برقية لوزان و”حسن خيري”

حسين جمو

في 24 تموز/ يوليو 1923 تم التوقيع على معاهدة لوزان بين الدول العظمى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى وحكومة الجمعية الوطنية الكبرى لتركيا. تضمنت المعاهدة 143 بنداً، واستغرقت المفاوضات تسعة شهور. قام المركز المصري للدراسات، مؤخراً، بترجمة النص الكامل للمعاهدة، وبلغ 61 صفحة. أما وقائع المفاوضات فهي متناثرة في آلاف الصفحات، بكافة لغات الجهات المشاركة فيها، وعددها ثمانية أطراف دولية، بعضها يمثل عدداً من الشعوب.

لكن هذه المعاهدة لها حكاية مبتذلة لدى الكرد. إنها حكاية شفهية يتم تداولها منذ عشرات السنين، وتكثف توظيفها سياسياً في السنوات الأخيرة، وهي التعبير الأكثر فداحة عن استقالة العقل من التفكير. تقول الحكاية الكردية بتصرّف:

(في عام 1923، أثناء المفاوضات بين تركيا وأوروبا للتوقيع على معاهدة لوزان، واجه مسؤولو الدولة التركية عقبات حقيقية من الدول الأوروبية. ورفض مسؤولون أوروبيون التوقيع على الاتفاق قائلين إن هناك شعب كردي وأراضٍ كردية في شرق تركيا. ماذا سيحدث لهم إذا وقعنا هذه الاتفاقية؟ فأخبر المسؤولون الأتراك الأوروبيين أن تركيا ليست دولة للأتراك، إنما هي دولة للترك والكرد، وكلا الشعبين قررا العيش معاً، لكن المسؤولين الأوروبيين لم يصدقوا ادعاءات المسؤولين الأتراك. رئيس الوفد التركي، عصمت باشا، يستنجد بكمال أتاتورك ويقول إنه إذا استمر هذا الوضع، سيتم إنشاء دولة كردية، فهناك حاجة ملحّة إلى العمل لإقناع الأوروبيين بأن الكرد والأتراك سيعيشون معاً. مصطفى كمال أتاتورك يدعو حسن خيري (نائب كردي يمثل ولاية ديرسم) إلى ارتداء ملابسه الكردية والذهاب إلى البرلمان التركي معاً، حتى يظهروا للصحفيين والوفود الأجنبية بأن الحكومة التركية اعترفت بالقومية الكردية واللغة والثقافة. ثم طلب أتاتورك من حسن خيري إرسال برقية مماثلة إلى لوزان. وقام حسن خيري بإرسال هذه البرقية، وبموجبها وقعت السلطات الأوروبية على اتفاقية لوزان، وبهذا قضي على حلم استقلال كردستان).

لقد تم الترويج لهذه الرواية بشكل كثيف، وموجّه، وباتت أداة تعمية لإيقاف التفكير في ما جرى حقاً خلال المرحلة الأكثر حرجاً واضطراباً في التاريخ الكردي الحديث. هل هناك بؤس معرفي أكثر من إيجاز معاهدة لوزان بشروال حسن خيري ورسالته التلغرافية؟

لا تنتهي الحكاية الكردية هنا، التي يتداولها مثقفون وقراء على اطلاع معقول بوقائع التاريخ الحديث، أو هكذا يُفترض. فبعد أن قضت برقية حسن خيري، وزيه الكردي في البرلمان، على حلم استقلال كردستان، الذي يخيل للمرء أن تحقق هذا الاستقلال كان قاب قوسين لولا شروال حسن خيري في المكان الخطأ، يتم تلفيق مقولة أخرى لهذه الشخصية الكردية وهو على حبل المشنقة. الهدف واضح وهو تسخيف إعدامه من قبل محكمة الاستقلال. تقول هذه الرواية الملفّقة أن حسن خيري نطق بالكلمات التالية على حبل المشنقة: (وصيتي أن يحفر قبري على طريق يمر بها الكرد، حتى يبصق عليّ كل كردي يسير على هذا الطريق). هذه المقولة قديمة وجزء من التراث الشعبي الكردي، ولا تنطبق على شخصية بعينها، وهي المقول نفسها المنسوبة أساساً إلى الآغا الكردي جميل جتّو. ففي واحدة من المرويات الشائعة عن اللحظات الأخيرة من حياة جميل جتو، قبل اعتلائه منصة الإعدام، أنه أوصى بأن يكون قبره عند نقطة التقاء سبعة قرى كردية حتى يبصق الناس الذين يمرون من هناك على قبره ويقولوا: “جميل جتو، أي حمار كنت”. هذه الصيغة وردت في كتاب نذير جبو (صفحة من تاريخ الكرد – ص 149)، نقلاً عن دراسة لمحمود باكسي، كما ذكرها زكي بوز أرسلان أيضاً بصيغة مشابهة في كتابه بالكردية (Nêrînek li Dîroka Kuristanê). وذكرها جكرخوين في مذكراته. عائلة جميل جتّو نفت هذه الرواية، جملة وتفصيلاً، ولهذا النفي ما يدعمه، لكن هذا ليس محور هذه السطور. أما مقولة حسن خيري على منصة الإعدام، فكانت وفق روايات وشهود حضروا المحاكمة: “أيها الشعب الكردي! استخلصوا العبرة منا، واعلموا أن أكثر كلمة عليكم أن لا تنخدعوا بها هي كلمة الشرف التي ينطقها الكماليون”.

أعدمت محكمة الاستقلال حسن خيري بتاريخ 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 1925، ضمن الدفعة الثالثة من حملات الإعدام، وكانت الأولى في 27 أيار وفيها سيد عبدالقادر نهري، والثانية في 29 حزيران، وفيها أعدم الشيخ سعيد بيران.

المعلومات الموثّقة حول حسن خيري نادرة، لكن يرد اسمه بشكل متفرق في عدد من مذكرات السياسيين الكرد المعاصرين له، وهو ما سنتطرق له في أوراق قادمة ضمن أدواره السياسية. بحسب معلومات نشرتها حفيدته، (Serpil Güneş) وأحد أحفاد أقاربه، رئيس بلدية هوزات، جودت كوناك، فضلاً عن وثائق أخرى، أمكن بناء ببلوغرافيا قصيرة عن حياته قبل الدخول في البيئة السياسية التي وجد نفسه فيها.

حسن خيري بيك هو حفيد بير حسين، زعيم عشيرة ملكيشي الكردية التي سكنت منطقة جميشكزك؛ وُلِدَ عام 1881 في قرية آكبنار (النبع الأبيض) التابعة لناحية هوزات في ديرسم، وهو ابن مرتضى آغا كانكوزاده رئيس فرع عشيرة “شيخ حَسَنلي”.

من الوثائق المذكور فيها اسمه سجلات مدرسة العشائر في اسطنبول وتأسست عام 1892، وهي مدرسة داخلية، مدة الدراسة فيها خمس سنوات، وقد التحق بها أبناء شيوخ العشائر الكبرى، العرب والكرد، الذين تراوحت أعمارهم بين 12 – 16 عاماً. ويرد اسم حسن خيري ضمن الدفعة الأولى من الطلاب البالغ عددهم 86 من أبناء زعماء القبائل العثمانية. وهو مقيّد في السجل في خانة طلاب ولاية معمورة العزيز “خاربيت” ويحمل الرقم 52 باسم حسن خيري، اسم الوالد مرتضى آغا، من عشيرة قره بالي (حسب السجلات)، المنطقة ديرسم، قرية أزرونك. (يوجين روغان – مدرسة العشائر في اسطنبول – ترجمة: نهار محمد نوري – دار الورّاق، 2014، ص 36). ولا يظهر اسم حسن خيري ضمن سجلات المتفوقين. وحين التقطت مجلة “ثروة فنون” صورة لأهم ثلاثة طلاب أكراد في المدرسة، بوصفهم “نقباء شباب يشرعون في وظائف واعدة”، لم يكن بينهم حسن خيري، كان من بينهم خالد بك جبران، الزعيم الكردي الميداني الأقوى بين 1921 وحتى إعدامه عام 1925. وكان كل من حسن خيري وخالد بك، في مسار دراسي مشترك، في السنوات نفسها، حيث تم تكليفهما في قسم الحربية من المدرسة في صنف الخيّالة. (ينظر مدرسة العشائر – هامش 1 – ص 59). هناك صورة جماعية للطبة الكرد نشرت في صحيفة “ثروة فنون” – العدد 380 – عام 1898 يظهر فيها معظم الطلاب الكرد في مدرسة العشائر، من بينهم اسم يدعى صبري أفندي، وتبين أنه الاسم الثاني لحسن خيري.

بعد تخرجه من سلاح الفرسان في الكلية الحربية، عُيِنَّ بتاريخ 24 شباط 1898 برتبة ملازم ضمن مرتبات الفيلق الرابع، وأدى خدمات ومهام متفرقة بمستويات متعددة في كل من سويرك و أرزنجان، و انتُخِبَ نائباً عن ديرسم في الدورة الأخيرة من مجلس النواب العثماني، فيما كان رئيساً للشعبة العسكرية في ولاية وان.

كان حسن خيري بيك شخصية مؤثرة في الحياة السياسية الكردية، طيلة فترة نيابته في الدورة الرابعة لمجلس النواب العثماني والدورة الأولى في البرلمان التركي.

في ديار بكر، كان قائد كتيبة الحماية المؤلفة من البيشمركة لمرافقة مصطفى كمال (تعبير البيشمركة استخدمته حفيدة خيري في مقالها وليس ما يدل أن اسم البيشمركة استخدم في ذلك الوقت)، وكان خيري هو النائب الذي يحضر كل جلسات البرلمان التركي بملابسه الكردية، والشخص الذي أرسل برقية مشتركة، مع خالد ضياء بك، إلى مؤتمر لوزان عام 1923، معلناً فيها تمسك الكرد بالبقاء في دولة واحدة مع الأتراك، وهو أيضاً ذات الشخص الذي شهر سلاحه في وجه مصطفى كمال تحت قبة البرلمان عندما أدرك نكثه العهود السابقة بالحكم الذاتي لكردستان أو دولة مشتركة للشعبين الكردي والتركي. كان يتقن اللغات الكردية، التركية، العربية، الفارسية والفرنسية.

إن حسن خيري بك وصديقه غالب بك، شخصيتان لعبتا دوراً بارزاً في القطاع الشمالي الديرسمي في ثورة 1925، رغم أن المنطقة بثقلها الكبير لم تشارك في المقاومة. وكان لخيري بك تنسيق مباشر مع مبعوث الشيخ سعيد إلى منطقة ديرسم، الذي عرف باسم شيخ شريف، وكان مكلفاً بقيادة التحرك الثوري في منطقة الكرد العلويين. (Şeyh said dosyasi –3 nisan 2015 )

إن السطور القادمة عن حسن خيري لن تكون مرافعة دفاع عن هذه الشخصية، فلها أخطاء واجتهادات غير صائبة عديدة، كغيره من معاصريه ورفاقه، لكن الغريب أنّه تم تحميله مسؤولية إخفاق أمة كاملة، وتحويله إلى رمز للخيانة الكبرى. في أي حدث تشوبها الخيانة في أيامنا هذه، يتم تذكير الخائن بأنه امتداد لحسن خيري. ما سنقوله في الأوراق القادمة أنّ مسألة إخفاق الكرد في الحرب العالمية الأولى وما بعدها، كانت أكبر وأعقد بكثير من أن تقود إليها برقية حسن خيري ورسالته إلى لوزان. يمكن لحدث من هذا الوزن أن يؤدي إلى شجار بين عشيرتين أثناء مفاوضات الصلح، لكنها بالتأكيد لن تؤثر على مجرى أكبر مفاوضات دولية شهدها العالم بعد الحرب العالمية الأولى، وربما الأكثر تعقيداً منذ مؤتمر فيينا عام 1815. وكما توضح أوراق ومداولات مؤتمر لوزان، حدثت مناكفة جانبية بين اللورد كرزون، رئيس الوفد البريطاني، وعصمت إينونو رئيس وفد الجمعية الوطنية، وهي مناكفة من النوع الساخر الذي يحدث عادة على طاولة العشاء حول ما إذا كان هناك كرد في تركيا، وبسبب وقاحة وانفعال عصمت إينونو بالغ اللورد كرزون في سخريته وطلب دليلاً على موافقة الكرد على البقاء ضمن دولة واحدة مع تركيا. الحقيقة أن هذه المسألة حسمتها بريطانيا نفسها مسبقاً ولم تكن جزءاً من المفاوضات. المسألة أن إينونو لم يحتمل ثقل دم اللورد كرزون.

هذا هو، باختصار، سياق المفاوضات، وكذلك سياق البرقية المرسلة من أنقرة إلى لوزان.

لكن، لماذا فقط عند حسن خيري يتم التوقف عند تاريخ حدث معين، وهو برقية لوزان، ولا يجري إكمال الحكاية إلى نهايتها؟ ماذا فعل قبل البرقية وبعدها؟ إن إلقاء نظرة فاحصة على “قبل وبعد” توضح لماذا أقدم خيري على هذا الفعل الذي أصبح خطأ لأن الأحداث أخذت منحى معيناً لاحقاً، تبين خلاله أنّ من عوّل على مصطفى كمال، ولو لعام واحد، كحالة حسن خيري، قد سقط رهانه. حسن خيري، مثله مثل العديدين غيره، عمل على تصحيح هذا الخطأ بعد العام 1923، وبقي يكافح لتصحيح هذا الخطأ حتى تاريخ إعدامه شنقاً.

ليس هناك ما يشير إلى مصدر الرواية الأولى عن “خيانة” حسن خيري، لكن المؤكد هنا أن أحداً من معاصريه لم يتهمه بهذه التهم رغم رواج أسلوب التهرب من مسؤولية الإخفاقات لدى الشخصيات الكردية القيادية في تلك المرحلة. أما في السنوات الأخيرة، فإن هذا الاسم يجري توظيفه بشكل محنّك، للتغطية على انحراف مجموعة سياسية هنا وهناك، وذلك عبر ربط مضمون الخيانة المزعومة لحسن خيري بمجموعة أخرى هامشية تصرح بخيانتها ولا دور لها ولا طعم.

حسن خيري ليس وحيداً ممن طالتهم الأحكام العجيبة، فهناك ما تم إلصاقه بالشيخ سعيد الكردي (النورسي)، حول عدم تأييده ثورة 1925، وكذلك الشيخ سعيد بالو (بيران) حين نادى بابن السلطان عبدالحميد الثاني تولي الخلافة على كردستان، فضلاً عن التقديم المضلل لمعاهدة سيفر.

كل هذه الأحداث والقصص هي الظاهر، ولم تُسجّل محاولة بلوغ التحليل التاريخي والسياسي، في عمومه، جوهر هذه الحوادث.

لن يكون حسن خيري بك بريئاً من ارتكاب أخطاء كبيرة، لكن ليس لبرقيته أي دور في خروج الكرد خاسرين من لوزان. فقرار خسارة الكرد قد تم حسمه مسبقاً، منذ مؤتمر القاهرة البريطاني عام 1921. وغاية الكتابة عنه ليس شخصه، إنما محاولة لإزاحة وهم تاريخي يمنعنا من استئناف القراءة والتنقيب في أحداث مهولة جعلت كردستان خارج خرائط “الدولة الأمة”.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد