د. محمد عبدو علي
انتشرت في الآونة الأخيرة العديد من الدراسات والمقالات في الأوساط السورية، عن الوجود الكردي في سوريا. ويحصل كثيراً أن يتطرق أحدهم إلى مسألة وجود الأكراد في سوريا، وفي منطقة عفرين تحديداً، بالقول : إنهم قادمون من خارج المنطقة منذ زمن ليس ببعيد، وحلوا محل العرب السكان الأصليين للمنطقة. في الواقع كثرت دراسات ومقالات في الوسط السوري تردد هذه المقولات، وما إن تطلب الأمر ذكر اسم عربيّ واحد كان يسكن المنطقة قديما، ثم تم تهجيره من قبل الأكراد، حتى احتاروا في الجواب، لأنه في الحقيقة لن يشاهد عربيا تعود أصوله القديمة إلى منطقة جبل الأكراد (عفرين) وهُجِرَ منها، سواء من قبل الأكراد أو من غيرهم، سلماً كان أو بالإكراه، لا قديماً ولا حديثاً. بقى الموضوع عالقا في ذاكرتي، متوثبا في خواطري بهذا السؤال: أيمكن أن تحمل وجهة النظر هذه شيئاً من الحقيقية؟ وإن لم يكن كذلك، أليس من الضروري أن يدرك مَنْ يحمل مثل تلك الأفكار، أن الأكراد هم سكان قدماء في هذه المنطقة، قبل أن تولد دولها وحكوماتها الحالية بقرون عديدة. بالطبع، تثير هذه النظرة استغراباً كبيراً لدى سكان المنطقة؛ لأنه، وعلى سبيل المثال، نحن في عائلتنا نحفظ شجرة عائلتنا في قريتنا في عفرين إلى الجد العاشر، أي إلى فترة لا تقل عن 250 سنة، كما أن هناك أدلة ووثائق تشير إلى وجود كردي في المنطقة لفترة لا تقل عن العهد الأيوبي، أي إلى نحو تسعة قرون خلت.
حينها قررت أن أهتم بالموضوع بنفسي، ووضعت نصب عيني إنجاز بحث حول تاريخ السكن والاستيطان في المنطقة، ومعرفة الشعوب التي استوطنتها والدول التي حكمتها عبر التاريخ، والأحداث التي مرت بها.باشرت العمل بالبحث منذ سنوات، واعتمدت في بحثي هذا مصدرين أساسيين: الأول، في مجال التاريخ: المصادر الكتابية التاريخية القديمة والمعاصرة المتوفرة، وجاهدت أن تكون عربية وسورية بقدر ما كان ممكناً ومتاحاً، متوخيا الدقة في نقل المعلومة التاريخية. الثاني، في مجال الأوضاع العامة الأخرى: استندت فيها إلى الاستطلاع الميداني في القرى والمواقع، ومقابلة المعمرين وأولي المعرفة والاهتمام من أبناء المنطقة. وفي الحقيقة، عانيت كثيراً في السنوات السبعة التي استغرقها إنجاز بحثي هذا.
في هذه الدراسة حاولت ان أضع خلاصة بحثي في موضوع أشغلني للعقود الماضية، وهو ما يخص منطقتي التي انحدر منها ، جبل الكرد- عفرين- شمال حلب، وهي تعد من المناطق ذات الغالبية الكردية في شمال سوريا، محاولاً الابتعاد كلياً عن السجال السياسي الراهن حول الوجود الكردي القومي في سوريا.تفترض هذه الدراسة أن الوجود الكردي في هذه المنطقة قديم جداً ، يبلغ عدة قرون ، وليس وليد هجرات حديثة، قبيل وبعيد تأسيس الدولة السورية، كما يزعم البعض . ولضرورات منهجية، وضعنا المنطقة في إطار جغرافي أوسع، وهو مثلث مدن: حلب – عنتاب- انطاكية، وتقع مدينة سيروس “نبي هوري” في مركزه . وتقوم الدراسة بدراسة هذه المنطقة الجغرافية في الحقب التاريخية المتتالية من الألف الثالثة قبل الميلاد، وتعاقب الشعوب والحضارات المختلفة حتى بدايات الانتداب الفرنسي على سوريا.
ويجدر هنا التمييز بين منطقتين تحملان نفس التسمية في سوريا، الأولى هي المنطقة التي تتركز دراستنا هذه عليها، منطقة عفرين، أما المنطقة الثانية المسماة بـ((جبل الأكراد)) أيضاً، فهي في ريف محافظة اللاذقية الشمالي، وتقع بين طريق حلب-اللاذقية في الشمال، وناحية القساطل من الغرب، ومن الجنوب ناحية صلنفة، ومن الشرق المنحدرات المطلة على سهل الغاب. وتضم المنطقة نحو خمسين قرية، ينتمي سكانها إلى عشائر كردية كبيرة كانت ولاتزال معروفة في القسم الغربي من بلاد الأكراد، ويعود بدايات وجود الكرد في تلك الناحية الى العهد الأيوبي.ولضرورات كتابة الاسم باللغة الكردية إلى جانب العربية، فإن كل ما يرد في الدراسة من تسميات كردية هو بلهجة أهل المنطقة مكتوبة بالأبجدية الكردية اللاتينية .
* د.محمد عبدو علي (روزاد علي – Rozad Elî ) كاتب وباحث سوري كردي ، مهتم بالتاريخ الكردي وتاريخ منطقة عفرين- جبل الأكراد- بشكل خاص. نشر كُتباً مطبوعة والعديد من البحوث والدراسات والمقالات عن الأدب واللغة الكردية وحول منطقة عفرين من النواحي التاريخية والاجتماعية والسياسية، في مجلة “الحوار” باللغة العربية، وفي مجلة Pirs باللغة الكردية، وفي جريدة Newroz الكردية .