الحرب الروسية سوف تعيد صياغة النظام العالمي

مارتن وولف

عالمٌ جديد على وشك أن يُبصر النور والسلام فيه قد تلاشى واندثر ليسود مكانه العنف والحرب ومثال ذلك ما نشهده اليوم من حرب روسيا ضد أوكرانيا والتهديدات بشن حرب نووية مدمرة، وتبدّل بالموقف الغربي، وإقامة تحالفات بين الأنظمة المستبدة وفرض عقوبات اقتصادية لا مثيل لها، وعلاوة على ذلك الارتفاع الكبير في أسعار الطاقة والمواد الغذائية. إننا في نفق مُظلم لا نعلم ما ستؤول اليه الأمور، ولكن المؤكد أننا على حافة الهاويّة .

من الطبيعي رؤية أشخاص لهم موقف سلبي مما يحدث، فبالنسبة لكثيرين فإن من أدى لغزو روسيا لأوكرانيا هو توسع حلف شمال الأطلسي ( الناتو) في وسط وشرق أوروبا، وفي مقدمة هؤلاء الباحث الواقعي والبارز جون ميرشايمر الذي عارض قرار الولايات المتحدة بإمكانيّة ضمّ أوكرانيا لحلف شمال الأطلسي عام 2008. أما بالنسبة لموقفي من ذلك فهو يتأرجح قليلاً عن هذا الرأي .

الغموض الذي اكتنف القضية الأوكرانية هو سبب ما يحصل اليوم. كان يتوجب كشف القرار للعلن بعد أن تصبح أوكرانيا عضو في حلف شمال الأطلسي بشكل كامل. ولكن في الوقت ذاته كنت من المؤيدين لتوسع حلف شمال الأطلسي في أوروبا الشرقية التي كانت سابقا تابعة لروسيا وذلك من أجل إيقاف التمدد الروسي نحوها وتقوية موقف تلك الدول. وروسيا على يقين بأنها في حال أقدمت على غزو إحدى دول حلف شمال الأطلسي فالحرب واقعة لامحالة مع الحلف. لا ينطبق هذا الأمر على أوكرانيا باعتبارها خارج الحلف مما جعلها هدفاً سهلاً ولقمة سائغة للطاغية بوتين.

إحدى الأجوبة عن سبب غزو بوتين لأوكرانيا هو فشل نظامه. وسعيه لإحياء أمجاد الامبراطورية التي تُسوّغ استمرارية سلطته. أما بالنسبة لاقتصاد بلاده الذي يعتمد بشكل خاص على السلع الأساسية فقد تدهور كثيراً مقارنة باقتصاد بولندا. إن هذه الأزمة جاءت على طبق من فضة للأرستقراطيين الذين يعتبرون يد بوتين سيئة الصيت والذين يُطلق عليهم أيضا ” الأوليغارشية” في حقبة أول رئيس للاتحاد السوفييتي بوريس يلتسين. والاقتصاد الأوكراني هو الآخر تراجع وتدهور بشكل كبير، ولكنه يختلف عن روسيا من حيث أنه اقتصاد بلد ديمقراطي وهذا أمر يُثير حفيظة بوتين.

في أعقاب سقوط الإتحاد السوفييتي كان الكثيرون يأملون بعالم مبني على أسس التعاون والمنفعة المتبادلة، بيد أن صراع القوى العظمى بين الفينة والأخرى يُفسد ذلك. فقد كانت الولايات المتحدة مزهوة بـ ” احادية القطب” بينما أصبحت الصين أكثر قوة واستبدادية في ظل حكم شي جين بينغ. أما بالنسبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين فقد حقّق مراده بغزو بلد يعتقد أنه تابع له. وتأخذنا هذه التطورات إلى مسبب الحرب العالمية الأولى والتي كانت دولة النمسا الضعيفة وليست ألمانيا القوية، أما ما يحدث اليوم من صراع فسببه روسيا الضعيفة شريكة وحليفة الصين.

 إن الدعم الصيني لروسيا في حربها ضد أوكرانيا سيكون له تداعيات خطيرة، فهو سيقسّم العالم إلى كتلتين متخاصمتين وما سيرافق ذلك من نتائج اقتصادية وأمنية مكلفة. ورغم ذلك تبقى يد الغرب المتحور هي الطُولى ويظهر ذلك جلياً من خلال العقوبات الغربيّة . إن الدول الغربيّة المتوحدة تتفوق على روسيا في شتى المجالات باستثناء الجيش وما تملكه من أسلحة نووية. ويبقى الغرب أقوى بكثير من تحالف روسيا مع الصين بإستثناء الأرقام. ورغم ذلك، يتوجب منع حدوث صدام يستمر لفترة طويلة بين الغرب والكتلة الاستبدادية لروسيا والصين بكل الوسائل الممكنة. وإن لم يتحقق ذلك ستكون نتائجه خطيرة جداً. واليوم نشهد تحولاً في العالم في ظل التحديات والتهديدات المستقبلية.

يجب وضع حدّ للحرب الروسية ضد أوكرانيا والتي تعتبر الى جانب كونها غزو بلد مسالم وآمن، فإنها أيضاً تستهدف الديمقراطية والنظام العالمي. ينبغي على الصين مساعدة روسيا في إخراجها من المستنقع الأوكراني. ودعم الصين لروسيا ليس بالأمر الغريب ، فإلى جانب قضايا عديدة تختلف فيها مع الغرب والولايات المتحدة لا يُحبّذ قادتها الديمقراطية والتي تعتبر خطأ قاتلاً. وغالباً ما يُظهر التاريخ أن المجتمعات الحرة قوية بمجرد تعبئتها كونها تتمتع بدعم شعبوي.

من الضروري أيضاً إدارة الأزمة الاقتصادية القادمة. إن تراكم عوامل الحرب وأزمات العرض والتضخم المرتفع سيؤدي حتماً إلى نشر الاضطرابات، وهذا ما كان سائداً في سبعينيات القرن الماضي. واليوم يشهد العالم اضطرابات مالية، فلا يمكن للسلطات النقدية تجاهل التضخم المرتفع،  لذلك سيتعين على الحكومات تقديم الدعم المالي لذوي الدخل المحدود.

 والأهم من ذلك كله، يتوجب على الغرب تعزيز دفاعاته على جميع الأصعدة العسكرية والطاقة والهجمات السيبرانية بالإضافة إلى الصعيد الاقتصادي. للأسف ينبغي أن يولي الغرب متطلبات الأمن بالدرجة الأولى في ظل ما يشهده العالم والغرب خاصة من تهديدات حقيقية. إننا لا نتمنى أن يحدث ذلك ولا أي شخص عاقل في هذا العالم يرغب بذلك أيضاً، ولكن الخطر كبير وداهم في عالمنا اليوم. من الضروري أن يصبح الاتحاد الأوروبي قوة أمنية حقيقية، فهو يمتلك بعداً اقتصادياً وديموغرافياً يمكنه من تحقيق توازن مع روسيا، كما يتوجب عليه إقامة شراكة وثيقة مع  بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي قدر الإمكان. كما أن الولايات المتحدة بحاجة إلى الدعم الأوروبي لمواجهة الخطر الصيني بقيادة شي.

على الرغم من أهمية هذه القضايا والاحتياجات، إلا أنه يتوجب علينا ألا نتخلى عما وصلنا إليه على مدى العقود الثلاثة الماضية. نحن لسنا في حالة حرب مع المواطنين الروس والصينيين الذين يتطلعون لمستقبل مشرق. بل على العكس تماماً فقد يصبحوا حلفائنا في المستقبل. لذلك يتوجب خصخصة العقوبات قدر الإمكان. بيد أن مستقبل التجارة وغيرها من التبادلات السلميّة سيعتمد بناء عما ستؤول إليه الأمور في الأزمة الأوكرانية.

 ينبغي علينا تسليط الضوء على القضايا التي تهم البشرية جمعاء بدءا من الحفاظ على البيئة إلى مكافحة الأوبئة والتنمية الإقتصادية والأهم من ذلك كله تحقيق السلام. لا يمكننا العيش في عالم لا يوجد فيه تعاون، وإن كان جنون وعنجهيّة بوتين تثبت شيء فهي تثبت انعزاليته وعالم يتم فيه ” تغليب الإستبدادية على الديمقراطية” يُعرض هذا العالم للخطر والاضطرابات، وهذا باد للعيان عبر تلويح بوتين باستخدام السلاح النووي.

بعد معركة أوسترليتز ( معركة الأباطرة الثلاثة) عام 1805 ، قال رئيس الوزراء البريطاني أنذاك ويليام بيت الأصغر بحكمة: « أطووا هذه الخريطة الأوروبية فلن نحتاج إليها في السنوات العشر القادمة». وعلى غرار ذلك، فحرب روسيا ضد أوكرانيا قد غيّرت خارطة عالمنا اليوم. فنحن مقبلون على فترة ركود اقتصادي وتضخم لفترة طويلة إلى جانب وجود تداعيات محتملة وكبيرة على الأسواق المالية. على المدى الطويل، من المرجح انقسام العالم إلى كتلتين تسود علاقتهما خلافات حادة وعميقة كما يتضح من خلال آثار العولمة المتنامية والتضحية بالمصالح التجارية مقابل الجغرافية السياسية. علاوة على ذلك، حتى الحرب النووية للأسف أمر وارد.

 وسط هذه الظروف، نأمل بأن تحدث معجزة إلهية تثني موسكو عن الحرب، ومن دون ذلك سيكون الطريق طويلاً وشائكاً.

المصدر:  الفاينانشيال تايمز

 ترجمة: المركز الكردي للدراسات

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد