حسين جمو
في تموز/ يوليو 1834، تعرضت قافلة تجارية ضخمة مؤلفة من 680 حمولة جلّها من الأقمشة والخيوط، إلى واحدة من أكبر عمليات السطو في كردستان العثمانية. لكن، لحسن حظ عصابة السطو الكبيرة، تحت قيادة أقوى التحالفات القبلية في شمال كردستان (قبيلة جلالي) أن مكان السرقة وقع في منطقة “خارج الدولة” بالمعنى الحضاري. انقضّت المجموعة على القافلة الإنجليزية على مشارف أرزروم Erzurum. حاول المسافرون والجنود المرافقون للقافلة، تتبع اللصوص، دون جدوى، لكن ما فاجأ أصحاب البضاعة أن اللصوص، عن طيب خاطر، اكتفوا بـ450 حمولة من أصل 680، ليس بسبب الملاحقة، بل لأن نقلها إلى معاقلهم يفوق إمكانياتهم اللوجستية.
هذا الحدث نشرته معظم الصحف البريطانية، لأن خسائر التجار الانكليز كانت كبيرة، فهم قد باعوا البضاعة مسبقاً للتجار الفرس، بدون تأمين، وتوجب عليهم تحمل الخسارة كاملة.
لقد وقع هذا الحادث على محطة رئيسية من محطات المسار التاريخي لما سيُعرف لاحقاً في الدراسات المعاصرة بـ”طريق الحرير” حيث كانت تتدفق السلع – وكذلك الأفكار- بين الشرق والغرب، وتنهض مدن وتتلاشى أخرى، ويختفي سكان ويأتي آخرون للاستيطان في أماكنهم. لقد كان هذا الطريق، منذ ظهوره على مسرح التاريخ قبل ألفي عام، طريق الثروة والغزوات الكبرى والتبشير – وكذلك الإكراه – الديني والهجرات و الإبادات الجماعية.
من هذا الطريق عبر المبشّرون النساطرة والزرادشتيون إلى الشرق زمن الدولة البارثية (Parthian Empire) في القرنين الأول والثاني الميلاديين، وعبره أيضاً نشر الدعاة البوذيون كهنتهم حتى شرقي المتوسط وبلغوا مصر، ومن هذا الطريق شق الإسلام طريقه إلى آسيا، كما انتشرت الطريقة النقشبندية الصوفية على امتداد محاور الطريق من بخارى إلى تبريز في القرن السادس عشر. إنه بحق كما وصفه المؤرخ Peter Frankopan “طريق الإيمان”. وعبره اجتاح المغول العالم الإسلامي، وسلكته القبائل الفزِعة والجائعة من وسط آسيا إلى إيران والأناضول، وتغير الوجه الديمغرافي للشرق الأوسط. في كثير من الأحيان، كما في حادثة السطو المذكورة، كان الطريق أيضاً مصدر دخل للمحاربين من المجموعات المهمّشة داخل الامبراطوريات المتلاشية.
طريق الثروة والفقر
ارتبط ازدهار وانحطاط بلاد “إيران شهر” بالتجارة الدولية. وإيران شهرهو الاسم القديم لإيران قبل أن يشيع استخدام “فارس” عبر اليونانيين ثم يتم تعميمه عبر العرب خلال الاندفاع الإسلامي تجاه بلاد إيران.
حين استولى أردشير بن بابك الساساني على الحكم في العام 226 م، كان مسار التجار قد سلك محاور بحرية خارج سيطرة الإمبراطورية البارثية المنهارة. فقد أدت الاضطرابات في آسيا الوسطى وغربي الصين إلى أن يصبح الطريق البحري الخيار الأجدى للصين التي كانت نفسها تعيش فترة اضطراب، فانتعش مساران بحريان على حساب انهيار الطريق البري عبر إيران، أولاً المسار الذي ينطلق من الصين وصولاً إلى ميناء البصرة ببلاد بابل ثم يشق طريقه نحو روما، والثاني يمر عبر البحر الأحمر لينتهي إلى روما أيضاً. كانت أول خطوة قام بها أردشير هو إعادة مسار التجارة البرية من الصين إلى إيران (في الاتجاهين) وتم ذلك عبر سنوات من المساعي أدت في النتيجة إلى تدمير عدد من المراكز البحرية المنافسة في الخليج وبابل. ما فعله أردشير، الذي بنى عشرات المدن من الصفر، أسس لتقليد تاريخي إمبراطوري، وهو أنه لا يمكن بناء إمبراطورية بدون احتلال أوسع مساحة تضم الطرق التجارية، وهذا يفسر لماذا بقيت بعض المناطق المجاورة خارج أطماع الامبراطوريات بينما تركزت الحروب الكبيرة في مناطق متقاربة عبر التاريخ. توسعت إيران نحو آسيا الوسطى حتى باتت دولة أردشير جارة للصين، فكانت نهضة إيران متوّجة بالتجارة، وأيضاً بمنع مراكز حضرية، خارج سيطرته، من المنافسة، أي ما يمكن تسميته احتكار الازدهار، و هذا استدعى غزوات عسكرية من ناحية، و بناء مدن جديدة من ناحية أخرى، و تنسب أكثر من 20 مدينة قائمة حالياً في إيران وكردستان إلى أردشير.
باعتبار أنّ مسار التدفق الأكبر للسلع، كان من الشرق إلى الغرب، فقد جعل ذلك للامبراطوريات المتعاقبة في إيران الأفضلية. فحين تصل السلع إلى وجهتها النهائية تكون بأضعاف سعرها مقارنة مع سعرها حين تعبر إلى أراضي فارس. فقرر الامبراطور البيزنطي، جستنيان الأول (527 – 565) الانقلاب على اللعبة الإيرانية. محاولته الأولى فشلت في الالتفاف على إيران عبر طريق البحر الأحمر والمحيط الهندي، لكن، وكما استنتج ول ديورانت في مؤلفه الموسوعي “قصة الحضارة” فإن الفرس الذين كانوا يسيطرون على ثغور الهند كانوا يفرضون على هذه التجارة رسوماً عالية كأنها تمر ببلاد إيران نفسها، “فلما خاب رجاء جستنيان في هذا الطريق شجع إنشاء المرافئ البحرية على البحر الأسود”.
يعود الفضل لهذا الامبراطور البيزنطي في ابتكار أهمية تجارية للبحر الأسود المعزول حتى ذلك الحين. لكن، بينما كان طريق التجارة الكبرى هو طريق الثروة لإيران فقد تحول إلى طريق الفقر لروما وبيزنطة حيث كان استيراد السلع الشرقية تفوق طاقة الأوروبيين، وكان أحد أسباب الانهيار الاقتصادي على ما يحاجج ديورانت في “قصة الحضارة” وتوينبي في “مختصر دراسة التاريخ”.
تحولات سكانية
هذه المعادلة في تفسير ارتباط ازدهار وانحطاط منطقة الشرق بالتجارة العابرة، بقيت إلى حد كبير محل اعتبار، وتدعم هذه الفرضية الفترات اللاحقة من السيطرة الإسلامية وما بعدها، ومن اللافت أن الحكم العربي الأول حتى نهاية الحقبة الأموية، ثم الحكم المختلط في الفترة العباسية، لم يشهد ابتكارات جغرافية تُذكر على صعيد طريق التجارة، وحتى بغداد نفسها كانت واحة صغيرة تستخدم كمحطة من محطات القوافل، وتحديداً المسار المار عبر طيسفون (العاصمة الأخيرة للدولة الساسانية). والكوفة (جنوب بغداد)، المدينة العربية الأكبر التي تأسست في صدر الإسلام، كانت خارج مسارات التجارة الكبرى في الدولة الإسلامية، وسرعان ما تلاشت، لكن البصرة التي أعاد العرب بناءها قرب موقعها المندثر (أبلّا)، بقيت عامرة ومزدهرة. من زاوية تجارية: كانت الكوفة مدينة عسكرية، والبصرة ميناءً تجارياً.
على أنّ هذا الثبات في خريطة التجارة العابرة للامبراطوريات جذبت التوسع العربي نحو المحاور النشطة للسيطرة على عائداتها، من بلخ في وسط آسيا وحتى البحر المتوسط. لكن ليس بدون اختلاف في طريقة الاستثمار؛ فقد أحدث الإسلام تغييرات طفيفة على المسار المركزي لحركة تدفق السلع. وهنا بقيت المحطات الرئيسية الكبرى دون تغيير، وهي مرو في خراسان ثم ريّ و أصفهان، أما التغيير الذي أحدثته الدولة العباسية فتمثل في إنشاء عاصمة جديدة وهي بغداد في العام 762م التي أصبحت ملتقى التجارة العالمية كما كانت بابل قبلها بقرون. أما الدولة الأموية التي سبقت العباسية، فإنها لم تكن أقل غنىً لكن المدن التاريخية على طريق حركة الرأسمال التجاري كانت تحت وطأة نظام تمييزي طبقي شديد العسف من قبل ولاة بني أمية في دمشق، ولم تتعاف المناطق الجديدة التي استولت عليها جيوش المسلمين العرب من الضربات العنيفة التي تلقتها خلال الحكم القصير لبني أمية والذي دام قرابة 90 عاماً.
مع العباسيين، عاد “رأس المال النازح” إلى مكانه السابق، إلى أيدي التجار غير العرب، وتراجعت الهيمنة العرقية العربية مع دخول الأقوام الأخرى في خدمة الدولة. وكانت التجارة سبباً في أسرع انتهاك سلوكي لتعليمات نبي الإسلام محمد الذي نهى عن لبس الحرير للرجال، فازدهرت مصانع الحرير في المنطقة وباتت ملابس الحرير “حلة الشرف” التي يهديها الخليفة في بغداد للمخلصين له، وسرعان ما أصبح المسلمون كبار تجار الحرير في العالم كله في العصور الوسطى.
لكن لم يكن ذلك بلا ثمن. فقد أدى ازدهار المراكز الساسانية القديمة من مشارف الصين وحتى بغداد إلى تهميش مدن الرسالة الإسلامية (مكة والمدينة المنورة) في عهد العباسيين، وحدث اندفاع سكاني معاكس من الأقوام الإيرانية والآسيوية باتجاه المراكز العربية الجديدة، وذلك بعد نحو قرنين من الانتقال السكاني العربي الكثيف إلى المدن الإيرانية، فأصبحت الحواضر الإسلامية خارج الجزيرة العربية، مختلطة إلى حد كبير، وينعكس هذا التمازج والتجاور بين الأقوام حتى اليوم في بلاد الشام والرافدين.
اللقاء الكردي- التركي
مع وصول موجة القبائل التركية الأولى نحو الغرب، حدث أول اتصال بين الكرد والترك نحو عام 1000م. كانت قبائل السلاجقة وغيرها قد استوطنت في أذربيجان، وانزاحت قبائل كردية وأرمنية منها، وبعد سنوات قليلة هيمنت القبائل التركية على طريق التجارة من وسط آسيا حتى حلب، لكنها لم تكن فترة ازدهار إنما نهب واستيلاء، حيث أن التغير السكاني الجديد في الشرق الأوسط أسفر عن تغير الوجه الحضري للبلاد. ولتأخير الحرب الأهلية بين الكرد والترك، لجأ أبرز زعيم كردي إلى عقد اتفاق مع الدولة السلجوقية القوية المتمركزة في إيران والموصل، وذلك بعد فشل حملة نظمها العرب والكرد ضد الهيمنة البدوية العسكرية التركية في الموصل. فانضم جيش الدولة المروانية الكردية إلى السلاجقة لخوض حرب مشتركة ضد بيزنطة، في أهم معركة في القرن الحادي عشر، والأهم على الإطلاق للقبائل التركية والكردية، وهي Milazgir (المعربة إلى ملاذكرد) عام 1071. انهزمت بيزنطة وتعرضت عاصمة الأرمن أخلاط لنهب وتدمير، ولم تعد من يومها حاضرة مركزية في تلك الأنحاء.
حتى ذلك الحين لم يكن هناك أي استقرار حضري للترك في المدن، لم تكن هناك أي مدينة تركية، وقياساً بحجم تدفق القبائل من وسط آسيا بالشكل الذي سجله التاريخ من القرن العاشر إلى الثالث عشر، فإن الأرجح أن انفجاراً سكانياً قد شهدته وسط آسيا مقابل انخفاض سكاني في عموم شرقي المتوسط. انضم الكرد إلى جيش السلاجقة في Milazgir كتسوية، وهي تسوية من موقع ضعف ودهاء أيضاً، وذلك لفتح الطريق أمام القبائل التركية باتجاه الأناضول بحسب قراءة قدمها زعيم حزب العمال الكردستاني، عبدالله أوجلان، وهذا التدفق من جوار كردستان إلى الأناضول هو ما حدث خلال المئة عام اللاحقة لمعركة ملازكِر، لكن ليس بدون حرب أهلية متقطعة، كردية – تركية، بلغت ذروتها أيام القائد الكردي صلاح الدين الأيوبي وفق مصادر تاريخية متطابقة عاصرت تلك الفترة، وتسكت عنها المصادر المعاصرة، وأكثرها دموية حدث في العام 1185 في الموصل والجزيرة، وكان من نتائجها المبكرة انقطاع المواصلات التجارية بين إيران والأناضول وبلاد الشام، وضمور المدن التي كانت مزدهرة في مناطق الصدامات بين الموصل وشهرزور والجزيرة، وحدث انزياح عدد كبير من العرب والكرد من كردستان و ميزبوتاميا، كما تزامن ذلك مع ظاهرة أخرى حدثت خلال وقت قصير وبقيت خارج مرويات التاريخ، فقد تلاشى الوجود القبلي العربي في مدنٍ ومراعٍ كانت قد شهدت استيطاناً عربياً كبيراً فيها، مثل أصفهان وهمذان وشيراز. في المقابل تمثل الإنجاز الكردي في هذه الحقبة بالتخلص من خطر الاستيطان التركي رغم أن ذلك كلف كردستان التضحية بسيادتها المحلية والدخول في محاور إقليمية كانت تنأى بنفسها عنها، وبذلك انتقل ثقل الاستيطان التركي إلى منطقة غربي الفرات: بلاد الروم.
لم يكد العصر العباسي يتعرض لضربة المغول القاضية في العام 1258، حتى كانت مراكز العرب التجارية، مثل مكّة، مسقط رأس الإسلام، قد أصبحت على حافة التاريخ، وبات العرب أقلّية في الدولة الإسلامية، وفقد الكرد استقلالهم الإداري وباتت مدن الشرق طيلة ثلاثة قرون لاحقة، مسرحاً لحروب طاحنة بين فروع القبائل التركية الوافدة. وخلال هذه المرحلة التاريخية باتت منطقة شرقي المتوسط نسخة من سهوب آسيا الوسطى في تلاشي المدن وسطوة البداوة.
التنظيم المغولي للتجارة
لم يكن الحرير السلعة الرئيسية للتبادل بين الشرق والغرب رغم شيوع اسم هذه المادة. فقد شهدت طبيعة التجارة نفسها تغيراً بحسب ذهنية السلطة الحاكمة.
اندفعت الدويلات التجارية جنوب أوروبا، وتحديداً جنوة والبندقية، في القرن الثالث عشر، نحو تأسيس محطات تجارية كبيرة في أجزاء من بيزنطة والبحر الأسود، وتفشت تجارة العبيد بشكل غير مسبوق، وهذه المرة ليس كخدم إنما كمقاتلين، وتناول المؤرخ بيتر فرانكوبان جوانب من هذا التحول في تلك الفترة في كتابه “طريق الحرير”، مسلطاً فيها الضوء على تحدي الروح التجارية لدى جنوة والبندقية لأوامر البابا بتحريم بيع العبيد للمسلمين أواخر فترة الحروب الصليبية، ونشأ من هذا التحدي ظاهرة أحدثت تغيرات عميقة في المشهد السياسي والعسكري في المشرق حين ظهر “المماليك” قوة مهيمنة سيطرت على مراكز الحكم الرئيسية في مصر وبلاد الشام. ولأن البلاد المحكومة من خلفاء العباسيين، اسمياً، كانت دولة ضرائب باهظة في أواخر أيامها، وبلغت 30% على السلع العابرة، فإن الكثير من التجار في آسيا وأوروبا استخدموا طريق البحر الأسود تزامناً مع بدء التحرك المغولي الذين سيطروا على مبتدأ طريق الحرير ووسط آسيا وقزوين في عهد جنكيز خان. ورغم القوة التدميرية العسكرية للمغول فإن التاريخ سجل تميزهم برؤية تجارية وتخفيضهم الكبير للضرائب على القوافل، وهذا ما عزّز من المسار الشمالي عبرالبحر الأسود وصولاً إلى القسطنطينية وأوروبا.
بالنسبة للمغول، كان مركز العالم هو الصين، ولم يكن جنكيز خان بصدد اجتياح العالم الإسلامي لولا حادثة التجار. فقد أرسل 450 تاجراً مسلماً من رعاياه إلى الدولة الجارة القوية في الغرب، الدولة الخوارزمية، فقتل أحد وزراء السلطان الخوارزمي التجار، بتهمة التجسس، وكان ذلك في العام 1218. كان جنكيز يبحث حينها عن إعادة إحياء طريق خراسان التجاري، وهو الاسم الشائع للطريق في العصور الوسطى، وفشل في هذا المسعى بالطريقة السلمية.
إن مسار عودة ماركو بولو من بلاد المغول إلى وطنه البندقية (عام 1292) يوضح طبيعة التناوب بين الطريقين البحري والبرّي في الحقبة المغولية. فلم تكن طبيعة السلع المنقولة هي التي تحدد سلك أحد المسارين، بل في كثير من الأحيان كانت الحروب الأهلية تتكدس على المسار البري. فكان من حظ ماركو بولو أنّ حظْر السفر عليه من قبل الامبراطور قوبلاي خان قد انتهى حين طلب أمير مغولي يحكم بلاد فارس، عروساً من العاصمة الأم لشعوب المغول (قراقورم)، ولأن الطريق البري كان يعج بالحروب في ذلك الحين بين قبائل التتار، فقد تقرر أن يسلك موكب العروس طريق البحر من الصين إلى إيران، فكانت الحاجة إلى ماركو بولو، برفقة والده وعمه، حاسمة، وذلك لخبرة هؤلاء الثلاثة في دروب البحر والملاحة. وكاد اليأس يسيطر على ماركو حين طالت الرحلة سنتين بسبب تيارات هوائية وعواصف.
الحواضر التي احتفظت بتجارة الترانزيت سرعان ما كانت تعود للحياة. ولهذا السبب كانت أصفهان الإيرانية من المدن المرنة، تدب فيها الحياة بعد التدمير، وغالباً كان الغزاة يعيدون بناءها للاستفادة من مزاياها. وبعد مئة عام من تدميرها من قبل هولاكو زارها الرحّالة المغربي ابن بطوطة (1304 – 1377) خلال رحلته إلى الصين. دوّن ابن بطوطة ما سمعه في المدينة عن كرم أهلها في الضيافة، فإن جماعة استقبلت ضيوفاً وطبخت لهم على نار الشمع، فما كان من الأخيرين إلا أن ردوا على الوليمة بأحسن منها، فطبخوا لهم على نار من أقمشة الحرير. تعكس الدورات المتتالية للازدهار في الهضبة الإيرانية أنها قاعدة الحكم، وأصبحت مركز السلالات المغولية، المولعة بالثقافة الفارسية، خلال فترة تمددهم نحو الحواضر الإيرانية، فسرعان ما كان طريق خراسان القديم للقوافل يعيد إنعاش المدن على هذه الهضبة، ومنها بدأ انزياح بغداد إلى الهامش. فللمرة الأولى خلال أربعة قرون، تخرج التجارة من أيدي بغداد لتعود إلى المسارات البارثية ما قبل الساسانية. وتراجعت بغداد ليس فقط أمام أصفهان، بل أمام مدينة أخرى نهضت بفضل ازدحام خط التجارة الدولية عبرها، وهي تبريز، التي باتت في القرن الرابع عشر عاصمة المغول الذين اعتنقوا الإسلام.