حسين جمو
“نحن رؤساء الدول والحكومات…ملتزمون بجعل الحق في التنمية حقيقة واقعة لكل إنسان وبتخليص البشرية قاطبة من الفقر”.
تم تبني هذا الشعار في اجتماع للأمم المتحدة في 8 سبتمبر عام 2000 تحت عنوان “إعلان الألفية”. اجتمع قادة العالم ممن يحكمون بشكل ديمقراطي ودكتاتوري ومافيوي، وتبنوا جميعاً هذا الإعلان. ما الذي يفترضه هذا الشعار؟ أنّ هذه التشكيلة من الحكومات، من أرذلها إلى أفضلها، اجتماع لمحبي الخير لشعوبهم. الشعار أعلاه مبني على إعلان أممي صدر عام 1986 “التنمية حق من حقوق الإنسان للجميع”.
هذا المسار الأممي في التنمية يعكس طبيعة الأمم المتحدة كنادٍ للدول القومية، وإطار قانوني دولي – في جانب أساسي وكارثي منه – يشرع الاستعمار الداخلي الذي تمارسه الفئات الحاكمة القومية ضد القوميات غير الحاكمة، وحالة كردستان مثال سوداوي في كيفية تهشيم المجتمع و أنماط الإنتاج تحت عجلة التنمية. كردستان ضحية للتنمية مرتين، مرة ضحية خطط التنمية المدارة بعناية من مركز الدول القومية الحاكمة في تركيا وإيران وسوريا والعراق، ومرة ضحية استبعادها من التنمية. هذه المصيدة، مصيدة التنمية، يمكن سرد جانب منها، كمثال ونموذج، بخصوص قضية الجرارات والتي تحدث عنها أيضاً الروائي الراحل يشار كمال في روايته “شجرة الرمّان”، وصولاً إلى قضية المياه التي تقع منذ عقود وحتى اليوم في قلب مشاريع التنمية التدميرية للمجتعمات الكردية. في سوريا، ألم يكن المشروع التنموي الزراعي الأكبر (سد الفرات) حاملاً لاقتلاع السكان المحليين في المنطقة المغمورة ثم وجدوا أنفسهم أداة لتغيير ديمغرافي يستهدف الوجود الكردي؟ في سوريا تم الأمر بشكل مباشر في فترة كانت فيه الطليعة السياسية للمجتمع الكردي خائرة القوى رغم عدم تعرضها لضربة قاصمة حتى ذلك الحين. أما في تركيا، فالأمر جرى – وما زال – وفق كتالوغ منوع الأساليب والمضامين، حيث كردستان ساحة تجريب ليس فقط للأسلحة، بل للتنمية والهندسة الاجتماعية اللاعنفية.
الفقر والتتريك
عام 1960 بلغ عدد سكان ولاية آغري شمالي كردستان 215 ألف نسمة. بعد مرور 60 عاماً على هذه الإحصائية بلغ عدد السكان 535 ألف نسمة فقط. وبين عام 2000 و 2020 زاد عدد السكان 7 آلاف نسمة فقط. ولاية Kars أيضاً، بلغ عدد نفوسها عام 1960 نحو 544 ألف نسمة. بعد مرور 60 عاماً بلغ عدد السكان 285 ألف نسمة. أي تناقص عدد السكان هنا نحو 260 ألف نسمة.
الأرقام الخاصة بالولايتين أعلاه، وهي أرقام رسمية صادرة عن الدولة، عينة من الاختلال السكاني في منطقة كردستان الشمالية. لها أسبابها الموضوعية، لكن مع الكثير من التخطيط المنهجي أيضاً. هذا الاختلال أحد مظاهر التلاعب بالتنمية.
في خلفية رواية “شجرة الرمّان” تكمن قضية الجرارات التي أعادت رسم ملامح الحياة الزراعية و الطبقية في كردستان. هذا التغيير طال معظم أنحاء العالم. فقد غيرت هذه الآلة الثورية الحياة الزراعية إلى الأبد. دخول الجرارات إلى كردستان يعكس الوجه التنموي للحياة ومواكبة لتحديث البنى الاقتصادية القديمة، لكن كيف تم توجيه هذا الاتجاه التنموي من قبل الدولة؟
هذا التساؤل يعيد رواية “شجرة الرمّان” إلى عصب أيديولوجيا الدولة في التخطيط الحضري والريفي، وهي قضية قلّما التقطها متخصصون في الكتابة عن القضية الكردية كما فعل ديفيد مكدول في كتابه المعرّب إلى “تاريخ الأكراد الحديث”. ففي بعض صفحات تتبع مكدول قضية الجرارات وما أحدثته من تعميق الانقسام الاجتماعي و خلق فئات فقيرة جديدة، سواء بين الملّاك أو الفلاحين، وكان معيار الفئة الناجية هو الولاء للدولة. لذلك يمكن اعتبار أن مشروع الإصلاح الزراعي في ظل حكم الحزب الديمقراطي (1950 – 1960) هي بداية موجة التتريك الفعلية حين تم دمج القسم الأكثر تأثيراً من الكرد (الوجهاء) في الحياة السياسية في البلاد بشرط مسبق و هو أن يعرّفوا أنفسهم كـ”أتراك” وينضموا إلى أحزاب الدولة كمواطنين يتبنون أيديولوجيا الدولة في وحدانية العنصر التركي في الجمهورية و المصادقة على إلغاء الوجود السياسي والثقافي الكردي، بينما انقسم فلاحو كردستان و العاطلون عن العمل إلى فئتين، الأولى نجت من الجحيم (وهو كردستان في ضوء التلاعب التركي بالتنمية) وشكّلت هذه الفئة الموجة المهاجرة الأولى التي انسلخت إلى حد كبير عن ثقافتها الكردستانية و لغتها في المدن الكبرى، فيما لم يحالف الحظ الفئة الأكثر عدداً من الفقراء الذين بقوا يكافحون من أجل البقاء في الجحيم الذي خلقته لهم الجمهورية. و جدير بالذكر أنه ليس كل من انساق وراء “أيديولوجيا الدولة” قد نجا من الفقر الشديد، فقد تلقى جيل الآباء ممن عاصروا ثورات ما قبل وبعد تأسيس الجمهورية، دروساً وحشية على كافة المستويات، و لم يبق أمام الكثير منهم سوى الاقتناع بإدماج أبنائهم في مؤسسات الدولة وفق شروط الدولة نفسها للنجاة بهم من الهلاك.
لقد كان نجاح تداول السلطة من حزب الشعب الجمهوري إلى الحزب الديمقراطي في العام 1950 لحظة معقدة في التشكل الاجتماعي الكردي في ظل الجمهورية. يمكن القول إن التتريك قد انتقل في ظل سلطة الحزب الديمقراطي من مشروع عنصري ذو اتجاه واحد (من الأعلى إلى الأسفل)، إلى قطف الثمار حين نجحت الدولة في خلق نواة في قلب المجتمع الكردي فضّلت النجاة – وفق شروط الدولة – على البقاء في الفئة المطرودة من “رحمة الدولة”.
جرّارات الحزب الديمقراطي
حين قدم الحزب الديمقراطي نفسه للناخبين الكرد، منذ العام 1947 (عام إقرار التعددية الحزبية) حظي بإجماع نادر، من الملاكين والفلاحين. لم يكن السبب ثقة بالحزب الجديد ذو الميول المحافظة الإسلامية بقدرما ما كان نفوراً عاماً وتشكيكاً بكل ما كان يطرحه حزب الشعب الجمهوري الذي حول مصطفى كمال إلى صنم الجمهورية. نظر الفلاحون إلى محاولات الحزب الكمالي في الإصلاح الزراعي على أنها تأتي في إطار تدمير علاقات التضامن الهرمية في المجتمع الكردستاني، لذلك وقفوا إلى جانب برنامج الحزب الديمقراطي المدافع عن “قدسية الملكية الخاصة في الإسلام”، والمقصود منه إبقاء مساحات الأراضي تحت هيمنة الإقطاعيين الكرد. و على حد تعبير ديفيد مكدول “كان الفلاحون خانعين جداً لملاكي أراضيهم في كردستان”. على هذا المبدأ شرعت حكومة الحزب الديمقراطي في الإصلاح الزراعي، وقد وضعت بذلك – من خلال إدخال الجرارات وفق مكدول – الأساس الاقتصادي لتفجر القومية الكردية في الثمانينيات بقيادة حزب العمال الكردستاني، والمقصود بتفجر القومية الكردية ارتباطها باختلال التنمية في كردستان. كذلك ساعدت معونة مشروع مارشال الأميركي لأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، ساعدت الحكومة التركية في استيراد الجرارات بغض النظر عن النتائج الاجتماعية. وللمقارنة، كان لدى الحكومة 1750 جراراً في العام 1948. في عام 1950 فتح باب السيل أمامها فأصبح هناك بعد 12 شهراً عشرة آلاف جرار. ورغم تحذير البنك الدولي من أن تعميم الجرارات بدون خطة مدروسة سيؤدي إلى طرد المزارعين الصغار، تدفقت الجرارات أكثر، وبحلول عام 1954 أصبحت 40 ألفاً. وانتهى الأمر بالكثير من الفلاحين وصغار المزراعين إلى بيع أراضيهم لأصحاب الجرارات لعدم امتلاكهم ما يدفعونه إليهم نتيجة الخدمة التي كانت إجبارية يقدمها كبار الملاكين. وقد اقتبس مكدول من مقالة لصاحب رواية “شجرة الرمان” كتبها في صحيفة جمهوريت عام 1955 حين وصف يشار كمال الوضع بإيجاز: “لقد أصبح الفلاح الكردي محاصصاً (مرابعاً) مرة أخرى في الأراضي التي وزعتها الحكومة”.
لكن هذه الكارثة التي حلت بالطبقة الدنيا الكردية انعكست سلباً أيضاً على الملاكين بعد سنوات قليلة. فنسبة الهجرة الكبيرة للفلاحين من كردستان باتجاه سهول الأناضول، وللشباب المهنيين باتجاه المدن التركية الكبرى، كادت تفرغ كردستان من السكان لو لم يتم كبح هذه الموجة. هنا تحرّك الملاكون في اتجاه معاكس لأيديولوجيا الدولة التي تريد هذه الهجرة و إعادة الهندسة السكانية عبر تحريف مسار التنمية، لأن حظوة الوجهاء والملاكين لدى السلطة كانت تتوقف على حجم الأصوات التي يؤمنونها لأحزاب السلطة، و بات الانزياح السكاني الكردي يؤثر على دوائر انتخابية يستثمرها الوجهاء المنقادون للدولة. في انتخابات عام 1954 حصل الحزب الديمقراطي على 34 مقعداً من أصل 40 مقعداً في كردستان. للحفاظ على هذا المستوى من الاستثمار السياسي في الأصوات قلّص الملاكون من استخدام الجرارات الزراعية إلى الحد الأقصى، و تساهلوا مع الفلاحين وتخلوا مؤقتاً عن التوجه اللصوصي في تجريدهم من قطع الأرض الصغيرة التي بقيت في حوزة هؤلاء المهمّشين. لكن في النهاية فقد الحزب الديمقراطي قسماً من أصواته لصالح أحزاب أخرى، وحين نفذ العسكريون انقلابهم عام 1960 فإنهم وجهوا غضبهم ضد طبقة الملاكين الكرد وسعوا إلى تجريدهم من الأراضي وتوزيعها على الفلاحين. بطبيعة الحال، كانت اللجنة القومية التي تشكلت عقب الانقلاب تتألف من ضباط عسكريين، أبرزهم ألب أرسلان توركيش، مؤسس التيار القومي المتطرف الذي انبثق عنه حزب الحركة القومية لاحقاً.
حزب أبناء الفلّاحين
بدأ التتريك يفعل فعله في كردستان بتطويره ديناميكية ذاتية، مستفيداً من توجيه مسارات التنمية إلى اتجاهات تفكيكية للعلاقات الاجتماعية الكردية، و تهجيرية للطبقات الفقيرة. لكن الأمور أخذت انعطافة أكبر بعد انقلاب 1960. فما إن سلمت اللجنة القومية الحكومة للمدنيين عام 1961 تنفس الملاكون الصعداء، فقد عاد من هرب منهم بعد صدور عفو عام، وأعيدت إليهم أملاكهم التي صادرتها اللجنة القومية. وببراعة يصف مكدول هذه التسوية بين الملاكين والسلطة: “لقد كفّ الآغوات عن كونهم كرداً بمعنيين هامين؛ فقد تبرأوا تماماً من أصولهم الكردية، واستغلوا علاقاتهم مع الفلاحين ليس كوسيلة للاستقلال النسبي عن المركز كما في الأيام السابقة (أيام الحزب الديمقراطي)، ولكن لكي يصبحوا أعضاء مندمجين تماماً في المؤسسة التركية الحاكمة”.
في النهاية، أدى مخطط الدولة في التلاعب بالتنمية إلى ظهور واقع جديد. لقد عانى السكان وطرد قسم كبير من الفلاحين، وهجر القسم الأكبر مناطقهم، لكن نسبة المواليد حافظت على فتوة المجتمع في كردستان، و استقطبت مراكز حضرية كردية هجرة السكان من الأرياف في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، و تضخم عدد سكان ولايتي دياربكر و أورفا نتيجة هذه التغيرات في الحياة الزراعية. و على أطراف هذه المدن الكبيرة في كردستان، و اجتماع أبناء الفلاحين والعمال في جامعات أنقرة واسطنبول، خرجت طبقة سياسية كردية ثورية تكاتف أفرادها وكانت الثمرة حزب العمال الكردستاني، الذي كان فعلياً حزب أبناء الفلاحين الذين أنهكت جرارات الملاكين و جشع الحزب الديمقراطي آباءهم وأمهاتهم في القرى والبلدات الكردستانية. إن التوصيفات الحادة في الأدبيات التأسيسية لحزب العمال الكردستاني، ضد الآغوات والإقطاعيين، كانت مستمدة من مرحلة تفكك النظام الاجتماعي القديم و تموضع القسم الأكبر من الملّاكين في النظام السياسي التركي.
في هذه البيئة التي أنتجت الواقع المضاد لتلاعب الدولة بالتنمية ، كتب يشار كمال معظم رواياته، و أبطال و مهمّشو هذه الروايات هم آباء لأبناء الفلاحين الذين أسسوا الانطلاقة الثورية المضادة في الفن والأدب والسياسة، أمثال موسى عنتر و يلماظ غوناي و المجموعة الطلابية المؤسسة لحزب العمّال في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 1978.
طيلة سنوات التسعينيات، تركزت الحرب التركية ضد الكرد على تهجير الفلاحين إلى المدن، وهي حرب ما زالت مستمرة إلى اليوم، و نقلتها تركيا إلى خارج حدودها السياسية، وتحديداً إلى عفرين التي تحتلها وتمارس فيها كل إرثها في الهندسة السكانية.