الدولة، من المتوقع أيضاً أن تتم إعادة فتح الكنيسة الأرمنية في فصل الربيع من هذا العام، وذلك بعدما قامت الدولة بترميمها. عادةً، يتابع المشاهد من الخارج هذه التحوّلات ليس فقط على أنها خطة لجذب السيّاح، وإنما تعرض لهم أيضاً المشهد التاريخي. حقاً أنه تراثٌ بلا سياق، فالقلب والروح اللذان يضعان هذه المساجد والكنائس والحمامات في سياقها الطبيعي، قد تم اقتلاعهما من الجذور، وأمسى شيئاً لم يعد موجوداً الآن؟
لن أشارك هنا ما أخشى منه يا عزيزتي آمد. سوف نلتقي مرة أخرى. آمل أن أكون غير صائبة فيما ذهبت إليه، وأن أتجول في ما تبقى من قلبكِ الدافئ والنابض بالحياة.