كوباني أسطورة المقاومة (الجزء الثالث والأخير)

صلاح الدين مسلم

رغم أن شارعك مرقّع وسماؤك مغبرة كلون ذاكرتنا. رغم أن صيفك طفل مشاكس وشتاؤك سكين. رغم أنّكِ صخرية ترابية هادرة كجندب يتأمل الانقضاض. رغم أنّكِ ساذجة وتصطنعين التفلسف. لكنك كالأفيون الذي يدبّ في الدم والقلبِ والذاكرة. فأنتِ التاريخ يا كوباني بين فكّي الموت والخلود.

لقد كان قدر الكردي أبداً أن يرفع راية السلام ضد أعتى الوحوش في التاريخ، ولن يهرب من قدره،فقد كان قدره أن يحمي نفسه من الإبادة والصهر، وباتت كرنفالات الإبادة طقساً من طقوس الكرديّ، وصار المقاتل الجسور يتعايش مع هذه الذهنيّة الدنيئة بالدفاع، ولا سبيل سوى الدفاع، وكان تحاشي تكالب السلطويين على المال والكرسي بعيداً عن أرض المقاتل المدافع عن أرضه، فقد كان الكرديّ أمام خيارَين لا ثالث لهما، كانوا يقولون للكردي أبداً: أمامك خياران لا أكثر؛ فإمّا الكردياتية فالإبادة مصيرك، وإمّا الصهْر والانسلاخ عن جلدك واللجوء إلى ضواحي المدن، فأنت مخيّر بين الصهر أو الإبادة، أعرفتم لماذا يتواجد الكردي في كل بقعة من بقاع العالم؟! إنها فلسفة الإبادة لا أكثر.لقد كان الصراع ما بعد 10-10 -2016 على أشدّه، فالمقاتلون الكرد مخيّرون بين المقاومة والصمود وبين الهروب إلى تركيا، بين نيران الموت وكأنّه الانتحار وبين الهزيمة والارتماء في حضن العدوّ التركي الذي رأوا فيه المسبّب الرئيس لهذه الحرب التي لا ناقة لهذا الداعشيّ فيها ولا جمل، فصار المقاتلون بين خيارين كما خاطب القائد البربريّ طارق بن زياد جيشه عندما هاجم إسبانيا: (البحر من أمامكم والعدوّ من أمامكم فأين المفرّ؟) وهذا ما صوّره الإعلاميّ هيثم مسلم حين قال: (لقد كان أمامنا عدو كبير وخلفنا العدوّ الأكبر، من ورائنا الدولة التركية، وهنا تكرّرت المعادلة الكرديّة؛ الحصار والتصفيّة الجسديّة، فإمّا العودة إلى الحضن التركيّ حيث الدبّابات التركيّة المترصّدة، أو مقارعة داعش حتّى الموت، فالذهنيّة الكرديّة ترفض هذا السلاح التركي العثمانيّ، كان آباؤنا يقولون إذا التقى الجندرما الترك بفتاة حامل كانوا يبقرونها فيشقون بطنها، لكنّ داعش معروف أنّه يقطع الرأس فحسب، فالكرد صاروا محصورين بين فكّي الكمّاشة، هنا فقط الإرادة هي التي لعبت دورها، هي المرة الأولى التي يجب أن يقاوموا فيه الموت، وبموقف واحد أن يحوّلوا جسدهم إلى متراس، الواحد متراس للآخر). وهنا ظهرت المقاومة الكرديّة، وجوهر الحماية الكرديّة، جوهر الصمود الذي لا حلّ سواه، على الرغم من حرب الإبادة المنظّمة على الكرد، لكنّ الكرد لم يروا بديلاً عن المقاومة فصارت المقاومة بديلاً عن حياة الذلّ، لذا صارت المقاومة حياة (berxwedan jiyane) عنوان الحياة الكرديّة الحرّة الكريمة.لقد كانت معركة وجود أو لا وجود، معركة الحياة أو الموت، معركة عدم الرضوخ، واستمرار نهج آرين وإيريش، لقد اتّخذوا قرارهم في الصمود، وعدم النكوص، قرارهم هو التصدّي ثم التصدّي ثمّ التصدّي، كانت الجبال ملجأ الكردي كلّما ألمّت به نائبة، لكنّ الجبال غير موجودة، فأين المفرّ؟ أيلتجؤون إلى حضن العدوّ؟ لم تفعلها نساء ديرسم عندما هاجمها الأتراك قبل حوالي ثمانين عاماً، ولا كرد شنكال، والأخصّ كوباني التي لم تقبل الحزام العربيّ في 1961.بدايات الفشل الداعشيّ:لقد استطاعت أميركا بعد استلام الملفّ السوريّ من روسيا وإيران وتركيا، ودمج الملفّ العراقيّ فيه، وبعد أن استطاعت في مدّة وجيزة من تقوية داعش، وشنّ الحرب عليها، أن تفسح المجال ﻷردوغان أن يمرّق ورقته من خلال الاستيلاء على كوباني في فترة قصيرة جدّاً وهي بداية الشهر العاشر، أي خلال أسبوعَين.لكنّ محاولات تركية وداعش قد باءتا بالفشل أمام صخرة كوباني، وكانت ومازالت السياسة التركيّة فاشلة ومدمّرة لتركيّة عندما يتعلّق الأمر بالكورد، وبأيّة أثنية أو شعب غير الشعب التركيّ، ولمّا يدرك النظام التركي بعْد أنّ الغلاديو والقوّات الخاصّة المدرّبة على محاربة جيش التحرير الكردستانيّة أنّ هاتين المؤسّستين تشكّلان خطراً كبيراً على تركيا نفسها، بل على شعوب منطقة الشرق الأوسط برمّتها، وستنسف مشروع السلام وتطيح به أرضاً.إنّ تركية وداعش لم تحسبا حساب فشل داعش في كوباني، كما فشلت في مساعدة جبهة النصرة في سري كاني، والفصائل المسلحة الأخرى التي كانت تابعة لها في الداخل السوريّ، وهذا الفشل سيكون النجاح النهائيّ للمجتمع الأخلاقي السياسيّ الّذي طالما دعا إليه السيّد عبد اللّه أوجلان في مرافعاته الموجّهة للشعوب المضطهدة في الشرق الأوسط وموزوبوتاميا.البيشمركه:لقد كان وصول البيشمركه بعد ست وأربعين يوماً من النضال طعنة في خاصرة أعداء الكرد، وقد كان تأخيرهم من قبل أردوغان خطّة لإفساح المجال لداعش لتنفيذ أكبر هجوم لها، لكن على الرغم من كلّ محاولات أردوغان إعاقة وصول قوافل البيشمركة التي كانت تمرّ بالمدن الكردستانيّة (سلوبي – جزيرة – ويران شهير…) التي كانت تُبارك من الشعب لأنّها دليل على التآلف الكرديّ الذي لم يشهدها الكرد منذ أمد سحيق.كان البيشمركه الذين كان عددهم مئة وخمسين مقاتلاً قد أتوا والحماسة تملؤهم، لأنّهم يدخلون مدينة التاريخ، لقد كانت مهمتهم تكمن في مساندة وحدات حماية الشعب، وقد رأوا سرّ هذه المقاومة الكوبانيّة، فاستعادوا تاريخ النضال الكرديّ، وأحيا الكثير منهم ذاكرته الأخلاقيّة السياسيّة، فقد كان التنسيق بينهم وبين قوات الاستطلاع والاستخبارات في وحدات الحماية في قمّته، لقد وحدت كوباني أجزاء كردستان الأربعة.لم تقم قوّات البيشمركه بالمواجهة المباشرة بما أنّهم قوّات إسناد، وكانت مهمّتهم تكمن في ضرب داعش في العمق، وكانت فعّاليتهم في ضرب العمق الداعشيّ، وخاصّة في معارك تحرير القرى، وقد أتمّوا مهمّتهم، وخرجوا بعد ثلاثة أشهر عبر ثلاثة تغيرات للجنود والضبّاط، وحملوا معهم معدّاتهم العسكريّة.لقد أفادوا المقاتليين في الصفوف الأماميّة ببعض الذخيرة، وكان هناك احترام ومودّة كبيرتين بين هذه القوّات ووحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة، وبعض جنود الجيش الحرّ، الذي قدّم بعض الشهداء أيضاً.لقد كانت أرض كوباني قبلة المقاتلين الكرد وبعض العرب والغرب والشرق الأقصى، من الصين وكندا وأميركا والدنمارك…. طائرات التحالف:لقد كانت ضربات التحالف فعّالة بعد شهر وستة أيّام، لقد كانت الطائرات تقصف في البداية بخجل، لكنّها شنّت حربها بشكل دقيق ومكثّف منذ بداية الشهر الحادي عشر، لقد كانوا يراقبون سقوطنا منذ البداية، لكن تلك الكاميرات التي أتت لتصوّر السقوط، صارت تراقب الانتصار، لقد تحوّل الإعلام إلى وباء عليهم، لقد كانوا يصوّرون كلّ شيء، كانت الصور تصل في كلّ دقيقة وثانية إلى كلّ مشاهدي العالم، فتعاطف الشعب وليس الدول مع شعوبنا، لذلك اضطر التحالف على حسم المعركة، لقد كانت معركة المصير معركة الوجود أو اللاوجود، وهذا الصورة إن طالت كانت ستؤثر على الدول العالمية، وبات صمودنا يقضّ مضاجع الدولتيين، مضاجع الحداثة الرأسماليّة التي كانت ستتآكل إن لم تتدخّل.ها هو المقاتل في المعركة يتحدّث دون مواربة أو دبلوماسيّة، له من الحياة طريق المقاومة فحسب، طريق الوضوح، يؤمن بنفسه ورفقائه فحسب، يدرك أنّ الرأسماليّ هو الذي دمّره، ولا يستطع من زرع الظلم أن يكون مبشّراً بالخلاص قطّ، يدرك أن الشعوب هي التي تتحرّر، وأن الحرّية لا توهب، وإنّما تؤخذ، وكما قال شوقي: فما نيل المطالب بالتمنّي ولكن تؤخذ الدنيا غلابا، لقد كانت ثقته لا توصف بأولئك الذين ضحّوا وفدوا بدمائهم ذكيّة طاهرة في المعارك، لم يكن يسلم نفسه لتلك الخدع السينمائيّة، لقد كان الشعور الغريب الذي ينتابه في كلّ قصف آت من الطائرات التي اعتاد أن يختبئ منها كلّما سمع دويّها، هو نفس الدوي لكنّه يقتل العدو، هو نفس الألم لكنه ينتاب العدوّ، يدمّر ما بناه لكنّه لا مفرّ من مناداتها كلّما عرف أن سواداً مختبأً في مكان ما، يدرك أن سيعيد تعمير ما سعد بتدميره، إنّه الشعور الذي يضطرّ أن يعيشه مرغماً هرباً من شبح الإبادة، هذا الشبح الذي غيّر مساره بيده، لا بيد أخرى، يدرك تمام الإدراك أنّ العدوّ اللدود لتلك الآلات التدميريّة، لكنّه لا مناص من المقاومة، فالقوّة تفرض أن القوّة، ومن استند إلى حائط القدر ظلّ مرتهناً إليه مرغماً، ينوء ويبكي على الأطلال.كانت تلك الطائرات ذريعة رائعة لأعداء أنفسهم، كي ينسبوا سرّ الانتصار إليها، ليس لشيء وإنّما لأنّهم لم يعتادوا الانتصار، لقد كان الانتصار انتصار المقاومة، لذلك أبت الطائرات أن تنسب الانتصار إليها، فالكاميرات تراقب، والعالم على شاشات التلفاز، ولا مهرب من التدخّل، فبعد كلّ هذا التفوّق المجتمعيّ، سينقلب السحر على الساحر، إذاً انتصرت المقاومة، وهي التيس أجبرت الطائرات على القصف، وأجبرتها على الاقتناع أنّ الأرض هي الأرض، والسماء لا نفع لها دون أرض، فتلك الطائرات قد صنعت على الأرض وتقتات على الأرض، فمعدنها من الأرض، ووقودها كذلك والذي يقودها من الأرض، ولا نفع للطائرة دون أرض. جنود مجهولون:هناك جنود مجهولون صنعوا النصر في كوباني، لم يستطع الإعلام أن يوفي حقّهم، هناك شخصيّات مجهولة في الوسط الإعلاميّ هي التي صنعت النصر، والتاريخ كفيل ليسرد لنا حكاياتهم، وعظمتهم.ففي فترة الاحتلال الداعشي لمعظم أراضي كوباني، أمسى ذاك الشخص الأبكم وأولاده الخمسة وزوجته، يمضون حياة الشقاء على الحدود الغربيّة لكوباني في (تل شعير) في الأرض المحرّمة، وكانوا يعيشون في قاطرة كبيرة ليست لهم بالطبع، إنّما لأشخاص تركوها على الحدود عندما غادروا كوباني، لكنه أبى أن يرحل عن كوباني مع أنّه لم يكن يمتلك شيئاً، وكان قادراً على تخطّي الحدود التي المفتوحة على مصراعيها، كان من قراريشك، من المكون العربيّ وزوجته كرديّة، لم يبرح مكانه إلى بعد فترة طويلة عندما ذهبوا إلى البيوت في غربيّ كوباني، حيث استشهد هو وابنه بقذيفة هاون، لقد كان مثالاً للمتشبّث بأرضه والمحافظ لأولاده، لم يرضَ أن يخرج من كوباني لئلا يقول بعض الخونة: إنّ كوباني غير مأهولة بالمدنيين، لم يكن هناك وقود، فكانوا يحرقون بعض الأخشاب ليتدفّؤوا بها، فكانت الهاونات تنهال على بعض الأشجار، فكانوا يحتطبونها مع أنها كانت طرية لا تحترق بسهولة، وكانوا يبحثون عن الفلّينات التي كانت تأتي من تركيا، وكانوا يحرقونها ويتدفؤون بنيرانها، ويطبخون عليها طعامهم، وكل ذلك ضمن الخوف من الهوانات التي قد تنهال عليهم في أيّة لحظة كانت، ففي كثير من المرات كان بعض مؤسسات المجتمع المدنّي يزورونهم، فكانوا يتحضرون لصنع الشاي، لكنّهم كانوا يرفضون، فإنّ تحضير إبريق من الشاي لمشروع كبير جبّار، رغم كلّ هذا كانوا يحبّون الضيوف، ولا يعرفون كيف يستضيفونهم؟ لقد أيقنت أن شعب كوباني يستطيع أن يدير نفسه بنفسه، دون مساعدة أحد، ورغم أصعب الظروف وأسوئها، سيظلون قدوة لنا أولئك الذين طبخوا وتدفؤوا بالحطب النديّ، فقد كانوا يجمعون الحطب في الليل، كي يهربوا من القناصة، كان الليل حالكاً حتى أنّهم لم يستطيعوا أن يشعلوا ليزراً بسيطاً، فهو الموت دون محالة، لقد حفظوا الطرقات وكأنّهم عميان لا يرون شيئاً.الجميع ينام باللباس الذي هو عليه، وفي كثير من الأوقات كانوا ينامون بأحذيتهم، لقد كان المدنيون يتوقعون أن يأتي العدو في أيّة لحظة كانت، كانوا دائما يفكّرون في السلاح ليس للدفاع عن أنفسهم فحسب، وإنّما للانتحار لئلا يقعوا أحياء في قبضة داعش، لقد كانوا يفضّلون أن يقتلوا على أن يقبض العدو عليهم وهم أحياء.في انفجار مدرسة الوحدة (المعركة الفاصلة) كان مقاتل قد قطعت يده، فقالت سارة خليل له: ألست هركول؟ فقال: بلى، كيف عرفتني؟ ففي ذلك الانفجار رأيت المشهد، فهناك من قطعت يده، وهناك من بترت ساقه، وهناك من فُقئت عيناه، مشهد لن ينسى، فمن قهري قلت: دججوني بالألغام لأفجّر نفسي فيهم.تحدّثنا مع عدّة جنود لم يرضوا أن تذكر أسماؤهم، ذكروا المعادلة، معادلة الصمود في تلك الأيّام، الأيّام التي لم يكونوا يميّزون فيها داعش عن أصدقائهم، فكان الحائط يفصل بينهم، كان أحدهم يتراجع فيقع في أيدي داعش، فكلّهم يهرعون ويفرّون ويهربون من بعضهم البعض، لم يكونوا يميّزون الليل عن الموت، الليل يعني السواد الحالك، لا أحد يعرف الآخر، كلّ مجموعة تقاتل، وكأنّها جيش منفصل عن الآخر، لقد توزّعوا إلى مجموعات لها حرّيّة اتّخاذ القرار، حرّيّة الحركة والمناورة، حرّيّة الكرّ والفرّ، كلّ يوم تتشكّل مجموعة جديدة من المقاتلين، وهذا ما أكّده بكر شيخ عيسى عندما كان يسجّل أسماء الآتين من باكور، ويدرّبهم ليرسلهم إلى الجبهة بعد تدريب بسيط، كان كلّ شخص جديد يأتي لينوب عن الآخر ليذوق طعم النوم الذي نسيه ذاك المقاتل، لقد كان يبكي ذاك المقاتل عندما كان يذكر أنّه انسحب كلّ هذا الانسحاب حتّى وصل كوباني، وهو لا يريد لقاء كوباني وهو يتراجع في الجبهات، يتراجع يتراجع، هيس المرّة الأولى التي لا يرغب أن يلتقي بكوباني، في بداية الهجوم الداعشي، إلى أن هبّت الطائرات تقصف بعد ست وثلاثين يوماً من الاقتحام.إنّه الجندي المجهول الذي لم يظهر على صفحات التواصل الاجتماعيّ، لم يمتلك وقتاً لينشر منشوراً على الفيس بوك، لم يمتلك وقتاً ليتابع أولئك الذين يتابعون الكلّ عدا المقاتلين الحقيقيين مجهولي الإعلام، مجهولي الدعاية والترويج، إنّهم وحدهم الأبطال الحقيقيّون الذين كانوا إذا أصابتهم نكسة ما في معركة أو جرح وذهب واحد منهم إلى المستشفى يسعد لأنّه سينام قليلاً، ويحضّر نفسه يذهب ليتابع المعركة بعيداً عن تحذيرات الطبيب المشرف عليه بعدم مغادرة المشفى لأسبوع أو أسبوعين على سبيل المثال، وهذا ما كان يجعل الأطبّاء الباقين متمسّكين بعدم الخروج، فقد كانوا يرون أنّهم لا يفعلون شيئاً مقابل هذا النضال، لكنّهم أبطال أيضاً أولئك الملائكة الأطبّاء من بقي منهم في كوباني ليقوموا بواجبهم.أكثر المقاتلين فعاليّة في المعركة ه ذاك المقاتل الذي كان اسمه يرعب داعش، وقد كان أعضاء الوحدات تعرف تلك الأسماء، لكن الإعلام وحده لم يكن يذكر تلك الأسماء، وبالمقابل لم يكن يعرفون تلك الأسماء التي كان الإعلام يردّدها، إنّها المعادلة التي تشبه معادلة الطائرات، معادلة الظلم عنوان العصر، عصر الظلم دون منازع، مع ظهور عصر التنوير الأوربيّ جالباً معه تراكم المال والربح الأعظميّ، فلا همّ لأولئك الرأسماليين الحداثويين سوى تكديس المال فحسب، على حساب الشعوب التي أنهكها هذا اللعب بمقدّراتها، حيث انتزعت منها وسائلها الدفاعيّة، وآليات صون نفسها ضد حملات الإبادة والجينوسايد المنظّمة من قبل المنظومة الإباديّة التي تعتمد على الدولة القوميّة والربح الأعظميّ والصناعويّة. لقد تدمّرت سيّارة محمود سارة المدنيّ الذيّ لم يغادر كوباني قط، والذي بات جزءاً من مقاومة كوباني، ودفن معظم الشهداء في كوباني، واستشهد في مجزرة كوباني في ليلة الغدر، قال لزوجته: لقد ذهبت السيارة، لكن الحمد لله لم يحصل شيء لقهوتي! التي كانت في السيارة، لقد أقسم إنّه لم ينزعج من تدمير تلك السيّارات، فقد أخبرها أنّه كان يحمل على هذه السيارة أجزاء الرفاق الذين استشهدوا، قال: لتكن سيارتي وليكن أنا، لا يهمّ  فهناك من فقد يده، وهناك من فقد عينيه، وهناك من فقد قدميه… كان دائماً يوصي زوجته فلان له في ذمتي، وفلان يجب أن تسلميه كذا، كان دائماً يوصي بوصيته، الكلّ كان يوصي الآخر، صحيح أنّه لم يكن في الجبهة الأماميّة، لكن الخطر كان يلاحقه دائماً هو وأمثاله من المدنيين، كانت الهاونات تصبّ جام غضبها على موقع الرفيقة لالشين التي كانت تخيط فيه جثث الشهداء، وقد كان محمود سارة يقطّب معها الشهداء، ومن ضمن تلك الحوادث كان يقطّب لشهيدة، وقد خرجت عيناها من مقلتيهما، وكان وجهها مشوّهاً، لم يتحمّل محمود هذا المشهد، فقال للرفيقة لالشين: أنا سأمسح قدميها، وأنتِ امسحي وجهها، وبعد مدّة وجيزة، نظر فجأة إلى وجهها! فما كانت تلك الفتاة التي فُقئت عيناها، كيف عادت تلك العينين إلى مكانهما؟ امرأة قد فعلت ما لم يستطع أن يفعله الرجال، فقد أعادت الحياة إلى هذه الفتاة، وكانت تستخدم العطر، وتمشّط شعر الشهداء والشهيدات، وتضفّر شعر الفتيات وتكفنها ثمّ تدفنها.كانت تنزعج من كلّ شخص يغلق أنفه لئلا يشمّ رائحة الجثث، فقد كانت مع علاقة روحيّة تآلفيّة مع الشهيد، وكانت تطردهم، وما كانت تضع الكفوف أو أيّ واق للأنف، وكانت تخيّط الجرحى، لم ترضَ بأيّ شهيد مفتوح جرحه أن تضعه في القبر، تمتلك جسارة عظيمة، كانت تبكي على كلّ شهيد، كانت تنظر إلى الشهداء كأنهم أبناء لها، فكان محمود يقول: علينا أن نعبد أولئك الشهداء، كانت روزا وشيلان وديلان وبيمان يحضّرن الطعام من الصباح حتى المساء، روزا كانت تقول: إنّ كليتيها قد شفيتا تماماً، وكان هناك أطفال وكانوا يتحسرون على اللعب خارجاً، لقد كانوا في حصار خوفاً من الهاونات، كانوا يخافون، وقد تفشّت أمراض عدّة، وحَبّ على الجلد، وازداد القمل، لقد فتحوا دكاكين الجملة بعد أن كانوا يتّصلون بأصحاب المحلات، وفُعّل الأساييش، كانوا يمنعون من فتح أيّ محل دون موافقة أصحاب المحلات، فقد كان الأساييش قائماً بعمله دائماً، لم يتوقف عن العمل أبداً منذ بداية الهجوم حتى نهايته، وكانت البلدية على رأس عملها، وكان بعضهم على الجبهات، وقد استشهد عدد منهم وهم على رأس عملهم، وهم يحفرون الخنادق، وعند تبديل الإطارات وصيانة السيارات والمعدّات، فكانوا فدائيين يقومون بواجبهم، وجاء قسم كبير منهم من باكور، وكان الناس المدنيين يساعدون في تحضير الطعام وتوزيعه.

المقاتلون العجّز:أولئك العجّز لم يدركوا سوى لغة الطين، لغة التمسّك بالأرض، إذْ لم يستطع الهَرِم العجوز أن يغادر كوباني، فجذوره قد تأصّلت في كوباني، وقد أمضى عمره بين هذه السهول يتأمل عمره، وتاريخ الظلم الذي لاحق الكرديّ أينما حَلّ، حتّى باتت الأطلال الآن في كوباني جزءاً منه، يعانق الهواء الذي لم يستطع أن يستبدله بهواء آخر، يتأمل الطين الذي عجنت ذكرياته به وذاكرته الأخلاقية السياسية الاجتماعية.لقد أدرك أولئك العُجَّزُ معنى الارتباط بالوطن، ومدى الارتباط بالتاريخ واللغة والطين، فقد كانت هذه الأرض تحتضنه كل هذه السنين، وتمنحه الحبّ والتأمّل، وكانت هذه التراب مجبولةً به في سرائها، فكيف سيتركها في ضرائها.إنّه المتأصّل غربةً، المحاور التاريخ: – متى العودة والاستقرار؟ متى سيشرب الحبّ على سفوح مشتى نور؟!لقد جلسْتُ مع الجدّ رمو ديكا من قرية كوليلك جنوب شرق كوباني حوالي 6كم قبل أن يقتحمها التتار السود بيومين، فقد كان داعش بعيداً عن تلك القرية مسافة خمس كيلومترات، وهو يتقدّم، فقلتُ لذاك الشخص البالغ من العمر مئة عام: لماذا أنتَ وحدك هنا؟ لماذا لم تخرج من كوباني يا عمّاه؟ وصرتُ أكرّر لماذا أنت وحدك هنا؟ قالها بلغة المتحدّي الغاضب: هذا بيتي، وهذه دجاجاتي، ولم يبق لي من العمر شيء، سأبقى هنا، لن أتزحزح، وإن كان قدري أن أموت على يد أولئك الكفرة، فلأمُتْ مادام الله قد قرّر ذلك، لن أتخلّى عن أرضي، عن مكاني… لقد كانت لغة القوّة تنبعث منه، كنت أراقب تلك القرية من على تلة مشتى نور، وأنا أرى قوافل السواد الداعشي تغتال تلك القريّة، كان ذلك بعد عشرة أيام من بدء الهجوم الداعشيّ أو أقلّ، لقد وصل داعش إلى تخوم مشتى نور، وأنا أسأل عن مصير حج رمو، حتى وافته المنيّة قبل تحرير كوباني بيوم أو يومين.وفي سياق تلك المقاومة، قال لنا السيد آمد كوباني وهو أحد الحراس الذين كان يخرج في نوبات الحرس، كان مدنيّاً، ويتجاوز السبعين من عمره، لم يخرج من كوباني أيضاً، فكان يستطيع الحراسة فحسب، فقال: عندما جاء مرتزقة داعش وهجموا على كوباني بسوادهم المدجّج بالأسلحة, قرّرت عدم الخروج من كوباني، وحتّى هذه اللحظة أصبت في هذه الحرب ثلاث مرات، و عندي عائلة مكونة من تسعة عشر فرداً، أنا وزوجتي وسبعة عشر ولداً, لي من العمر حوالي التسعة والسبعين عاماً، وقد قرّرتُ عدم الخروج من كوباني والبقاء فيها، وسأظلّ أدافع عنها حتى الشهادة، ولن أتردّد في الحرب في الخطوط الأماميّة، كان شعورنا في عيد الأضحى شعوراً لا يوصف، لقد جاء فدائيّون من أنحاء كردستان الأربعة، وكانت الأسلحة تأتينا على الرغم من الخناق التركيّ علينا) ظلّ يبكي وهو يتحدّث عن تلك الأشهر الأربعة، ظلّ يذرف الدموع.عندما خرج الجميع من كوباني بقي عجوز من مؤسسة عوائل الشهداء، يريد تحضير الطعام مع النساء للمقاتلين، وقد أرغموه على الخروج من كوباني، كان طاعناً في السنّ وقلبه لا يحتمل، فقد أجريت له عملية قثطرة قلب.أمثلة كثيرة عن أولئك العجّز الطاعنين في السن الذين خبروا ثقافة التمسّك بالأرض وعدم الهجران، امرأة تتجاوز من العمر الثمانين استشهدت بعد شهر إثر هاون انهدّ فوق بيتها، وهي لم تخرج منه، رجال ونساء أصيبوا بجلطات وماتوا على الحدود، أو بعد أن تجاوزوا الحدود.استراحة المقاتل:كان معظم المقاتلين في كثير من الحالات ينام وهو واقف في نوبات الحراسة، لقد استطعْتَ البحث في أغوار حياة هذا المقاتل من خلال مشاهداتي، ومن خلال لقاءات مع بعض المقاتلين، ومن خلال سرديات هيثم مسلم الجميلة، إذْ لم أفهم هذه الطقوس التي تعتري حياة هذا المقاتل، هي فلسفة خاصّة في الحياة، فواحدة تلك الطقوس هي الشاي، إذْ لم أفهم علاقة الشاي وحياة المقاتل الكرديّ، فالعلاقة بين مقاتلي وحدات حماية الشعب والشاي علاقة تآخ وحب بل عشق، فاستراحة المقاتل مرتبطة بالشاي، إنّ لشرب الشاي طقساً روحيّاً يدركه أولئك المقاتلون، فالماء على النار أبداً، والأكواب الكبيرة محضّرة دائماً، والدّملي والنار الساخنة يُجدّدان باستمرار، فرائحة الشاي المعطّرة تملأ زوايا القلوب المنهكة، وتُعيد الأجواء إلى حبّ الجماعة والرجوع إلى حضن الأمّ، وحبّ الطبيعة الأولى، حيث تسود الأحلام المطلية بالتطلع إلى الشمس، شمس الحرية والسموّ، والتخلص من آفة العصر السوداويين الظلاميين، ستجد أنّ للشاي نكهةً أخرى مع استراحة المقاتل التي لا تجاريها استراحةٌ أخرى، فالكون هادئ على عتبات استراحته المطليّة بالشاي، حيث الوطن لون يعتري المكان، والابتسامة أغنية تتجوّل في حنايا المحاورة الهادئة البعيدة عن صخب الحرب، وهي تدور بين الملعقة والكأس المملؤة بالشاي.ما سرّ فرشاة الأسنان التي لا تبرح جيب المقاتل أبداً، فهو يحافظ على نصاعة أسنانه دائماً، مع أنّ الموت يحوم حوله من كلّ الأصقاع، كان الحُبّ يحوم حوله، يملأ الأرجاء، يحتسيه في الصباح والمساء، كانت حلقات الدبكة والأهازيج تُعقد في كلّ انتصار بسيط، كانت المعنويات العالية تحوم حوله في كلّ اجتياز بيت، شارع، ولن يدرك أحد ذاك الانتصار إلّا إذا ذاق نكهة الدنوّ منهم، نكهة احتساء الحُبّ في أحاديثهم، نكهة الأمل ولا شيء سوى الأمل.لا يدري ماذا يصول ويجول على ساحات الفيس بوك والفضائيات، بعيد كلّ البعيد عن الحياة اللاواقعيّة، عن الحياة البعيدة عن الحياة، حياة الاتصالات والسراب والخيال، حياة الدنوّ من عوالم العالم الافتراضيّ، فما يشعر به هو حقيقيّ، ما ينتصر به هو انتصار حقيقيّ، ما يسمعه هو حقيقيّ، لا افتراض في الموضوع، لا أحد يستطيع أن يجرّه إلى هاوية ما، لا يقتنع إلّا بما يراه، إنّه في الحقيقة يعيش دون مواراة أو خداع، تسأله عن رأيه في اليوم العالميّ للتضامن مع كوباني، فيضحك من هذه اليوم، لأنه لا يعرف شيئاً عنه، يرى مدنيّاً، فيرقص فرحاً لأنّ الحياة تعود إلى المدينة، كانت مهمّة المقاتلة (لالشين) تكمن في دفن الشهداء، كانت تخيّط جراحهم، وتقطّب كلّ الأمكنة المهشّمة، وتمشّط شعورهم وتعطّرهم، قبل أن تدفنهم، كان كلّ شهيد بمثابة ولد من أولادها، هي والشهيد (محمود سارة)، كان من الشهداء أفراد لا تعرفهم، ومنهم لم تستطع أن تعرف هويّتهم من خلال التشويه الذي حلّ بهم، إذْ لا يمكن أن تدرك الصورة كاملة حتّى تدرك معنى أن يكون الشهيد بلا اسم، بلا عنوان، لم تكن هناك مراسيم دفن تليق بهم، لقد دفن محمود سارة الكثير منهم، قد تكون هناك أسماء أخرى لم نذكرها، فلم نستطيع أن نوفي حقّ المقاومة الكوبانيّة.لقد بقيت لالشين مع الشهداء ولم تبرح مكانها عندما قالوا لها: اخرجي فقد وصل داعش إلى جامع حج رشاد، لكنّها رفضت الخروج إلّا مع أولادها الشهداء، لم تبرح مكانها، ظلّ العدوّ يحاصرها، حتّى صارت مهمّة إخراجها من قبل أصدقائها أشبه بالانتحار، وفي تلك الليلة الدهماء أتوا بسيارة وأدخلوا كلّ الجثامين فيها، وبعدها غادرت مع تلك الجثامين المعطّرة.تحرير كوباني: كان بيت الشعب أول مؤسسة تم تفعيلها، فعند طريق بيت الشعب كان يتم فتح البيوت لاستقبال اللاجئين العالقين على الحدود أولاً، وأيضاً من خلال إسكان الأشخاص أو أي إشغال للبيوت المغلقة، ليتمّ فتحها من قبل المؤسسة، وتسجيل الموجودات، فكان لبيت الشعب دورٌ كبير في هذه الحرب،  وفي نهاية الشهر الأول تم إعادة تفعيل اتحاد ستار وذلك في مقار نقابة المعلّمين سابقاً، بعد تحرير مشتى نور وقبل تحرير كوباني بقليل، وبعدها جاء PYD، ولم تتوقف الإغاثة عن العمل.كانت الفرحة تنتاب المقاتلين وهم ينظرون إلى أيّ شخص يعود إلى كوباني، فكلما كانوا يشاهدون عجوزاً أو امرأة مسنّة تعود إلى وطنها، كانت الدموع تغرورق في عيونهم، كانوا يقبلّون أيديهم، وكانت المرأة الباقيّة في كوباني تشعر بالانتصار، وهي ترى الاحترام في عيون الآتين، وكأنّهم يقولون لها: لقد انتصرتِ، حقّاً انتصرتِ.أضحت عظمة مقاومة كوباني نجاحاً لمفهومَي الحماية الجوهرية والحماية الذاتية في كوباني خاصّة، وفي روجآفا عامة، وبات امتحان مقاومة كوباني نتيجة الصراع الكرديّ أمام حملات التصفية والإبادة على مرّ مئة عام، وهي محصّلة النضال العظيم لحركة التحرّر الكردستانيّة منذ الربع الأخير من القرن المنصرم حتّى الآن.فالإدارة الذاتية في كوباني لم تواجه تنظيم داعش الوحشي فحسب، وإنما واجهت الإرهاب الوحشيّ العالميّ، بل واجهت العقليّة الفاشستيّة القومويّة العِدائيّة المجسّدة في الفكر العدائيّ الإقصائيّ التركيّ، فقد كانت كوباني السدّ المنيع أمام مفهوم الدولة القومية، وصارت وجهاً لوجه أمام أدواتها الصهريّة والإباديّة بأدوات المجتمع الديمقراطي الأخلاقي السياسي. لقد كان صوت المقاومة الكوبانيّة أعلى من أدوات الكتم الإعلاميّ المرتبطة بالأجهزة الدولتيّة التي أرادت أن تسقط كوباني، وكانت الكاميرات تراقب عن كثب سقوط كوباني لكنّ مراقبة السقوط انقلبت إلى مراقبة المقاومة، فلم تدرك هذه المنظومة الإعلاميّة المرتبطة بالنظام العالميّ الذي غيّرؤ من معادلته، فتحوّل في خلال سبع وثلاثين يوماً من مراقبة السقوط، إلى مراقبة الانتصار، لكنّ الدول انصاعت لهذه الثورة الجماهيريّة العالميّة في معظم دول العالم الأوربيّة والأميركيّة التي وصل دوي المقاومة إلى قصور الملوك الذين باتوا يهلّلون رغماً عنهم لمقاومة كوباني. أمام هذه الحرب الشعواء وإعلان أباطرة العصر الحديث أنهم ضد هذا التنظيم، وأنهم يحاربون هذا الإرهاب من خلال ضرب مواقع بعيدة عن ساحة القتال في كوباني، وتغاضيهم عن الدعم العسكري اللا محدود لداعش عبر الشريط الحدودي، وإغلاق المنافذ على كوباني، وعدم الاعتراف بهذه المقاومة الوحيدة لهذا التنظيم قد عرّى الإسلام السياسي الذي تولّد عنه تلقائيا الإسلام المتطرف، وباتت المقاومة الكوبانيّة وجهاً لوجه أمام الإرهاب، وصارت تحارب الإرهاب عن العالم، وهذا ما اقتنعت به أميركا ولمّا تجدِ البديلَ بعد لهذا المشروع الإسلامي الذي اعتمدته حلّاً بعد فشل الدولة القوميّة من خلال إسقاط صدام، وعدم الوصول إلى مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي يؤجل دائماً دون أن توضيح السبب، بل يؤكّد عجز الاحتكار أمام المجتمع الذي بات يدرك مسؤوليته؟! كلّ ذلك أدّى بهذه الدول الرأسماليّة العالميّة إلى خلق حالة من الفوضى العارمة، وسياسة ضرب المصالح وتنازعها، للوصول إلى حلّ يرضيها، لكنّ هذه السياسة الفاشلة الجديدة التي تظهَرُ طارئاً على سياسات الاحتكار العالمي، والحداثة الرأسمالية المتخبطة الّتي لا تستطيع أن تتواءم مع المجتمع الديمقراطي، ولا تستطيع أن تقنعه، أو من الأحرى تزداد الهوّة بين المجتمعات وبين الأنظمة التي تقف عالة عليها.لقد كانت تجربة كوباني كافية لتعرية فوضى النظام العالميّ الهائلة، فالكلّ يحارب الكلّ، والكلّ متّفق، والكلّ يصطنع الحرب، والمصالح تتضارب، خاصة النظام التركي الذي وقع بين إسفين الكورد الديمقراطيّ، وبين الإسلام المتطرّف الشوفيني اللاأخلاقي، ومن ناحية أخرى النظام الدوليّ الذي يدّعي أنّه يحارب داعش، ويوزّع صكوك الغفران على من يراه إرهابيّا أو ليس إرهابيّاً، ومن ناحية أخرى وهي الأهم؛ ماذا بعد ضرب تنظيم داعش؟كان الانتصار هديّة لزوزان التي لم تتزحزح من مكانها والتي قرّرت عدم الهروب من الدبابة، ولم تنصع للأوامر لتأخير الدبابة وتفجيرها، وقالت: ستمر هذه الدبابة على جسدي، وأصرّ رفاقها على البقاء معها، وأظهروا حقدهم في المشي على جسدها ذهاباً وإيابا.كان الانتصار بفضل زغرودة النساء المقاتلات؛ تلك الزغرودة التي كانت رعباً يدبّ في صدور العدوّ، فقد كانوا يوقفون تكبيراتهم حينها ويبدؤون بسبّ المرأة كلما سمعوا صيحات النساء، وكان الرجال عندما يرون المرأة معهم يستمدون منها الطاقة، فهذا الصبر الذي كانت تمتلكه منذ آلاف السنين هو الذي ألهمها سرّ المقاومة. كان الانتصار هدية للمرأة الماكثة في الخندق الذي يشابه مكوثها مكوث الأمّ مع ابنها عندما يموت زوجها، فالصبر الذي تمتلكه المرأة هو سرّ انتصار كوباني.فصار المناضل المغبرّ في المعارك المصطخبة متعباً منهكاً، وقد أثقل كاهله استشهاد رفقائه العظماء وهو متعهّد عدم التخلّي عنهم، لقد استطاعت المناضلات الجسورات إيصال أصواتهنّ إلى أقاصي العالم، فكان نضالهنّ في كوباني الأنموذجَ المتكامل للوصول إلى التحرّر من الطبقيّة والتفاوتيّة والفوقيّة والانعزاليّة، وبات اسم الكرد يتردّد على كلّ الشفاه، وباتوا يؤسّسون منظومة فكريّة متراصّة مترابطة، تقوى وتنضج يوماً بعد يوم بعد أن تحرّرت من سياسات القيادات العديدة المتشعّبة الّتي عرقلت عمليّة التّاريخ بدلاً من قيادتها ودفعها إلى الأمام، نعم إنّها كوباني التي حرَّرت العقليّة الانعزاليّة الإقصائيّة التي أبعدت الكرد عن ساحات الحياة، لعُقم العقليّة القومويّة الإسلامويّة الراديكاليّة الدوغمائيّة ناهبةَ الحضارات، جنود الحداثة الرأسماليّة العالميّة، تكفينا ملاحمكن كي ننسج من عطر شموخكن آيات الترتيل في المساء، ونروي قصصاً لأحفادنا الذين سيرفعون رأسهم أمام المترامي على أبواب السلاطين، ويبتهلن بصور اللواتي ينسجن من خيوط الشمس وشاحاً يقي خوفنا من زمهرير الغيلان وغِلّ الغربان.إنّ الصراع في كوباني كان بين المجتمع الذي بات يسترجع ذاكرته الأخلاقيّة السياسيّة وبين القوى الظلامية القروسطية الراديكالية المتوحشة، كان صراعاً بين المجتمع والسلطة، بين الذهنية العاطفية الأنثوية وبين الذهنية التحليلية الجافة العمياء الذكورية، بين الدفاع المشروع والتوسع السلطوي، بين الحب والكراهية، بين الإنسانية والتوحش، بين التاريخ الاجتماعي المنفي وتاريخ السلطة الذي دوّنه الذكور السلطويون، وهذا ما أدركه العالم بأسره، بينما لم يدركه بعض العميان أو الذين يصطنعون العمى.لطالما كان الدين الإسلاميّ دين الأخلاق والهداية والتكافل الاجتماعي، لكنّ السلطويّون الوحوش من خلفاء وقادة الجيوش ومعظم مفسّري القرآن إلى دين وحشيّ، فكانت الثورة المضادة بعد وفاة الرسول حتى الآن أقوى من ثورة الرسول الاجتماعية نفسها، وما داعش إلّا نهاية هذه الثورة المضادة على أيدي الكرد الذين توحّدوا في هذه الحرب الضروس على كوباني الأبيّة.لقد انهار أردوغان عندما صعقه خبر تحرير كوباني فانهار في خطاباته لأنّ عرش السلطة بدأ يهتزّ، فالمقاومة أوصلت الشعب إلى هذا التفوّق،  وكأن أصابعه الأربعة الملوّحة التي كانت تلوّح باللاءات، والتي كانت تصوّر للشعب المخدّر أنّ رابعة العدويّة قد تداعت في مصر، وأنّه الصوفيّ المنقذ الذي سيحارب العالم ليخلّص البشريّة من الظلم، لكنّ تلك الأصابع قد بُترت بمغامرته الصبيانيّة الغبيّة في كوباني؛ الأصابع التي تمجّد الهوية الواحدة واللغة الواحدة والشعب الواحد والعلم الواحد.لقد أدرك العالم ماذا يعني انتصار الشعوب الذي اختصر في معركة الحياة في كوباني، وشرفٌ لنا نحن الكرد أن نسطر مقاومتنا عبر العصور ونقول: -هكذا انتصرت كوباني، ودحرت أعتى الجبابرة، وجرّت الوحوش إلى وديان الذل والعار، والهزيمة النكراء التي لا حدود لها على وجه الخليقة.لقد أدرك العالم أنّ كوباني تحارب عن العالم هذا الإرهاب المدمّر وأدرك الجميع لماذا تموِّل الاحتكاراتُ هذا الجيشَ الأسود الملتحي المقنع، فلسوف يأتي يوم تعلم فيه يسطّر فيه التاريخ الجديد للإنسانية والمجتمعات نضال كوباني، وتاريخ الشعوب المغيبة المندثرة تحت طبقات المستغلّين الاحتكاريين المتلوّنين بألف لون ولون.تأمّلات: لقد بتنا نحتار في اختيار صورة أيّة شهيدة أو شهيد نضعها على بروفايلنا! فكلّ شهيد ومناضل في هذه الحرب ملحمة بحدّ ذاتها، وكلّ حارة من حارات كوباني فيها ملحمة بطولة وفداء وتضحية، ففي كلّ يوم من أيّام مقاومة كوباني شهداء جبابرة أشاوس مضاريس تختال كوباني هزِجةً ببهائهم، ومازالت الأسطورة مستمرة، تحبك مستقبلنا، رغم النعيق والبغام والعويل الذي يقضّ مضاجع الوصوليين، ومهما كتبنا الأبحاث وصوّرنا لن نفي حقّ هذه المقاومة، مقاومة العصر، بل مقاومة العصور؛ مقاومة كوباني.لقد كانت تأملات هذا المناضل الجسور في معركة الحياة: (لا داع للموت مادمت تشعر بالحياة ترافقك في كل لحظة.)لقد كان ذاك المقاتل أبداً يقول: من أراد المقاومة فليأت بمعول ويَدُكّ إسفيناً في غبار سكونه المدويّ في كوباني، إنّ الجَسور لا يهاب نعيق الغربان ولا فحيح الأفعى مهما تردّى لبوسه المشقوق بغبار الثبات، إنّ الحياة لها طعم آخر في كوباني المقاومة، فلا تصطلِ ذاتك بالتخفي.كان يحاور العدوّ منذ البداية قائلاً له: ستقتات الندم حيناً من الدهر حتى تُتخم من الهباء المنثور، وتتجرّع علقم المال الذي فرشته على سمّ جشعك المُتخم بتنور غبائك الذي سننفخه بكير المقاومة، أيها المرض العارض.ظلّ يقول: من بين كل نسمات الأمطار، اختارتني نسماتك المعطرة بلون ذاكرتي القدرية التي لم تخني يا أمطار كوباني.نوحي كما تشائين على ذاكرتي الكوبانية، وإن شئت أمطريني عليك، فأرضي لك ومنك عبق الذاكرة، فكيف سأينع بعيداً عنك؟؟؟ وكل جهاتي أنت يا وطني المؤطّر بأحصنة طروادة، وسيركل العشب صخور فراعنتنا، بإزميلنا، إزميل النور.. آه كم مهرك غال أيتها الحرية في بلادي! لم نر هذا المهر الغالي في أي مكان في العالم.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد