خديعة معاهدة “سيفر” وخيانة “الميثاق الملي”

حسين جمو

قد لا توجد عبارة من البلاغة تصف بدقة الاتجاهات الكردية عشية مؤتمرات الصلح عقب الحرب العالمية الأولى، سوى أنّ كل اجتهاد، وكل مبادرة، وكل موقف، كانت نسبة الخطأ فيه أكثر من الصواب. وعليه، فإن دراسة مواقف أي شخصية كردية في هذه المرحلة تتقاطع مع هذه الأخطاء.

على أنّ هناك تمييز مطلوب بات مفقوداً إلى حد كبير بين ثنائية ملتبسة يجري تسطيحها وخلطها، وبلغت ذروتها في السنوات الأخيرة، هي ثنائية الخائن والمخطئ. حين يتم نعت مخطئ بالخيانة فهذا يوفر جدار حماية للخيانات التي رفدت، وما زالت إلى اليوم في عفرين وسريكانيه، القوى المعادية عن سابق إصرار بناء على مصالح شخصية أو عائلية أو حزبية. ليست فقط شخصية حسن خيري هي الإشكالية، رغم تصدرها قصص “الخيانة”. يمكن القول إن الشخص الوحيد الذي أدرك، أن كل فعل ينطوي على خطأ، وتصرّف بناء على ذلك، هو الشيخ الأستاذ سعيد الكردي (النورسي)، واختار طريقاً منفرداً لوحده، مثيراً للجدل والغرابة، بدأه في الفترة الحالكة بين معاهدتي سيفر (10 آب/ أغسطس 1920) و لوزان (24 تموز/ يوليو 1923).

إن الاجتهادات الخاطئة في قراءة سير الشخصيات الكردية في الحقبة المذكورة، تعود أولاً إلى القراءة الخاطئة والمجتزأة للمحطات الرئيسية في العمل السياسي، ومن هذا المنطلق، تتناول السطور التالية واحدة من هذه المحطات الإشكالية، وهي معاهدة سيفر، حيث من شأن البدء من هذه المعاهدة فتح الباب أمام التعريف بالبيئة السياسية التي عمل فيها حسن خيري بك ورفاقه، وهي مصيدة الإبادة المنصوبة في كل زاوية من زوايا العمل السياسي والكفاح الثوري.

في الجانب التحليلي والفكري، هناك أربع شخصيات كردية قرأت إما بانتقاد أو ارتياب، بنود معاهدة سيفر، أي البنود الثلاثة المتعلقة بالكرد في المعاهدة الضخمة التي تتضمن 433 بنداً. هذه الشخصيات المساهمة في الدراسات التاريخية هي: محمد أمين زكي، كمال مظهر أحمد، عبدالرحمن قاسملو و عبدالله أوجلان (حسب اطّلاع كاتب السطور). وإذْ ليس محور الحديث هنا عرض هذه الآراء التفصيلية، فإن ما يستوجب التوضيح هو طبيعة المعاهدة نفسها، فبناء على فهم أي شخص لهذا المحفل الدولي الذي أقرّ المعاهدة الميّتة سلفاً، تتحدد طبيعة الاتجاه اللاحق، وتتحدد حتى خياراته في الحاضر إلى حدٍ ما.

هل كانت “سيفر” فرصة تم إهدارها؟ ومن أهدرها؟ وهل إذا ما أخذت الأحداث منحىً معيناً لاحقاً وإذا ما اتضح أن من عارض “سيفر” من القادة الكرد في تلك الفترة كان الخيار البديل لديهم أسوأ.. هل هذا يعفي القارئ و الباحث من الكشف عن الثغرات الفادحة في المعاهدة؟

والسؤال الأهم المهمل في هذا السياق، هل القادة الذين لم يتحمّسوا لـ”سيفر” أعلنوا عن موقفهم بدافع حب الخضوع للترك؟ تكشف المواقف الموثقة أن العديد من الكرد لعب فعلاً دور الخونة لكفاح شعبهم، واستمر في الاتحاد والترقي ثم قفز إلى سفينة مصطفى كمال ورفاقه حتى بعد سقوط الأقنعة بعد لوزان. لم يكن من هؤلاء لا حسن خيري ولا رفاقه الذين أرسلوا برقية “دولة واحدة للكرد والترك”.

انشغل الكرد، عموماً، باستعراض المواد الثلاث الخاصة بهم في معاهدة سيفر، وهي مواد تاريخية من حيث أنها تشكل أول تدويل للقضية الكردية، وهذا مكسب مهم إذا كانت المسألة مجرد تسجيل موقف وحضور في أهم مؤتمر دولي بعد الحرب العالمية الأولى. هكذا انشغل الكرد بالنص وأهملوا الصورة: أي خرائط سيفر.

الخريطة الصادمة

إن مراجعة خرائط “سيفر” تفسّر إلى حد كبير سبب وقوف قسم مهم من الكرد ضد هذه المعاهدة، وهو رفضُ له ما يبرره على صعيد القطاعات الكردية المستبعدة من “الدولة الكردية المقترحة”، ومن هذه الخريطة يمكن فهم لماذا عارض هذه المعاهدة غالبية قادة: بدليس، وان، موش، سرحد، ماردين، نصيبين، أورفا، سروج، ملطية، أديامان، مرعش و عينتاب، و لماذا أيدها قسم صغير من الكرد كاد يقتصر على بوطان وآمد وديرسم. خريطة التأييد والتشكيك والرفض، تتلاءم إلى حد كبير مع الحدود الإدارية المقترحة للدولة الكردية في “سيفر”. فقد كانت المناطق الرافضة المذكورة أعلاه خارج حدود مشروع الدولة الكردية. فوق ذلك، خضعت المعاهدة لتعديل في اليوم نفسه من إقرارها، حيث أن المعاهدة لم تحدد وصاية دولة بعينها على مسار الدولة الكردية المقترحة، وإنما تركتها لعصبة الأمم، لكن سرعان ما اجتمع ممثلو بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، وقسموا مناطق النفوذ فيما بينهم، وتشاركت كل من فرنسا وبريطانيا في تقسيم الدولة الكردية المقترحة بينهما إلى منطقتين: منطقة بوطان كدولة كردية مقترحة تحت الإشراف البريطاني، ومنطقة غرب كردستان ومركزها دياربكر كدولة كردية مقترحة تحت الإشراف الفرنسي. اما منطقة جنوب كردستان ومركزها السليمانية فبقيت خارج معاهدة سيفر، عملياً، وتحت الانتداب البريطاني المباشر على العراق، وترك البند رقم 64 الباب أمام انضمام جنوب كردستان إلى دولة “سيفر” بصياغة غامضة وملتبسة صاغتها تقول: “إن الدول الحليفة الرئيسية لن تضع أي عراقيل بوجه الانضمام الاختياري للأكراد القاطنين في ذلك الجزء من كردستان الذي لا يزال حتى الآن ضمن ولاية الموصل، إلى الدولة الكردية المستقلة”. ودخلت مناطق كردية من خط ماردين إلى أورفا وعينتاب وعفرين تحت النفوذ الفرنسي المباشر تمهيداً لإلحاقها بالدولة المستحدثة (سوريا).

المعاهدة مشتتة جغرافياً وهي من جانب آخر تقسيم منظم لكردستان. لقد رُسِمت خريطة لكردستان المقترحة كدولة، تستثني منها مناطق واسعة للغاية، وسادت مخاوف وجودية على الكرد القاطنين خارج خريطة سيفر، فقد كان حتمياً بالنسبة لهم أن لا مكان لهم في الدولة الأرمنية المقترحة، وسيضطرون للهجرة أو التصفية، كذلك ساد إجماع كردي قوي بأن لا يضعوا أنفسهم تحت الحكم العربي سواء في سوريا أو العراق. لقد كانت أجواء المجازر الكبرى تلوح في أفق هؤلاء الناس، وعارضوا هذه المعاهدة بكل قوة.

تطرقت المعاهدة مرة أخرى إلى الكرد في البنود 88 إلى 93، وهي البنود الخاصة بالمسألة الأرمنية. ومنحت المعاهدة الرئيس الأميركي وودرو ويلسن، برسم حدود الدولة الأرمنية المستقلة مع الدولة الكردية المقترحة. وكما صاغ أوجلان المعضلة ببراعة، فإن كلا المشروعين الأرمني والكردي هما مشروعان قوميان على أرض واحدة، لذلك حدث ارتياب كردي كبير تجاه “سيفر” لم تستطع الدعاية الإيجابية التي قادتها عائلتا بدرخان وجميل باشا، من تبديد الهلع الذي ساد في معظم أنحاء كردستان.

الآن، حين نبحث لماذا كان سيد عبدالقادر النهري مشوشاً، ولماذا اعتزل سعيد الكردي السياسة، وكيف انضم القسم الأكبر من الكرد إلى مصطفى كمال في حرب التحرير، ولماذا اقتنع القسم الأكبر من الكرد بالدولة المشتركة ثنائية القومية مع الترك، وكيف شارك كل من يوسف ضياء بك و حسين عوني بك وحسن خيري بك و شاهين وبوزان بك، إلى جانب كافة نواب كردستان في مجلس الأمة الكبير ، في إرسال برقية إلى لوزان وتفضيل الحكم الذاتي القائم على الميثاق الملّي على كامل مساحة كردستان التي رسمها الكرد في ذلك الحين.. كل هذه الأسئلة جوابها في ما سبق، معاهدة سيفر الإشكالية.

 لمعاهدة سيفر حكايتها غير الرسمية أيضاً. فقد جاءت في سياق الصراع بين حكومتي أنقرة واسطنبول. كان العرض الذي قدّمته أنقرة، بزعامة مصطفى كمال، متدرجاً. في البداية تم عقد مؤتمر أرضروم بتاريخ 23 تموز 1919، ومؤتمر سيواس في أيلول 1919. كان الحضور الكردي في أرضروم أقوى، وحسب الباحث روبرت أولسون في كتابه “The Emergence of Kurdish Nationalism ” (ترجمها الدكتور أحمد خليل إلى العربية بعنوان: تاريخ الكفاح القومي الكردي) فإن الغلبة كانت للكرد في مؤتمر أرضروم وضمّت الهيئة التمثيلية تسعة أعضاء، ثلاثة منهم – على الأقل- من الكرد، هم حاجي موسى بك من موتكي، و صلاح أفندي من بدليس، و فوزي أفندي من أرضروم. لا يذكر أولسون إقرار الحكم الذاتي في المؤتمرين، لكن هذا الأمر لا شك فيه وضمن وثائق المؤتمر التي تناقلها المشاركون الكرد في ظل حملة لإقناع أقرانهم بالمساعي المشتركة الكردية التركية. لكن أولسون لا يبالغ في الخلاصة المكثفة لدراسته وهو أنه “لولا الدعم الكردي فإن الحركة القومية التركية ما كانت لتحقق النجاح الذي حققته”. عموماً، تم تتويج مقررات هذين المؤتمرين في “الميثاق الملّي” بتاريخ 28 شباط 1920، أي قبل ستة شهور من معاهدة سيفر الموقّعة في 10 آب 1920.

مضمون الميثاق الملي كان بناء وطن مشترك للكرد والترك، وتعهد الجانبان أن تتمسك الدولة باستعادة كافة المناطق الكردية التي دخلت في عهدة الانتدابين البريطاني والفرنسي في سوريا والعراق، إضافة إلى مدينتي حلب والموصل. إن التحرك المشترك بين الكرد والكماليين لم يكن نابعاً من سذاجة سياسية كما تم الترويج له لاحقاً. لقد انخدع الكرد في النهاية، ليس فقط من جانب الكماليين، بل البريطانيين أيضاً، وبشكل متوازي. على أنه لا يجب إخراج الحدث من سياقه. حين تشتت الكرد بين خيارات عديدة، ينبغي، خلال التقييم اليوم، عدم إغفال أن المستقبل كان مجهولاً للجميع، حتى مصطفى كمال، وكما تتضح في خطاباته في الأيام الأولى لحرب التحرير، لم يكن واثقاً من شيء، لا من النصر ولا من نجاة البلاد من الاحتلال.

الحدود الأرمنية

إذاً، حتى 28 شباط 1920، تاريخ إقرار الميثاق الملّي، كان مصطفى كمال وشركاءه الكرد في موقع الأفضلية من حيث بناء تحالف قائم على مصالح مشتركة ومصير مشترك. إن هذه الجهود كانت تهدف، من وجهة نظر كردية، إلى توحيد كردستان كاملة، وربطها مع الأناضول في دولة مشتركة. بالطبع يجب عدم إغفال عامل ديني واقتصادي مهم للغاية، وهو أن حلفاء مصطفى كمال، بدون استثناء، كانوا يشكلون جبهة حادة ضد أي مشروع يتضمن كياناً سياسياً للأرمن في أي من الولايات الشرقية. بهذا المعنى، كان القسم الأكبر من الكرد يرى في مقترح الرئيس الأميركي وودرو ويلسون، برسم حدود الدولة الأرمنية، عدواناً أميركياً، وهو ما عبّر عنه الشيخ سعيد النورسي في لقاء له بمسؤوين أوروبيين، حين تحدى القوات الغربية بأن تطأ جبال كردستان.

لا بد من التنويه إلى أن المناقشات الموازية في برلمان أنقرة كانت أكثر وضوحاً من البنود الستة للميثاق، ولعل هذا من جوانب القصور المهمة التي ربما أقنعت مصطفى كمال ورفاقه، لاحقاً، بالتلاعب بها دون أن ينحشروا في الزاوية.

كان الميثاق الملي تجسيداً للوحدة الكردية التركية، وتضمنت النقاشات اللاحقة لها بإدارة ذاتية لكردستان. على هذا الأساس خاض الجانبان حرب التحرير ضد الاحتلال الغربي بغرض تحرير الأناضول وإيجة وإعادة توحيد كردستان بعد تحرير أجزائها المحتلة من قبل بريطانيا وفرنسا.

في المقابل، كانت المشاريع التي يعدها الجانب البريطاني، وحلفاءه الكرد، ركيكة للغاية، ومشتتة بين دوائر النفوذ البريطاني في لندن والهند واسطنبول، وأضيف إليها لاحقاً مكتب الشرق الأوسط في القاهرة في آذار 1921. كانت كل دائرة بريطانية تطرح فكرة على البيروقراطية السياسية. وكان الإجماع الوحيد ربما بين هذه الدوائر هو إستثناء كردستان الشرقية (إيران) من القضية الكردية وإبقائها تحت السيادة الفارسية. إن مجمل المقترحات البريطانية تكاد تكون غير قابلة للدراسة لتشتتها الكبير والتناقضات الحادة بين رؤى قيادات الهند ولندن وبغداد والقاهرة واسطنبول. إنّ كتاب العالم الروسي ميخائيل لازاريف “المسألة الكردية 1917 – 1923” يعكس في عدة فصول غياب الإجماع البريطاني على أي سياسة تجاه الكرد، واستمر الأمر إلى مؤتمر لندن في شباط 1921 ثم القاهرة في آذار 1921 حين فتحت لندن الباب أمام اتجاه تصالحي مع الحركة الكمالية، والاكتفاء بجنوب كردستان من دون منحها أي استقلال.

كان هناك توافق بريطاني آخر، غير منح كردستان الشرقية للحكومة الإيرانية، وهو إعادة حكم العائلة البدرخانية إلى جزيرة بوطان، من دون الخوض في توضيح الوسائل، لكنها وردت في مراسلات الرائد ويليام نوئيل و نائب وزير شؤون الهند أرنولد ويلسون في مذكرات عديدة للخارجية البريطانية.

كان الميثاق الملّي قوياً لدرجة لا يترك مجالاً لأي سياسة بريطانية ركيكة تجاه كردستان. وبفضل تقاطع دولي للمصالح، أقنعت بريطانيا وفرنسا حكومة السلطان في اسطنبول، المعادية للعمل الكردي التركي المشترك في الميثاق الملي، بالتوقيع على معاهدة سيفر في 10 أغسطس 1920. كانت المعاهدة بمثابة رد من اسطنبول وبريطانيا على اندفاع مصطفى كمال لكسب القوى الرئيسية في كردستان، ولإفشال الميثاق الملي.

“سيفر” بلا حماية

لكن، هذه المعاهدة “الجوفاء” على حد تعبير العلامة محمد أمين زكي، والتقسيمية بتعبير أوجلان، والمزهرية المحطمة وفق كمال مظهر أحمد، ولدت ميتة أصلاً، وفق تعبير عبدالرحمن قاسملو. وتوضح موتها سريعاً بعد إقرارها بشهور فقط. كما أن الأخطر من كل ذلك، هو ما حدث في ربيع 1920، أي قبل المعاهدة بشهور، حين غيّرت بريطانيا استراتيجيتها في ميزوبوتاميا وكردستان، وذلك بإلغاء قوات المشاة تقريباً والاعتماد على القوة الجوية. إن هذا التحول أفرغ معاهدة سيفر من مضمونها حيث أن بريطانيا بعد هذا التاريخ لم تكن مستعدة لإرسال أي جنود، وكذلك سرعان ما تراجعت إيطاليا عن التوقيع وأكدت أنها لن ترسل جندياً واحداً لتطبيق معاهدة سيفر.

إلى جانب ذلك، عارض وزير شؤون الهند، أدوين مونتاغو، معاهدة سيفر بشدة, وحين نشر خطاب استقالته من منصبه بتاريخ 10 آذار 1922، فإن من بين الأسباب التي برر بها استقالته هو المصاعب الخطيرة التي تواجهها وزارة الهند من المسلمين بسبب هذه المعاهدة. (منشور في صحيفة: Leeds Mercury – Friday 10 March 1922).

 لو وضعنا المعطيات أعلاه أمام أي قائد كردي في ذلك الزمن، ستكون من المغامرة الجري وراء البريطانيين الذين لم يكونوا يملكون أي خطة سوى فصل جنوب كردستان وضمه إلى العراق. وهذا لا يعني أن التشارك مع مصطفى كمال كان مريحاً. فقد كانت كل خطوة تنطوي على خطأ والوضع في عمومه مَصْيَدة كلّية.   

الآن، وبينما الأرشيف البريطاني برمّته متاح للباحثين، فإن أكاديمياً رفيعاً مثل روبرت أولسن، يلمح إلى عجزه عن الإحاطة الكاملة بما كانت تريده بريطانيا في سياستها تجاه الكرد. لذلك، في وضع كان الاتصال ونقل المعلومات يعتمد على اللقاءات الشخصية، أو مطالعات بعض الصحف، وجلّها موجّهة، ما الذي كان يعرفه الكرد حينذاك عن النوايا البريطانية؟ إنّ هناك مصدرين فقط كانا يحصلان على معلومات، وغالباً غير دقيقة، بشكل مباشر، الأول هو سيد عبدالقادر النهري في اسطنبول، والثاني العائلة البدرخانية المشتتة بين المنافي في اسطنبول ودمشق والقاهرة وأوروبا. إذا كان هناك شبه عجز حتى اليوم عن الإحاطة بالسياسة البريطانية، رغم توفر أرشيفها الضخم، فما الذي كان لدى الكرد حينها من اطلاع معرفي عن هذه السياسات؟ لا شيء. ولعل ما يؤكد “لا شيء” أن أمين عالي بدرخان وابنه جلادت، وهما من صقور مؤيدي “سيفر”، توجها إلى السفارة البريطانية في اسطنبول، بتاريخ 25 أيار 1921، كما هو موثق في الأرشيف الكولونيالي البريطاني. كان بدرخان قد شرع في فتح قنوات مع اليونانيين الذين كانوا يحتلون منطقة إيجة ويتقدمون نحو عمق الأناضول. ولأن بدرخان لم يكن يعلم هل يرضى البريطانيون بهذه العلاقة أم لا، فإنه ذهب إلى السفارة ليبلغهم بذلك، وأنه سيتراجع في حال كان لبريطانيا رأي سلبي. ولعل هذه الوثيقة تقودنا للحديث لاحقاً عن ثورة لم تنل حظها من الحضور في التاريخ الكردي الحديث، وهي ثورة قوجكري بمنطقة ديرسم بين نهاية 1920 وحتى ربيع 1921.

إلى المعركة الفاصلة!

في 10 آب 1920 جرى الإعلان عن معاهدة سيفر. ينبغي عند قراءة المعاهدة، وبدلاً من الاندهاش للرفض الكردي الواسع لها، النظر إلى الحدث في سياق تتابعي. لقد سبقها “الميثاق الملّي”، وهي نظرياً بالنسبة للقسم الأكبر من الكرد حينها، أفضل بكثير من مقترح غير جاد كلياً (سيفر) لتأسيس دولة كردية لا تشمل سوى 20 في المئة من مساحة الانتشار الكردي المفترض. والحال كذلك، كيف أمكن للمتابعين القوميين الكرد، في الأجيال اللاحقة، الاندهاش من رافضي سيفر؟ كيف أمكنهم تخيل أن على زعماء “وان” و” بدليس” و “ماردين” وسهلها الجنوبي و “نصيبين” و “أورفا” و سهل سروج، الدفاع عن معاهدة تقصيهم وترميهم إلى المجهول؟ هذه المقدمة ضرورية لمعرفة كيف وصل الأمر إلى الانتقال الكردي من “سيفر” إلى “لوزان”، وفي ضوء ذلك يمكن أيضاً فهم دوافع شاهين وبوزان بك وحسين عوني وحسن خيري في تأييد مشروع الحكم الذاتي لكردستان الكاملة في “الوطن المشترك”، قبل أن يتبين للجميع أن ما بني في لوزان لم يكن مجرد نقض لـ”سيفر”.. بل أخطر من ذلك بكثير، كان تحطيماً للكفاح المشترك و”خيانة تاريخية” بتعبير أوجلان، للميثاق الملّي، وتكريساً لتقسيم كردستان بين تركيا والقوى الدولية، وهو ما أدى إلى فرز أخير كردياً. فقد انكشف “الخونة” بعد لوزان، و هم الذين بقوا في صف الجمهورية. في المقابل، احتشد الكرد من أنصار “سيفر” وأنصار “الميثاق الملي”، في جبهة مشتركة، واضعين حداً لانقسامٍ بدأ منذ عام 1918، و حشدوا معاً كل القوة الكردية المتبقية، و كل ذخيرة روح المقاومة منذ الخراب الأخير لكردستان بدءاً من عام 1914، فخاضوا المعركة الأخيرة الفاصلة في 15 شباط 1925 والتي انتهت بهزيمة ساحقة للكرد أسفرت عن فراغ ثوري طويل استمر حتى إعلان الكفاح المسلح عام 1984.

اللافت في المعركة الفاصلة عام 1925 أن أحداً لم يطالب الجمهورية بتطبيق “سيفر” رغم أن الشعار كان استقلال كردستان، لأن “سيفر” كانت ميتة كردياً أيضاً. وهناك مقارنة ممكنة إذا راجعنا الصفوف المتقدمة في الثورة. فرغم أنها كانت تعبر عن اتحاد التيارين الكرديين، الميثاق الملي وسيفر، فقد كان القادة في غالبيتهم من معارضي “سيفر” وأنصار “الميثاق الملي”، على رأسهم الشيخ سعيد بيران و خالد بك جبري و يوسف ضياء باشا و حسن خيري بك و غيرهم. و لسبب ما زال غير قابل للتفسير، و لم يخضع لدراسات جادة، كان أنصار “سيفر” في هذه المعركة الفاصلة إما في الصف الثاني، في أحسن الأحوال، أو على الحياد، من عائلة بدرخان بك إلى عائلة جميل باشا. 

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد