حسين جمو
يشهد المسار السياسي حول الأزمة الأوكرانية حالة تباين ما بين التفاؤل والتشاؤم، بحسب تصريحات تعقب كل جولة تفاوض بين روسيا وأوكرانيا، إلا أنّ مسار الحرب يسير في اتجاه واحد منفصل عن المسار السياسي. فالتصريحات السياسية غالباً تكون غير كاملة، وتطلق في سياقات جزئية، ومثال ذلك آخر التصريحات من الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلنسكي أكد فيها أن بلاده تدرس بجدّية المطلب الروسي بـ”حياد أوكرانيا”. مثل هذا التصريح يوحي وكأن كييف على وشك الاستسلام، غير أنّه ما من شكّ أن تعقيباً لاحقاً من القيادة الأوكرانية سيوضح الأمر أكثر عبر ربط مناقشة الحياد بانسحاب روسيا الكامل من الأراضي الأوكرانية، بما في ذلك شبه جزيرة القرم، و هو ما يعيد الأمور إلى نقطة الصفر.
وسط هذا المسار الهش، تبذل دول إقليمية جهوداً منفردة، أو لا تحظى برعاية دولية، للوساطة واستضافة مفاوضات بين الجانبين، منها تركيا التي تتقدم كوجهة تلاقي بين كييف وموسكو. إن موقع تركيا في هذه الحرب يؤثر بشكل مباشر على الوضع الأمني الهش في سوريا. ففي حال بقيت الحرب ذات طابع إقليمي على الأراضي الأوكرانية، وضمن صيغة الحرب التقليدية، فإن أنقرة تحافظ على موقعها الوسط بين الطرفين، وهو ما يحاول المسؤولون الأتراك إظهاره عبر دعم وحدة سيادة أوكرانيا من جهة، وضرورة إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة مع روسيا من جهة أخرى، وذلك وفق ما عبر عنه المتحدث باسم الرئاسة التركية لقناة الجزيرة في 27 آذار/ مارس.
لكن القلق يخيم على أنقرة بسبب عدم قدرة اللاعبين الدوليين في الصراع على ضبط إيقاع التوتر عند نقطة محددة آمنة من الانفجار خارج الإقليم. وفي هذا الإطار قال إبراهيم كالين المتحدث باسم الرئاسة التركية في 27 آذار إن على تركيا والدول الأخرى مواصلة الحديث مع روسيا للمساعدة في إنهاء الحرب الدائرة على الأراضي الأوكرانية، حيث أكد كالين موقفه هذا خلال منتدى الدوحة ” إذا أحرق الجميع الجسور مع روسيا، فمن سيتحدث معهم في نهاية المطاف”.
ترفض تركيا حتى الآن الانضمام إلى العقوبات التي فرضها الغرب على روسيا، وهو موقف معرض للتغيّر عند نقط ما من تحول الصراع نحو مواجهات أعنف حين يأتي الحريق على كافة جسور التواصل. رؤية تركيا تجاه هذه الأزمة عبر عنها وزير الدفاع، خلوصي أكار، في منتدى الدوحة، بالقول إن تركيا تريد أن تكون صديقة للجميع. لكن، في أي حالة ستجد تركيا نفسها مضطرة لتكون صديق طرف ضد آخر؟
حرب إقليمية وهزيمة عالمية
يقف العالم على شفا حرب كبيرة مندلعة فعلياً في أوكرانيا، لم تتحول إلى حرب عالمية بعد، وما زالت محصورة بين روسيا وأوكرانيا إلى الآن. لكن شبح الحرب الكبرى لا يبدو بعيداً في ظل التعقيدات المصاحبة للمواجهات العسكرية. ما زال المشهد في طور الاصطفافات الدولية. هناك قوى كبرى، على غرار الصين، ما زالت تحاول إبقاء الحرب في إطار إقليمي بين دولتين، وليس هناك ما يشير إلى أنها ستصمد وهي تسند هذا القالب للمواجهات.
في المقابل، يقدم حلف شمال الأطلسي (الناتو) مساعدات فتّاكة عاجلة وكبيرة إلى أوكرانيا من دون أن تتورط بشكل مباشر في الحرب، متأملةً حتى الآن على الأقل، أن تبقى الحرب إقليمية بشرط أن تكون هزيمة روسيا عالمية وساحقة؛ ولا يمكن قراءة تصريح الرئيس الأميركي جو بايدن خارج هذا السياق. فقد وصف “مقاومة أوكرانيا في مواجهة القوات الروسية بأنها جزء من معركة عظيمة من أجل الحرية”، داعياً العالم إلى الاستعداد “لمعركة طويلة”. على الجهة الأخرى، لروسيا بنك أهداف تريد تحقيقه كاملاً، وهو تحييد أوكرانيا كلياً عن الانخراط في المعسكر الأطلسي؛ والأصح استباق انخراطها في الحلف بتدمير إمكانية حدوثه. وإذا تطلب ذلك احتلال كامل أوكرانيا فلا شيء سيدفع قادة الجيش والقيادة السياسية في موسكو على التراجع في ظل المشهد الحالي. حتى الآن المكاسب الروسية كبيرة، والدعم الغربي العسكري لأوكرانيا يبطئ التقدم الروسي ولا يوقفه. لكن في المقابل الخسائر الروسية أيضاً ليست قليلة، و لا مؤشرات قطعية على أن الهدف الروسي هو حوض الدونباس والقرم فقط.
هناك تيار في التحليل يرجح بقوة بقاء الحرب في حدود إقليمية. وهذا رأي يستند أيضاً لمعطيات غير قليلة، ليس أقلّه أن العالم ليس مستعداً لدفع هكذا ثمن جراء مغامرة عسكرية روسية في بلد مجاور. غير أن تاريخ الحروب الكبرى يعطينا درساً يتكرر مراراً، وهو أنها تبدأ بهذا الشكل وتنتهي على كارثة يخرج منها البعض بالكاد واقفاً على قدميه ويسمي نفسه المنتصر. وما يزيد من ترجيح أن الأمور قد تخرج عن السيطرة، التصريحات التي يطلقها الرئيس الأميركي في تدرجه وصف بوتين من مستبد إلى مجرم حرب وأخيراً “جزّار” أو ” لا يمكنه البقاء في السلطة”. لقد أرعب هذا التصريح الطبقة السياسية في واشنطن وأوروبا. مثل هذه المفاجآت وحدها كفيلة بإخراج الحرب من النطاق الإقليمي إلى العالمي. فبعد ساعات من هذا التصريح المهين لروسيا، قال الملياردير الروسي أوليج ديريباسكا، إن بايدن في وارسو تشير إلى نوع من “الحشد الأيديولوجي الجهنمي” وقد تطلق شرارة صراع أطول أمداً بكثير في أوكرانيا. وأضاف: “قولاً واحداً.. هؤلاء الناس يعدون لسنوات من القتال“.
إن ما قد يخرج الحرب عن نطاقه الإقليمي هو أن الدول الغربية، الأطلسية، تتعامل مع روسيا وكأنها كوريا الشمالية أو كوبا أو فنزويلا. بل إن تدرُّج الأوصاف التي أطلقها الرئيس الأميركي على بوتين يعيد إلى الأذهان الخطابات الأميركية تجاه الرئيس السوري بشار الأسد. لن يكون مفاجئاً أن تمنح هذه الحدّية الغربية بوتين والقيادة في موسكو شعبية أوسع بين الروس الذين يرون كيف يتم معاقبة حتى لاعبي أندية رياضية لمجرد أنهم يحملون الجنسية الروسية. مثل هذه المقاربة الغربية توصل رسالة واضحة: نحن ضد روسيا كلها، تاريخها ورياضتها ورجال أعمالها وقمحها، وقريباً غازها ونفطها، ضد عارضات الأزياء والأدب والثقافة القادمة من روسيا.
هذا هو المشهد ومسار تقدمه نحو الأسوأ. وقد يحدث شيء ما أشبه بالمعجزة وتجعل هناك صيغة وسط تكسب فيها روسيا قليلاً وتخسر أوكرانيا قليلاً، لكن هذا السيناريو ما زال بعيد المنال وسط حرب الشوارع في ماريوبول وغيرها وتوسع مدى الصواريخ الروسية الاستراتيجية باتجاه غرب أوكرانيا.
إلى أن تحدث هذه المعجزة، فإن المواجهات قيد التوسع. وكل من تركيا وسوريا من أكثر الدول قابلية للتأثر من توسع الحرب. ما زال لأنقرة وضع خاص في العلاقة مع موسكو، ليس بسبب الـ”إس 400″، بل لأن تركيا وحلف الناتو غير مندمجين كلياً. في السنوات الأخيرة لعبت تركيا دوراً تعطيلياً في الحلف في عدد من الملفات، واستخدمت أنقرة حلف الناتو لتغطية عمليتها الاستعمارية في عفرين، فكانت لحظة توافقٍ نادرة بين روسيا وحلف الناتو في إطلاق أيدي تركيا في شمال سوريا وحمايتها من أي مساءلة دولية جراء جرائم الحرب التي أعقبت احتلال عفرين وراس العين/ سريكانيه وتل أبيض.
في الوضع الأوكراني يتقلص شيئاً فشيئاً هامش التلاعب التركي في الوضع الذي خلقته لنفسها منذ عام إسقاطها الطائرة الحربية الروسية خريف العام 2015. منذ ذلك الحين وتلعب أنقرة دور “الساحة المشتركة لكل من الناتو وروسيا“، وهو دور ليس قليلاً في العلاقات القارية. وكان الطرفان، الأطلسي والروسي، ينظران بعين الرضا لهذا الدور رغم المشكلات التقنية بخصوص “إس 400”. رغم ذلك، كلما طال أمد الحرب كلما فقدت تركيا موقع الوساطة الذي تحاول استثماره للبقاء في “ساحة مشتركة” بين الناتو وموسكو. كلما طال أمد الحرب ستجد نفسها تعرّج صوب الناتو، سواء رغبت القيادة التركية في ذلك أم لا. فالارتباط السياسي لتركيا بالغرب ليس محل مقايضة بالعلاقة مع روسيا. ما تريده تركيا هو أن تكون “صديقة للجميع”، وهذه معادلة تصلح للاستثمار فيها حين يكون التوتر بين الغرب وروسيا تحت السيطرة.
كذلك ارتباط الاقتصاد التركي بالغرب لا يمكن المغامرة فيه، حيث يبلغ التبادل التجاري مع دول الاتحاد الأوروبي قرابة 180 مليار دولار، و مع بريطانيا 25 مليار دولار، ومع الولايات المتحدة 28 مليار دولار. المجموع يصل قرابة 233 مليار دولار. أما مع روسيا فبلغ حجم التبادل التجاري عام 2021 قرابة 33 مليار دولار. هذا فضلاً عن العلاقات في القطاع العسكري، خاصة بين ألمانيا وتركيا.
المقاربات الكردية
ما زالت المقاربات الكردية، في أجزاء كردستان، حذرة للغاية في إطلاق خطابات متحيزة لطرف ضد آخر. حزب العمال الكردستاني أوضح موقفه مبكراً على لسان القيادي دوران كالكان، حين اعتبر أنه ليس هناك ما يضطرهم لتأييد طرف، لكنه توقع أن تخسر أوكرانيا الحرب. وهذا التصريح هو ذاته الذي عملت وسائل إعلام تابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني على تحريفه ونشر تصريح مزيف على لسانه بأن أوكرانيا يقودها تجار مخدرات. الأطراف الكردية الأخرى سارت على النهج ذاته، بعدم الإعلان عن موقف. رغم ذلك، تبدو القوى الكردية في بعض الساحات، مثل شمال كردستان/ تركيا، تتوقع في كل الأحوال، خسائر كبيرة لأنقرة جراء هذه الأزمة، وهي ستبني موقفها بناء على مصالح الشعب الكردي في الشمال. وأصدرت هيئة الإدارة المركزية في حزب الشعوب الديمقراطي، بياناً متوازناً وجهت فيه اللوم للطرفين على التوالي: “إن ما يحدث في أوكرانيا هو الحلقة الأخيرة من الصراع على السيادة بين الناتو وروسي.. إننا ندين بشدة التدخل العسكري الروسي الذي بدأ بانتهاك للقانون الدولي، ونطالبها بالالتزام باتفاقية مينسك ووقف العمليات العسكرية وفتح الطريق أمام المفاوضات.. ونطالب الحكومة الأوكرانية بالتخلي عن نهجها الذي من شأنه تأجيج الصراع بين كتلتين، كما نؤيد اللجوء الى الحوار مع روسيا”.
في مجمل الأحوال، لن ترغب أنقرة في فقدان دورها بالكسب من الطرفين، غير أن الحرب ستفرض عليها، في حال توسع المواجهات، أن تصبح طرفاً، بشكل أو بآخر، إلى جانب حلف الناتو، لأن ثمن الحياد أعلى بكثير من ثمن الانحياز في مرحلة ما. هذه المرحلة في خروج الحرب من النطاق الإقليمي لم يأتِ بعد. والواقع، فإن لا شيء أكثر من تخلي تركيا عن حيادها يشكل علامة على دخول الحرب في أوكرانيا الطور العالمي، لأن مدى الحرب يتحدد بمدى حياد البحر الأسود أكثر من الجبهة البرية الواسعة على الأرض الأوكرانية.
في حالة خروج الحرب عن حدها الإقليمي، يتزايد التكهن بحدوث ضربة غير تقليدية، كيماوية أو نووية محدودة، بين المعسكرين الروسي والغربي. سواء حدث ذلك على الأرض الأوكرانية أو في جوارها، فإن القواعد العسكرية الروسية في الخارج لا يرجح أن تكون في مأمن، مثل قاعدة حميميم الجوية على الساحل السوري. ورغم أن مسار الحرب ما زال محصوراً في الإقليم المشترك بين روسيا وأوكرانيا، فإن المفاجآت المتوقعة ليست بعيدة عن التحقق. في النهاية روسيا دولة في حالة حرب أعلنتها من جانب واحد، لكنها أيضاً تحت حصار “قارّي” من جهة الغرب، وهذا ما يزيد من احتمال انتقال الحرب إلى مرحلة المواجهة غير التقليدية.
وبالتالي، فإن خروج الحرب من الحدود الإقليمية إلى القواعد الخلفية سيجعل من قاعدة حميميم في سوريا هدفاً محتملاً، ومثل هذا السيناريو كفيل بإشعال الحرب في سوريا بقوة على عدة جبهات، على خط إدلب حلب اللاذقية بين قوات النظام ومعها روسيا وبين الفصائل المسلحة الموالية لتركيا والمتحمسة للمساهمة ضد موسكو في أي مكان من العالم، وكذلك بين وحدات حماية الشعب والفصائل التركية في عفرين. وهناك احتمال، بدرجة أقل، بتمدد المواجهات إلى شرق الفرات، في حال تعرض قواعد ونقاط تمركز أميركية لهجوم كبير. كافة الأطراف في سوريا لديها حساباتها، والجميع لديه مصلحة، في مكان ما من البلد، أن تُسْتأنف الحرب. وككل مرة، يمكن أن لا تتوقف في المكان الذي ترغب فيه الأطراف المعنية.
بدون هذا السيناريو، وإذا ما بقيت قاعدة حميميم خارج نطاق الحرب بين الغرب وروسيا، حتى في حال توسعها على جبهات أخرى في أوروبا، مثل بولندا وبيلاروس، فإن انهيار حالة الجمود العسكري في سوريا غير مطروح. كما أن عمليات الاستفزاز الصغيرة، مثل إرسال مسيرات بدائية لقصف حميميم، أو إطلاق صواريخ غراد على قاعدة أميركية، لن تكون شرارة لاستئناف الحرب في سوريا، لأنه يتكرر بين فترة وأخرى بدون تداعيات.