“صناعة العراق” وغلبة الأطراف على المركز

حسين جمو 

تهدف هذه الورقة إلى قراءة في المرحلة التي أحاطت باتفاقية سايكس بيكو، وهي الاتفاقية التي لم تجد طريقها إلى التطبيق مطلقاً، غير ان بعض أفكارها ترجمت نفسها على شكل رؤى أخرى متطورة في جانبها الإداري وتمكين عاصمة مركزية من حكم أراضي غير متجانسة قومياً وطائفياً. وتمتد هذه المرحلة من الدخول البريطاني إلى العراق وحتى توقيع اتفاقية الاستقلال عام 1932.

وتتناول الورقة أبرز تحديين واجهتهما الإدارة البريطانية، وهو مشروع إقليم البصرة والامتدادات الشيعية في جنوب العراق، و معضلة الالتفاف البريطاني على وضع كردستان المغاير بشدة لطبيعة المكونات الأخرى للدولة العراقية الحالية، حيث تم التحايل على اكتمال الشروط القومية بـ”قوة القانون” ومنها عصبة الأمم قبل أن تؤول لاحقا إلى الأمم المتحدة. هذه المحافل الدولية وقفت حاجزاً هو الأخطر أمام تطلعات الشعوب المغلوبة سياسياً، كما الكرد في تركيا والعراق وسوريا وإيران، والفلسطينيون الذين يعتبرون الخاسر بلا أمل من جراء مجموع الاتفاقات التي عقدت في تلك الحقبة، والتي تعد اتفاقية سايكس بيكو الأقل شأناً من بينها جميعاً. ليس مبالغاً القول إن مشروع خط سكة حديد برلين – بغداد واحدة من المشاريع التي تحولت إلى كارثة على الدولة العثمانية، ونهاية لمئة عام من النهج البريطاني في عدم العمل على انهيار الدولة العثمانية، بل حمايتها في فترات كانت تحت الخطر الروسي كما في الهزيمة المدوية للعثمانيين في حرب 1877 مع روسيا القيصرية. حينها كان تدخل الملكة فيكتوريا حاسماً لعقد الصلح وإنقاذ السلطان عبدالحميد من الانهيار التام. بعد أسابيع قليلة من دخول الدولة العثمانية الحرب إلى جانب ألمانيا نزلت قوات بريطانية في ميناء الفاو في 5 تشرين الثاني 1914، وتقدمت إلى البصرة بعد معركة صغيرة مع قوات عثمانية وعشائر مساندة لها.

هنا لا بد من التمييز التدخل البريطاني الأول والثاني، فالقوات البريطانية التي استولت على البصرة كانت تحت إدارة الهند البريطانية وليس لندن، بالتالي كان هذا التدخل مشوشاً اقتصر في البداية على منع الألمان من الوصول إلى البصرة عبر مشروع سكة الحديد الألمانية العثمانية. يعد كتاب الباحث في أكسفورد ريد فسر “البصرة .. حلم الجمهورية الخليجية” الأكثر غنىً من بين عدة مؤلفات تناولت العراق من حيث الإضاءة على الإجابات المتعددة على السؤال البريطاني لحظة دخولهم البصرة: ماذا سنفعل؟. في الشهور التي سبقت هذا التحرك البريطاني وبضعة شهور تلتها، لم تشر أي من الوثائق الواردة عن تلك الحرب أن الهند البريطانية كان لديها مشروع بخصوص العراق، بل اقتصرت مساعيها الأولية على تأمين البصرة فقط. ولم يكن هناك تحديد ما إذا كانت ستلحق بإدارة الهند البريطانية أم يتم دمنجها مع بغداد لاحقاً أم تكون ذات حكم ذاتي. لكن بدأت شهية الإدارة الهندية تنفتح نحو بغداد مع الانهيار السريع للجيش العثماني، وعدم وجود مقاومة محلية في البصرة وجوارها إلى أن حدثت تلك المفاجأة التي قلبت الأوضاع رأساً على: معركة الكوت الأولى التي انتهت في 26 نيسان 1916. هنا تعرضت القوة البريطانية إلى إحدى أطول الحصارات في الحرب العالمية، وألحقت بها هزيمة ماحقة أسفر عن عن مقتل 23 ألف جندي على أقل تقدير، وأسر 13 ألفاً. وتحتفل الدولة التركية سنوياً بذكرى هذه المعركة التي تأتي في المرتبة الثانية لديهم بعد معركة جنق قلعة.خروج الهند البريطانيةحين تقهقرت القوات البريطانية من سلمان باك والكوت إلى البصرة في صيف، ازداد ضباط الإدارة الهندية إصراراً على الوصول إلى بغداد رداً على الهزيمة، وهي الفكرة التي كانت تتفاداها وزارة الخارجية البريطانية في لندن، لكن يبدو أن هزيمة الكوت دفعت إلى تغيير أساسي، فقد تم انتزاع ملف البصرة وبغداد من أيدي الإدارة الهندية وباتت تحت الإدارة البريطانية المباشرة من لندن.

إلى هذا الحين لم يكن قد تم التوقيع على معاهد سايكس بيكو في 16 أيار 1916. هذه الاتفاقية لم يطبق أي جزء منها في كامل الشرق الأوسط سوى الضلع الصغير الذي يفصل جنوب فلسطين عن سيناء. علاوة على ذلك، سيتبين لاحقاً أن خط سير الجيوش البريطانية والفرنسية كانت تحطم تلك الخريطة منذ اليوم الأول لتوقيعها بين وزراء خارجية بريطانيا وفرنسا وروسيا. في عام 1921 حين بات معظم العراق الحالي تحت السيطرة البريطانية، تقدم وجهاء وسياسيون من البصرة بعريضة إلى الإدارة البريطانية تطالب بإدارة منفصلة عن بغداد وتحت الحكم البريطاني المباشر. ورد في وقائع مقابلة أوردها ريدر فسر في كتابه المذكوربأن اثنين من وجهاء البصرة قابلا المندوب البريطاني بيرسي كوكس وقد عبرا عن مخاوفهما أن يكون حكم بغداد “بلوى أسوأ من الحكم العثماني”. حين جرى العمل على على مسودة الانتداب البريطاني لـ”بلاد الرافدين” على الأرض، خلال الخريف، لم تُذكر سوى المناطق الكردية بالتحديد كأراضٍ يمكن فيها تنفيذ مخطط الحكم الذاتي. كان هاجس الموظفة البارزة في مكتب الإدارة البريطانية، غيرترود بيل، أمران بحسب خلاصة مذكراتها التي كتبتها خلال فترة وجودها في العراق، الأولى عدم وضع الحكم في أيدي شيعة العراق، والثانية عدم ترك ولاية الموصل (ذات الغالبية الكردية) للحكم الذاتي أو أي نوع إداري قد يسمح لها بأن تكون “دولة مسلمة” منحازة للعثمانيين.

فكان السبيل لذلك تدمير مستقبل العراق الممتد حتى اليوم عبر هندسة إدارية بيروقراطية جعلت الحكم يتركز في أيدي نخبة قومية سنية تكون مشغولة طيلة فترة حكمها بإبعاد شبح حكم الشيعة للعراق أو انفصال الكرد عن العراق، فالتوجه الأخير (انفصال الكرد) يترك العرب السنة وسط بحر من الشيعة تصل نسبتهم حينها إلى 80% من مجموع السكان العرب. الليبرالية والامبراطوريةرغم أن البصرة كموقع حيوي للهند البريطانية تفوق في أهميتها أضعاف أهمية كردستان، فإن البريطانيون تبنوا فكرة الدولة المركزية بتعصب شديد. والحال هذه، فلا عجب في أن تكون بريطانيا راعية لكافة التنصلات التي قامت بها بغداد سريعاً حول منح الحكم الذاتي لكردستان. ولتفسير ذلك فإنه لا يمكن العثور على إجابات قاطعة في دوائر القرار العليا في لندن، بل في القناعات الشخصية للموظفين البريطانيين وضباطها الصغار الذي قادوا الحكم البريطاني المباشر القصير في أنحاء العراق، ومنهم كانت تتم صياغة الأفكار النهائية عبر مكتب القاهرة الذي أسسه البريطانيون وكان بمثابة مركز لإدارة المصالح البريطانية في المنطقة. كذلك بقيت فجوة عملاقة تفصل الأفكار الليبرالية التي تعتبر عنها لندن، والتناول الامبراطوري التقليدي للإدارة على الأرض. ويمكن هنا تفادي تكرار الحوادث والوقائع المعروفة الخاصة بمقاومة القيادات الكردية للمشروع البريطاني والتأسيس لهيمنة بغداد، حيث نهتم هنا بمحاولة قراءة التأسيس لتدمير العراق منذ إعلان فيصل بن الحسين ملكاً عام 1921. وهنا تكمن معضلة تاريخية لجأت إليها معظم الدول التوسعية، عبر تغليب “القانون” بالقوة على الإرادات الاجتماعية والقومية للسكان حين يكون هناك تعارض بينهما.

إن التركيز على دور الموظفين المباشرين في الإدارة البريطانية يكشف عن جانب ارتجالي في قرار “صناعة العراق”. كانت شكوك الإدارة البريطانية قوية تجاه أن منح الكرد أي طابع استقلالي سيقودهم في النهاية إلى الالتحاق بالأتراك. ولم تشفع حقائق الدور الكردي الحاسم في ضم الموصل إلى العراق بمنحهم دوراً استقلالياً لاحقاً. لدى مراجعة مذكرات وانطباعات سياسيين غربيين وعراقيين في فترة تشكل العراق، يظهر أن القول الفصل في ضم الولاية (القطاع الأكبر من سكانها كانوا من الكرد) إلى العراق لم يكن لعرب الولاية المتركزين في مدينة الموصل وجنوبها، بل لمدينة السليمانية الكردية وقصباتها بحسب شهادة عضو اللجنة البريطاني سي جي أدموندز الذي فصّل في هذه المفارقة القومية في كتابه «كرد وترك وعرب».

كان الانقسام حاداً في الموصل بين دعاة الانضمام للعراق والموالين لتركيا، لكن لم تظهر احتجاجات على القرار النهائي بإعلان الولاية جزءاً من العراق وانتهت معه المحاولة التركية الأخيرة بجعل نهر الزاب الصغير حداً بين تركيا والعراق (وعنى ذلك ضم أربيل وزاخو إلى تركيا دون السليمانية).كانت المخاوف البريطانية تكمن في أنه إذا أجري استفتاء شعبي فإن غالبية سكان مدينة الموصل من العرب سيختارون الانضمام إلى تركيا، ولم يكن لدى ممثلي تركيا في اللجنة الكثير من الأوراق لرفض مقترح “الاستفتاء النخبوي”، حيث فضل معظم المستطلعين مصالحهم التجارية التي تميل إلى بغداد وليس الأناضولً.وهم التوازن السكانيكانت غرترود بيل قلقة بشدة من دولة يحكمها الشيعة في العراق. هذه الرؤية التي أيدها موظفون بريطانيون وقدموا توصيات إلى لندن حول ذلك ساهمت في التضحية بالوعود البريطانية مراعاة مصالح الكرد في ولاية الموصل. تقول بيل في مذكراتها إن “مشكلة الشيعة هي على الأرجح أعظم المشكلات في هذا البلد. ولو كنت ماضيا إلى تكوين مؤسسات تمثيلية حقيقية فسوف تنالها أغلبية شيعية…يجب الاحتفاظ بالموصل السنية جزءاً من دولة وادي الرافدين من أجل تعديل كفة الميزان”.

ونتيجة ذلك كانت الموازنة بين السنة والشيعة تقتضي إبقاء الكرد تحت الحكم المباشر لبغداد رغم سطحية هذ الفكرة التي دمرت شعباً وتسببت له بكوارث على مدى قرن، فلم يظهر الكرد منذ تأسيس العراق انحيازاً للعرب السنة في أي نزاع لهم مع الأحزاب والحركات الشيعية (ما عدا السنوات الثلاث الأخيرة)، بل كانوا جزءاً منسقاً مع كافة القوى الثائرة على الحكم المركزي السني، ولولا هذا التنسيق ما كان للنظام العراقي السابق أن يسقط في 2003. حاول البريطانيون نقل تجربة نجحت معهم في بلاد الهند لتطبيقها في العراق، وتمت تجربتها على الكرد وفشلت بشكل ذريع، وهو مشروع “ساندمان – بروس” والتي ظهرت بتأثير نفوذ الهند البريطانية على العراق حتى تاريخ انعقاد مؤتمر القاهرة البريطاني عام 1921. صاغ الموظف الكبير في حكومة الهند البريطانية، روبرت ساندمان، مشروعاً عام 1869 يقضي بضم مناطق قبائل البلوش إلى الإدارة البريطانية من دون الحاجة إلى نقل الجيش البريطاني، وذلك عبر تمويل النظام القبلي في بلوشستان وشراء الحاكم الأكبر ضمن كل قبيلة.

ونجحت الخطة أيّما نجاح، لدرجة أن سلفه المدعو “بروس” أخذته الحماسة لتطويرها ونقلها إلى قبائل البشتون، وفشل فشلاً ذريعاً بسبب اختلاف النظام القبلي البشتوني المعتمد على نوع صارم من القيادة الجماعية (جيركا). كانت السياسة البريطانية في الشرق الأوسط برمّته تعتمد في بادئ الأمر على هذا النظام، وليس فقط في العراق على ما يذهب المؤرخ العراقي جرجيس فتح الله. وأهم الأمثلة الشريف حسين وابناه فيصل وعبدالله اعتماداً على الاحترام الذي كانوا يحظون به دينياً وسياسياً. ما حكم على هذه التجربة (النظام القبلي) بالفشل المبكر عراقياً ثورتان: محمود حفيد في كردستان، وثورة العشرين في الجنوب واستمرار التمردات ذات الطابع القومي العشائري. إضافة إلى توازي قوة أفخاذ العشيرة الواحدة، كما في عشائر فتلة جنوب العراق التي حملت السلاح على بعضها بعضاً بسبب استمالة البريطانيين أحد زعمائها دون الآخرين، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الزيبارية في كردستان. كان الهدف هو تجنيد أبناء العشائر لأغراض حفظ الأمن لتفادي نشر الجنود البريطانيين في كل البقاع. خلال هذه الفترة سيكتشف الملك فيصل أنه لا يوجد «شعب» في العراق. كما أن الشيخ محمود الحفيد فقد ثقته كلياً بالبريطانيين على خلفية انسحابهم المفاجئ وغير المنسّق من كركوك، الأمر الذي مكّن قوات العثمانيين من أسره سنة 1918، وبات كل ما يطرحه الحفيد غير متوافق مع السياسة البريطانية، خصوصاً مسألة إعلان مملكة كردستان وتطلعه لضم كركوك حيث وضع تشرشل عينه على النفط هناك. بعد تبين عدم جدوى مشروع «ساندمان- بروس» بسبب الحمولة القومية والطائفية الحادة في العراق والتعقيد القبلي، تم الانتقال منذ مؤتمر القاهرة سنة 1921 إلى الاعتماد على بناء السلطة في المدن، ومعاقبة من يتمرد عليها في الأرياف.

استدعى ذلك تشكيل جيش مركزي عراقي قادر على العقاب، فيما اعتمد البريطانيون بشكل شبه كلي على القوة الجوية، وبها تمت قصف قوات الشيخ محمود الحفيد ملك كردستان.خلاصةإن تخلخل خريطة العراق حالياً لن يتوقف إلى أن تتم القضاء على آخر حجر بريطاني أسسوا فيه العراق بشكله الحالي وكل الميراث الذي تراكم على هذا التأسيس.

لقد كان الاعتماد على نظام الحكم عبر مدينة واحدة (بغداد) سبباً في تدمير بغداد نفسها. وحالياً بينما يتقدم إقليم كردستان باتجاه الاستقلال في العراق الفيدرالي، تتصاعد مطالب الطبقة السياسية في البصرة بتأسيس إقليم على الرغم من التعتيم الإعلامي الشديد على المشروع من قبل شيعة بغداد أنفسهم، فيما تتعرض المدن السنية للتدمير واحدة تلو الأخرى حيث يفضل القطاع الأكبر من الطبقة السياسية السنية هذا الوضع على أن يكونوا تحت حكم بغداد. فالعلّة إذاً ليست طائفية محضة، فالشيعة أخذوا دور السنة، وانتقل السنة إلى تبني الدور الشيعي السابق في مقاومة المركز، وهذه المركزية – ليس فقط في العراق- تتجه إلى نهايتها مع تسلم كل من الولايات المتحدة وروسيا أخيراً إلى تصفية الميراث الانتدابي البريطاني الفرنسي الذي بدأ بـ”سايكس بيكو” واستمر بما هو أسوأ بمراحل: هندسة إدارية للدول تناسب نمو أكثر الطغاة وحشية.

لكن، لا يمكن التسليم بأن واشنطن وموسكو حسمتا الأمر في هذا الاتجاه، فالخطط البريطانية الفرنسية تغيرات عشرات المرات، بل كان من بين ما فكرت به لندن يوماً أن تقوم بـ”استئجار البصرة”، فتصحيح الخرائط القديمة لن يتم بدون مقدار من “احتياطي المقاومة” للتحرك أمام احتمال عودة الروس والأميركيين إلى الميراث القديم. والأهم من ذلك، ان صياغة الخرائط الجديدة ستنطوي هي الأخرى على أخطاء مدمرة إذا لم يتم تفادي تكرار النماذج البائدة في طرق الحكم وإدارة الثروات والمشاركة في الحكم.

*كاتب وباحث

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد