مايكل روبين يكتب عن “جيمس جيفري”: حلوله الرهيبة في سوريا ستخلق مزيدا من الفوضى

مايكل روبين | مجلة “ناشيونال إنترست”

أطلق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ولايته في منصبه بوعد بتخفيض أو إنهاء الانخراط العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط، حيث أعلن أن “الدول العظمى لا تخوض حروبًا لا تنتهي”. ويبدو أن “ترامب” مصممًا على الوفاء بوعده، ففي ديسمبر/كانون الأول 2018، فاجأ فريق الأمن القومي التابع له عندما أعلن أنه سيسحب قواته من سوريا. وقال نصا: “لقد هزمنا داعش في سوريا، وهذا هو السبب الوحيد لوجودنا هناك… أولادنا وشاباتنا ورجالنا، جميعهم سيعودون ويعودون الآن. نحن فزنا. هذه هي الطريقة التي نريدها، وهذه هي الطريقة التي يريدونها”. وفي خضم الفوضى السياسية التي تلت ذلك، عزز الرئيس الأمريكي من موقفه، وأوضح أن تركيا “يجب أن تكون قادرة على الاعتناء بكل ما تبقى من داعش بسهولة”. بعد ذلك، تحدث مستشارو “ترامب” معه عن هذه الخطوة المبكرة والسابقة لآوانها، لكن غرائز “ترامب” ترسخ الفكرة الدبلوماسية الحالية لإقامة منطقة عازلة على طول الحدود التركية السورية. باختصار، هذه السياسة مضللة، حتى إذا شاركت فيها القوات الدولية. وقد يبدو الحديث العقيم عن المخيمات والمناطق الآمنة جيدًا في الضباب، لكن سياسات المبعوث الأمريكي إلى سوريا جيم جيفري تشعل كل من لهيب التطرف وتهيئ الأكراد لمذابح تذكرنا بمذبحة الصرب للمسلمين البوسنيين في “سريبرينيتسا” قبل ربع قرن .

لماذا لا يثق الأكراد السوريون بالرئيس السوري بشار الأسد؟

لفهم سبب كون سياسات “جيفري” في سوريا والسياسة المتبعة تجاه الأكراد مدمرة للغاية، من المهم أن نفهم التاريخ السوري والتركي والكردي. أولاً، من المهم أن نفهم لماذا لا يثق أكراد سوريا بـ”الأسد”، ففي عام 1982، قام حافظ الأسد، والد الرئيس السوري الحالي بشار الأسد، بتطويق وسط مدينة حماة، رابع أكبر المدن السورية، ودمرها بعد عملية إلقاء القبض على زعيم سني مسلح. وقد أسفرت المذبحة التي تلت ذلك عن مقتل ما لا يقل عن 10 آلاف شخص، على الرغم من أن “الأسد” أحب أن يتفاخر بأن عدد القتلى كان أعلى بكثير. وفي بيروت إلى القدس، صاغ الكاتب توماس فريدمان مصطلح “مبادئ حماة” لوصف وحشية “الأسد” المطلقة في سحق العدو.

ومع ذلك، فإن هذا نصف القصة فقط. لم يحاول “الأسد” الأب ببساطة سحق الإخوان المسلمين، بل سعى لاستغلالهم وإيجاد تسوية مؤقتة جديدة. أبرم “الأسد” صفقة الشيطان مع الإسلاميين السُنة في سوريا: لقد كانوا أحراراً في إدارة جهادهم، ولكن فقط في خدمته أو خارج سوريا. في مارس/آذار 2004، على سبيل المثال، أطلق “الأسد” العنان للإسلاميين العرب إلى جانب البعثيين، في جهوده لسحق الهوية الكردية في شمال شرق سوريا. في الوقت نفسه، سمح بشار الأسد لسوريا بأن تصبح الطريق السريع الرئيسي للمقاتلين الأجانب الذين يسعون لدخول العراق لممارسة الإرهاب وممارسة التمرد ضد كل من القوات الأمريكية والحكومة العراقية. وفي عام 2009، ألقى رئيس الوزراء العراقي الفاسد والطائفي والمؤيد لإيران نوري المالكي باللائمة على سوريا في تسهيل الإرهاب في العراق. ويوضح هذا التاريخ لماذا لا يثق الأكراد السوريون اليوم بنظام “الأسد” والمعارضة العربية السنية.

لماذا لا يثق الأكراد السوريون بتركيا؟

بعد اندلاع الحرب الأهلية، فرض الأكراد السوريون سيطرتهم على إدارة شمال شرق سوريا. وتمكنت وحدات حماية الشعب الكردية السورية (YPG) المعزولة والمحاصرة ليس فقط من قبل النظام السوري وتركيا، ولكن أيضًا من قِبل حكومة إقليم كردستان في العراق، من هزيمة جبهة النصرة التابعة لتنظيم “القاعدة” بالأسلحة الخفيفة التي تم شراؤها على السوق السوداء المحلية. عندما زرت كردستان السورية لأول مرة -أو روج آفا كما يسميها الأكراد- في يناير/كانون الثاني 2014، كان الموقع الحدودي لا يزال متفحماً من القتال الأخير وكانت الوثائق التي تعود لعهد الإسلاميين وعهد “الأسد” لا تزال منتشرة في الطابق السفلي لذلك الموقع. وعلى الرغم من ذلك، تجمع الأكراد -وكذلك المسيحيون واليزيديون والعرب المحليون- لتشكيل حكومة محلية. ورغم أن هذه الحكومة ربما لم تكن مثالية، إلا أنها كانت متسامحة وآمنة. ذهبت الفتيات إلى المدارس دون خوف من التحرش الجنسي، وكانت الخدمات البلدية تعمل، والأسواق تعج بالزائرين، واستقر النازحون العرب من أماكن أخرى في سوريا في المناطق الخاضعة للإدارة الكردية.

وكانت هذه فقط البداية. خلال الأسبوع الماضي، عدت إلى المنطقة لرؤية القامشلي (التي لا يزال الأسد يسيطر على أجزاء منها)، وعامودا، والرقة عاصمة “داعش” السابقة، وقمت أيضًا بزيارة “كوباني” حيث كسرت القوات الكردية حصارًا فرضه تنظيم “داعش” لمدة ستة أشهر بدأ في 15 سبتمبر/أيلول 2014. مشيت عبر أنقاض كتل الشقق والمحلات التجارية المؤدية إلى الحدود التركية وشاهدت المركبات المحترقة. تحدث عصمت شيخ حسن، القائد الكردي الذي بقي في “كوباني” إلى جانب أبنائه طوال الحصار، عن التضحيات التي قدمها الأكراد المحليون للدفاع عن المدينة ذات الغالبية الكردية، حتى عندما وفرت تركيا المجال ودأبت أحيانًا على دعم تنظيم “داعش” بمرور آمن عبر الحدود. المقبرة القريبة هي شهادة على هذه التضحية، حيث تزين الصور مقبرة أولئك الذين سقطوا في الدفاع عن “كوباني”، حيث العرب والأكراد والمسيحيون يرقدون بجوار بعضهم البعض. إن الحجم الهائل للخسائر الكردية -وشباب المدافعين، الذين تتراوح أعمارهم ما بين ثمانية عشر إلى عشرين عامًا- يسلط الضوء على شعور جيل ضاع بلا داع بسبب تصرفات تركيا وتضاعف إحساس أولئك الذين نجوا من تلك المرحلة بسقوط أحبائهم ضحايا.

لم تكن “كوباني” هي المعركة الوحيدة، لكنها غيرت مجرى الحرب. وفي حين رفض الدبلوماسيون الأمريكيون التحدث إلى الأكراد السوريين أثناء زيارتي الأولى للمنطقة بدافع من الاحترام للشراكة الأمريكية التركية، فإن واقع الدعم السلبي التركي، إن لم يكن النشط، لـ”داعش” والجماعات المتطرفة الأخرى في سوريا، أقنع “واشنطن” بأن النصر التنظيم الإرهابي يحتاج إلى التعاون مع الجماعات الكردية السورية، بغض النظر عن مزاعم تركيا بأن لديهم روابط إرهابية.

قد تكون الاتهامات التركية صاخبة، لكن يجب تجاهلها. صحيح أن هناك روابط بين حزب العمال الكردستاني (PKK) ووحدات حماية الشعب (YPG)، لكن لا يوجد دليل على أن (YPG) إرهابيون. ومن المؤكد أن تركيا تعتبر حزب العمال الكردستاني، الذي شن في السابق تمردًا ضد الجيش التركي، إرهابيا. وهذه هي النقطة التي يجب أن تنتهي عندها الادعاءات التركية، فقد كان تصنيف الولايات المتحدة لحزب العمال الكردستاني تنظيما إرهابيا، على خلفية جهود إدارة “كلينتون” لوضع اللمسات الأخيرة على صفقة بيع الأسلحة إلى تركيا. وبينما تقول الحكومة التركية إن زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون عبدالله أوجلان إرهابي، فإن “أردوغان” منح “أوجلان” الشرعية عندما أجرى في عام 2012 مفاوضات سرية معه وجعله زعيمًا لا غنى عنه للأكراد. واليوم لم يعد “أوجلان” إرهابيًا ماركسيًا ساعيا للحرب، وإنما بات فيلسوفًا سياسيًا ومؤيدًا للمصالحة، وغالبا ما يقارنه الأكراد بالزعيم الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا.

يستخدم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التعاون الأمريكي-الكردي لإذكاء شعلة العداء تجاه أمريكا في تركيا، ويسعى بعض المسؤولين في وزارة الخارجية، خاصة أولئك الذين تشكلت مواقفهم تجاه تركيا من خلال الخدمة المتكررة في البلاد أو في بعض الحالات من خلال الزواج من الأتراك، إلى إرضاء “أردوغان”. يقول البعض إن “أردوغان” يتبنى النهج التفاعلي ويجب لقائه في منتصف الطريق كأمر حكيم لكسب تنازلات أخرى، في حين أن آخرين يدركون أجندته الأيديولوجية لكنهم يشيرون إلى أن تركيا تعد حليفًا مهمًا للغاية يجب تفادي إبعاده عن الولايات المتحدة. سيكون من الغباء افتراض أن الوضع الراهن يرضي “أردوغان”، فهذا يتطلب تجاهل ستة عشر عاماً من “الأردوغانية” على كل مستويات المجتمع، من التعليم إلى البيئة الإعلامية إلى الدعاية العسكرية.

لماذا “عفرين” مهمة؟

ومع ذلك، فإن التحليل الأكثر واقعية يشير إلى خطر سياسة التهدئة. كانت منطقة “عفرين” السورية، لعدة قرون، تضم غالبية الأكراد. بعد هزيمة المتطرفين الإسلاميين، قام الأكراد السوريون بإدارتها بطريقة سلمية، وكان تأمين الحدود التركية مكافأة استراتيجية، لكن تركيا استاءت من السيطرة الكردية على طول حدودها وعبرت عن مزاعم لا تحمل أدلة بأن “عفرين” أصبحت ملاذا آمنا للإرهابيين. وقد أدى التوغل التركي الذي تلا ذلك -والذي حصل على الضوء الأخضر من قبل إدارة “ترامب” الحريصة على إرضاء تركيا وحرمان “أردوغان” من العذر لإحداث القطيعة الدبلوماسية- إلى منح تركيا الضوء الأخضر لمزيد من التوغل. أما الباقي فهو أمر تاريخي، حيث قامت القوات التركية بتطهير المنطقة من كل من الأكراد والتراث الكردي، ودمرت الطائرات الحربية التركية قبر مار مارون وكنيسة جوليانوس التي تعود إلى القرن الرابع، وهي إحدى مواقع التراث التابعة لـ”اليونسكو”، وفقًا لمحمود حمود المدير العام للآثار والمتاحف السورية. وقد انتشرت أقاويل عن أن الأتراك قاموا بهدم المقابر، كما قامت القوات التركية بهدم تمثال كاوا الحداد، وهو بطل كردي أسطوري. ويعد هذا التدمير المتعمد جريمة حرب، لكن ما حدث بعد ذلك، يجعل الأهداف التركية واضحة تمامًا.

قامت القوات التركية بتوطين العرب في منازل الأكراد من أجل تغيير التركيبة الديموغرافية للمنطقة وتغيير الثقافة المحلية: يقال إن القوات التركية وحلفائها يفرضون قانونًا أكثر تحفظًا على الملابس، مما يضطر النساء إلى تغطية رؤوسهن، على سبيل المثال. وقد رحب الأتراك بالجماعات المتطرفة، بما في ذلك جماعات القاعدة التي تجعل “عفرين” مركز الإرهاب ذاته الذي قال الأتراك إنهم يريدون منعه. أصدرت تركيا بطاقات هوية محلية جديدة، ووضعت العلم التركي إلى جانب السوري. وفي حين يستخدم الأكراد الليرة السورية، وجوازات السفر السورية، ويعترفون بالسيادة السورية، فإن تركيا حولت “عفرين” إلى قبرص شمالية جديدة، وتمهد الطريق للاحتلال الإمبراطوري الدائم.

لماذا تهدد المنطقة العازلة الأمن الأمريكي؟

من غير المرجح أن تعمل المنطقة العازلة التي يقترحها المبعوث الأمريكي جيمس جيفري على الجانب السوري من الحدود، وقد رفضت السلطات الكردية المقترحات الأولية لاستخدام القوات التركية. والآن، يقترح “جيفري” ووزارة الخارجية أن تنشئ قوة دولية منطقة عازلة في سوريا. ولن يكون هذا الأمر مجرد مجازفة تهدد السلطة الكردية نظرا لقرب العديد من البلدات والمدن الكردية بما في ذلك الرقة والقامشلي من الحدود، ولكن كما هو الحال في سريبرينيتسا، يمكن أن يقع الأكراد ضحية عمليات قتل، بالنظر إلى احتمالية عدم استعداد قوات حفظ السلام للدفاع عن المدنيين الأكراد من هجوم القوات التركية أو وكلائها المتطرفين.

منذ ما يقرب من عشرين عامًا، زرت كردستان العراق لأول مرة. اليوم، يسافر الآلاف من الأمريكيين والأتراك وغيرهم من الأجانب إلى المطارات في مدينتي “أربيل” و”السليمانية” الرئيسيتين. في ذلك الوقت، فرضت تركيا حصارًا على الحدود ورفضت الاعتراف بحكومة إقليم كردستان العراق، وأصبحت تركيا الآن الشريك التجاري الأكبر لكردستان العراق وبناة مطاراتها، لكن في ذلك الوقت أدارت تركيا ظهرها إلى حد كبير لإمكانيات المنطقة.

ومع ذلك، كانت إدارتا “كلينتون” و”بوش” حكيمتين في مواجهة الغضب التركي (بدلاً من استرضائه)، أما سياسة “جيفري” للتهدئة التركية كانت سيئة بما فيه الكفاية. لكن الأمر أسوأ الآن، بالنظر إلى أن تركيا ما قبل “أردوغان” كانت حليفة لم تدعم التطرف السني، لكن تركيا ما بعد “أردوغان” ليست حليفة وتدعم التطرف السُني.

إذا ما الذي يجب فعله؟ يجب أن يتراجع “جيفري” عن رؤيته للمنطقة العازلة، فهي لن ترضي تركيا، بل تشجع فقط “أردوغان” على المطالبة بالمزيد. وتتمثل السياسة الأكثر حكمة في أن تتبنى “واشنطن” الإدارة الكردية في شمال شرق سوريا وتؤيد الفيدرالية في مستقبل سوريا. ويجب على الولايات المتحدة الاستثمار مباشرة في المنطقة والمساعدة في إعادة بنائها من أجل توفير وظائف لكل من الأمريكيين وتوطيد منطقة من النفوذ والتسامح. وبدلاً من معاملة الأكراد السوريين كعدو في محاولة مضللة لاسترضاء من لا يمكن إرضائه، ينبغي على “واشنطن” أن تشجع “أنقرة” على التعامل معهم كسوق. بات الرئيس الأمريكي “ترامب” أمام منعطف في سوريا.، وهو يدعي أنه هزم “داعش” ولكنه يبدو أنه يتبنى سياسة يمكن أن تمكن من تكرار ظاهرة “داعش” في المستقبل.

—-

مايكل روبين: باحث مقيم في معهد “أمريكان إنتربرايز”.

ترجمة: المركز الكردي للدراسات

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد