لويزا لوفلوك – مصطفى العلي
لم يكن هناك ما يدعو للريبة أثناء مرور سيارة بالقرب من سجن غويران، حيث كانت تسير بشكل طبيعي إلى أن انحرفت فجأة إلى اليمين واصطدمت بالجدار الخارجي للسجن بالقرب من البوابة الرئيسية محدثة كتلة نارية هائلة حولت الليل إلى نهار.
على بعد عدة أميال في غرفة عملياته، تلقى الجنرال مظلوم كوباني عبدي، القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة ، تقارير عن الانفجار في غضون لحظات. وهو أمر كان يتوقع حدوثه فقد كان يُحذّر الحلفاء على مدى السنوات الثلاث الماضية ومن بينهم واشنطن من خطورة الوضع . في غضون نصف ساعة ، حصل ما كان يُحذّر منه، إنه أشبه بكابوس.
كان هجوم تنظيم الدولة الإسلامية على سجن غويران في مدينة الحسكة شمال شرق سوريا في 20 يناير /كانون الثاني هو الهجوم الأكثر دراماتيكية للتنظيم منذ سنوات، وكانت معركة السجن أطول معركة دموية مع داعش منذ هزيمة الخلافة المزعومة في سوريا والعراق منذ ما يقرب من ثلاث سنوات. ووفقاً لمسؤولين فقد كان هدف الهجوم تحرير قادة داعش، المحتجزين هناك بين أكثر من 3000 مقاتل ينتمون للتنظيم .
خلال عملية استعادة قوات سوريا الديمقراطية السيطرة على السجن بعد معركة استمرت 10 أيام، شاركت أيضاً القوات الأمريكية والبريطانية في القتال ونفذت عدداً من الغارات الجوية لأيام وأرسلت قوات خاصة على الأرض. ووفقًا لقوات سوريا الديمقراطية فقد أسفرت المعركة عن مقتل أكثر من 500 شخص، نحو ثلاثة أرباعهم من عناصر تنظيم داعش، بالإضافة إلى رجال وأطفال قضوا في خضم هذه المعركة. فيما لا يزال مصير العشرات إن لم يكن المئات من المسلحين في عداد المفقودين.
وفي مقابلة له قال الجنرال مظلوم الذي بدت عليه ملامح التعب على غير عادته:« لقد أرادوا رفع الروح المعنوية للتنظيم عبر مهاجمتهم السجن وخطتهم كانت كبيرة».
أثبت تنظيم الدولة الإسلامية قدرته على التجدد والتعافي في العامين الماضيين على الرغم من خسائره الإقليمية. بعد ملاحقة فلول التنظيم ودحرها من شمال شرق سوريا، عاد التنظيم للظهور مرة أخرى عبر الخلايا النائمة في الأرياف حيث شنّت حملة اغتيالات وهجمات متفرقة محدودة النطاق ناجحة بشكل متزايد. روّعت هذه الهجمات المجتمعات المحلية التي ربما قاومتها أو أبلغت عنها، مما خلق مساحة لعمليات أكثر طموحاً.
كان الهجوم على السجن أكثر تعقيدًا ومحقاً مما توقعته الحكومات الغربية. تزامناً مع الهجوم الذي استهدف السجن، أفادت قوات سوريا الديموقراطية بحدوث هجمات متفرقة في المنطقة، بما في ذلك غارات للمسلحين على نقاط تفتيش وصهريج مياه، فضلاً عن استهدف موقع لقوات سوريا الديمقراطية بقذائف الآر بي جي والرشاشات. علاوة على ذلك، فقد تم أيضاً استهداف منزل القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية.
في العراق، انخفض المعدل الإجمالي لهجمات تنظيم الدولة الإسلامية في الأشهر الأخيرة. لكن التنظيم ما زال قادراً على استغلال الثغرات الأمنية، لا سيما في وسط محافظة ديالى حيث شنّ هجومين دراماتيكيين وقاتلين.
في إيجاز صحفي بعد ساعات من مقتل زعيم داعش أبو إبراهيم الهاشمي القرشي خلال غارة عليه في شمال غرب سوريا يوم الخميس، قال مسؤول رفيع المستوى في إدارة بايدن إن القرشي أشرف بشكل مباشر على أنشطة التنظيم في جميع أنحاء سوريا والعراق وأنه كان « يسعى إلى إعادة إحياء التنظيم تحت قيادته».
بينما تم التخطيط للغارة الأمريكية قبل أشهر من هجوم التنظيم على السجن، قال المسؤول إن القرشي أطلق تهديدات متكررة بأنهم سيستهدفون السجن في الحسكة. في الماضي، أدت عمليات الهروب من السجون إلى رفع الروح المعنوية لتنظيم الدولة الإسلامية، إضافة إلى حضّ القرشي التنظيم على القيام بهكذا عمليات بشكل دائم.
سلاح واحد فقط
في ٢٠ يناير / كانون الثاني ومع غروب شمس يوم شتوي على مدينة الحسكة المترامية الأطراف، كان مالك معيش الذي يبلغ من العمر ٢٦ عاما يأخذ قيلولة بين المناوبات. كان مدير السجن ذو البنية القوية، الملقب باسم باور، على يقين بأن السجن سيتم إستهدافه بأية لحظة، وقال إن التفكير في هذه المخاوف سيجعل الحياة اليومية لا تُطاق. كانت الغرفة التي شاركها مع حامية السجن الآخرين مزودة بمسدس واحد فقط، وكان مخصصاً لحالات الطوارئ.
مثل مرافق الاحتجاز الأخرى المنتشرة في شمال شرق سوريا والتي تضم ما يصل إلى 10000 من المشتبه بانتمائهم إلى داعش، لم يكن المقصود من البناء في الحسكة أن يكون سجناً. فقد كان هذا السجن مدرسة فنية ذات يوم وتم تزويدها بأبواب معدنية. كان السجناء الذين معظمهم أجانب، مكدسين بإحكام في بعض الفصول الدراسية القديمة لدرجة أن أطرافهم تلامس بعضها عندما ينامون.
وقال باور إنه بمجرد أن سمع انفجار السيارة الملغمة، خرج حافي القدمين ونزل إلى الممر في الطابق السفلي. أدت قوة الانفجار إلى فتح أبواب السجن وحدوث فوضى في الخارج. وفي أثناء ذلك احتشد العشرات من المهاجمين في محيط المجمع بينما ألسنة النيران تستعر بداخله. مستغلين ما حدث، بدأ السجناء الذين يرتدون بدلات برتقالية وسترات رمادية اللون بالهروب.
عندما دخل إلى فناء السجن، ضُرب على رأسه بعمود معدني وأُجبر على التراجع . كما قام حارس سجن آخر ويدعى عاكف بالتقاط السلاح الوحيد في المبنى وبدأ بإطلاق النار لإبعاد المهاجمين. عندما ألقى أحد المسلحين قنبلة يدوية تجاههم حاول عاكف رميها، لكنها انفجرت مما أدى إلى استشهاده على الفور.
انحنى باوار لالتقاط سلاح عاكف فيما كانت عينيه مسمّرتان على باب مقفل خلفه. و قال: « كنا بحاجة إلى مكان آمن، لذلك خلعت الباب وتحصنت هناك ».
عندما أبزغت الشمس أطلّ باوار عبر نافذة الغرفة المحطمة ليجد أن ساحة السجن مليئة بالجثث. طوال الليل، إنضم إليه في مخبأه 11 من حراس السجن الذين أصيب العديد منهم بجروح خطيرة وفقد ٣ منهم حياتهم نتيجة لغياب الإمدادات الطبية.
الأرض تهتز
قال مسؤولون عسكريون غربيّون إنه بعد الهجوم بساعات، انضمت قوات من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة إلى المعركة، ونفذوا عدداً من الغارات الجوية التي تعد الأطول لدعم حلفائها من قوات سوريا الديمقراطية منذ معركة دحر تنظيم الدولة الإسلامية في آخر معاقله في الباغوز بسوريا منذ نحو ثلاث سنوات. في أكثر من 20 غارة على مدار أسبوع، أطلقت طائرات التحالف صواريخ هيلفاير وذخائر كبيرة أخرى. إلى جانب ذلك، قصفت طائرات الأباتشي الهجومية أهدافًا داخل الطوق الأمني الذي أقامته على عجل قوات سوريا الديمقراطية بقيادة الكرد في الحسكة.
عندما وصل مُقاتلٌ من قوات سوريا الديمقراطية يُلقب بارتيزان مع وحدته بالقرب من السجن، كانت المعركة على أشدها لدرجة أن الأرض كانت تهتز، حسبما ذكر المقاتلون. انضم الأب البالغ من العمر 30 عامًا وهو أب لطفلين من مدينة سريكانيه (رأس العين) إلى التعزيزات التي وصلت عند دوار مروري قريب من السجن.
عمّر بارتيزان بندقيته وبدأ ينتظر. سرعان ما امتدت المعركة إلى الشوارع المحيطة. كان السكان في حالة هلع. وفي خضم الاشتباكات، حاولت إحدى الأمهات إقناع أبنائها الصغار بأن إطلاق النار كان عبارة عن إحتفال. قالت عبير عبد الله 20 سنة : « أخبرتهم بألا يخافوا، و أن أصوات الرصاص ما هي إلا مجرد حفل زفاف» .
وعندما إزدادت حدة الاشتباكات ولم يعد كلامها منطقياً، جمعت الأولاد بين ذراعيها، وأمسكت بأيديهم وبدأت تُمسّد شعرهم طوال الليل.
وامتد القتال إلى حيي الزهور والتقدم شمال وغرب السجن. حصلت إشتباكات بين مقاتلي قوات سوريا الديمقراطية وقوات الأمن الكردية المحلية مع مجموعات من المسلحين بين المنازل.
تم إعادة انتشار وحدة بارتيزان لتمشيط المنازل ذات الطراز العربي القديم للبحث عن مقاتلي داعش. كانت جدرانها منخفضة وساحاتها مفتوحة وواسعة مما سهل من عملية تسلل الجهاديين بينها. كان بعض المسلحين لايزالون يرتدون ملابس السجن فيما البعض الآخر كانوا يرتدون زيا عسكرياً. قال كوردو، 27 سنة، وهو عنصر من وحدة بارتيزان: « إن الجهاديين يُربكونا كونهم يرتدون زياً عسكرياً شبيهاً لما يرتديه بعض عناصرنا».
لتقليل تعرضهم للخطر، كان مقاتلوا قوات سوريا الديمقراطية يتحركون بسرعة من منزل إلى منزل . لقد كانوا يشعرون إنهم مراقبون، لكنهم لا يعرفون من أين. في كل منزل، كان بارتيزان يصعد الدرج للتحقق من السقف، بينما تنتظر بقية الوحدة في صمت بالطابق الأرضي.
في وقت الظهيرة، قال عناصر الوحدة في وقت لاحق، إنهم سمعوا أزيز رصاصة قناص ليسقط بعدها بارتيزان وهو مضرج بالدماء من السقف.
أين المفر
مع مرور الوقت، استسلم المئات من مقاتلي داعش فيما لقي المئات منهم مصرعهم. أفادت قوات سوريا الديمقراطية أنها استولت على عدة مجمعات سكنية، لكن القتال لا يزال شرساً. وأعلنت قوات سوريا الديمقراطية إن باقي المسلحين تحصنوا في الجناح الشمالي للسجن. كان من ضمنهم ما لا يقل عن 700 مراهق( أشبال الخلافة)، جلبهم آباؤهم برفقتهم إلى الخلافة المزعومة حيث جرى إحتجازهم بعد دحر التنظيم. وحسب قوات سوريا الديمقراطية، فإن هؤلاء المراهقين أُستخدموا كدروع بشرية في السجن.
تم تحرير بعض حراس السجن الذين احتُجزوا رهائن خلال الساعات الأولى من القتال. بيد أن باور كان لا يزال محاصراً في الداخل، على الرغم من أن المدرعات التابعة لقوات سوريا الديمقراطية كانت قد اخترقت مجمع السجن قبل عدة أيام .
كان باور مشدوها، حاول المتشددون إضرام النار في غرفته وإجباره على الخروج. وبالتالي فإن العلم الذي كان يأمل في رفعه عند الاستسلام قد تحول إلى نفس اللون الأسود مثل علم تنظيم الدولة الإسلامية. كان يعتقد أنه لفت انتباه بعض جنود قوات سوريا الديمقراطية الذين كانوا يمرون من أمامهم، لكن مركبتهم استمرت في التقدم. وقال باور : « لم أستطع معرفة ما إذا كانوا يعلمون أنني منهم» .
ظل مستيقظا طوال الليل، متسائلاً عما إذا كانوا قد رأوه. عادوا في صباح اليوم التالي. وأخيراً، تم إنقاذه. قال باور: « لم أفقد الأمل» . بيد أنه لم يتعرف على الوجه الملطخ بالسُحام الذي رآه لاحقا في صورة انتشرت عبر الإعلام . وأضاف : « يبدو أن هذا الشخص الذي في الصورة ليس أنا».
حصيلة مرعبة
بعدما انتهت المعركة، لقي نحو 400 سجين ومهاجم مصرعهم . وفقًا للمسؤولين، تم نقل معظم الناجين من السجن المدمر إلى منشأة بريطانية قريبة. كما أودت المعركة بحياة أكثر من 120 من عناصر قوات سوريا الديمقراطية وخمسة من حراس السجن على الأقل. ومازالت قوات سوريا الديمقراطية تدفن مقاتليها.
احتشد آلاف السوريين هذا الأسبوع لتشييع جثمان بارتيزان إلى جانب مقاتلين آخرين في مسقط رأسهم في مدينة ديريك التي تقع في أقصى الشمال. تقع القبور التي تم حفرها حديثًا في أقصى نهاية المقبرة. كانت أمامهم مئات شواهد القبور لمقاتلين فقدوا حياتهم في معارك سابقة ضد تنظيم الدولة الإسلامية أو أعداء آخرين.
وبعد عدة أيام تجمع الآلاف بمدينة القامشلي (قامشلو) التي تبعد نحو ٥٠ ميلا إلى الغرب في مشهد مؤلم وكئيب لتشييع رفات 13 مقاتلاً من المدينة. قالت والدة أحد مقاتلين الذي كان يبلغ من العمر 18 عاماً، وهي تجلس بجوار شاهد قبره: « لقد تفطّرت قلوبنا لما حلّ بشبابنا، عندما فقدت فلذة كبدي لم تعد للحياة طعم».
بالعودة إلى الحسكة، بعد الظهيرة لاتزال دورية لقوات الأمن الكردية مستنفرة. وحذروا من أن الخلايا النائمة لتنظيم لدولة الإسلامية لا تزال تنشط في المنطقة.
فجأة سُمع إطلاق نار دون سابق إنذار. ثم ظهر مسلحان من شارع جانبي، وكانا يرتديان أحزمة ناسفة على ما يبدو. لترديهم قوات الأمن قتلى وسط الشارع. بعد ذلك ساد صمت مشوب بالحذر والترقُّب.
وحسب الجنرال مظلوم، فإن الأمور كانت من الممكن أن تتدهور أكثر من ذلك، حيث قال :« أرادوا الاستيلاء على الحسكة والتوسع». وكانت قوات سوريا الديمقراطية قد عثرت على شاحنة بالقرب من السجن مليئة بأحزمة ناسفة وأسلحة أخرى. وقال إن ذلك دليل على أن تنظيم الدولة الإسلامية كان يهدف إلى تصعيد حملته العسكرية بمجرد تحرير عناصرهم المحتجزين.
وأضاف الجنرال مظلوم: « كان من الممكن أن يحولهم هذا الهجوم إلى جيش. لقد حذرنا العالم من خطورة الوضع مرات عديدة». بعد ذلك تراجع الجنرال مظلوم إلى الوراء نحو أريكة مكتبه، حيث بدا منهكاً.
وأختتم الجنرال مظلوم قوله :« لدينا عبارة بالعربية تقول لا حياة لمن تنادي».
المصدر: واشنطن بوست
ترجمة: المركز الكردي للدراسات