النقشبندية الكردية في ظل الجمهورية.. من “كردستان للكرد” إلى “كلنا مسلمون” (3-3)

حسين جمو

يؤدي الخلط بين المسارات المتباينة لتطور النقشبندية الكردية إلى إطلاق حكم موحد، غير دقيق، عليها، استناداً إلى مرحلتها الأخيرة في طاعة الدولة التركية. فهنالك مراحل قطع مع الماضي النقشبندي مرتين على الأقل بالنسبة لشمال كردستان. الأولى في عام 1925 بعد إعدام الشيخ سعيد بيران، والثانية مرحلة الجمهورية الثانية إثر انقلاب 12 أيلول 1980.

إن العديد من المصادر المكتوبة حول الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية وحتى ترسيخ أسس الجمهورية التركية قد اتفقت على تضليل القراء عبر ربط الحركة القومية الكردية، سواء بطابعها الديني أو القومي العلماني، بالسياسات الانكليزية. وهذا لا ينفي عدم وجود مراسلات ومحاولات من شخصيات كردية مع البريطانيين، او وعود غير جادة من بريطانيا للكرد تزامنت مع الجولة الاستطلاعية التي قام بها الميجر نوئيل في كردستان الشمالية عام 1919 برفقة البدرخانيين. الواقع أن الدعاية التركية في ربط الحركات الكردية بمجملها، بما فيها شيوخ النقشبندية الكرد، مستقاة من اتصالات سيد طه مع البريطانيين على الأغلب. ولا يمكن النظر بحسن النية إلى كتابات الباحثين الروس حول القضية الكردية الذين حاولوا شيطنة الساعين للدعم البريطاني، يضاف إليهم الكتاب الكرد الذين تأثروا بالشيوعية ورأوا فيها خلاصاً. فالجهود التي قام بها عبدالرزاق بدرخان (اغتيل عام 1918 على أيدي الأتراك) لاستمالة الروس، وعلاقته الوثيقة بالقنصلية الروسية في تبريز لم يبلغها أي قائد كردي آخر مع بريطانيا بالمستوى نفسه (1). وفي النتيجة استطاع هذا القائد الكردي من تحويل موقف عدد من الشيوخ النقشبنديين لقبول فكرة الدعم الروسي، وتجلى ذلك في ثورة بدليس عام 1914 والتي سبق ذكرها. لكن مع حرب الاستقلال وبروز خطر حزب الطاشناق الأرمني مجدداً فإن العلاقة الكردية التركية، في العموم، دخلت مرحلة الهدنة في مواجهة ما سمي بالخطر المشترك. والشخصية الوحيدة التي بقيت موالية للبريطانيين كان سيد طه عبر “لجنة راوندوز” التي سنأتي على ذكر أوجه من نشاطاتها. في الواقع لم تكن هناك أية قوة دولية تدعم الكرد في هذه المرحلة، ولم تتعدى حالات الانفتاح على الكرد سوى مراحل مؤقتة دون أن تتصدر أولويات الدول الكبرى. لقد تسببت مرحلة “الوجه الإيجابي” لمصطفى كمال بين عامي 1919 – 1923 بتشويش شامل للقطاعات الكردية المؤهلة للقيادة. وشمل هذا الأمر الجناحين الديني والقومي معاً. وتعد انتفاضة كوجكيري عام 1920 نموذجاً لثورة كردية كبيرة تُركت وحيدة لتواجه مصيرها في ربيع 1921. وبما أن نواة الثورة كانت من الكرد العلويين، فإنها لم تلقَ تضامناً من القبائل الكردية السنية ونخبها المدنية والاقطاعية حيث كان مصطفى كمال ما يزال ممثلاً لنوع من “السنية المشتركة بين الكرد والترك”.

مرحلة التصفية

بدأ عهد الاتحاد والترقي منذ عام 1909 بسياسة مزدوجة. فهي استدعت النخب الكردية التي نفاها السلطان المخلوع عبدالحميد الثاني، ومن بينهم عائلة بدرخان وجميل باشا وسيد عبدالقادر النهري.والأخير انتخب رئيساً لمجلس الشيوخ في البرلمان العثماني. من جهة أخرى وضعت الحكومة الأسس القانونية لحل التشكيلات الكردية المسلحة المتمثلة آنذاك بتشكيلات “الفرسان الحميدية”. فبدأت بتغيير الاسم أولاً إلى “التشكيلات الخفيفة لفرسان العشائر الرحّل” ثم شرعت بملاحقة قادتها، وأبرزهم زكي باشا في دياربكر وابراهيم باشا الملي في ويرانشهر. وأدت الإطاحة بالإمارة الملية بشكل رسمي عام 1909 إلى انهيار آخر كونفيدرالية تعددية قومياً ودينياً. وبذلك حرمت سلطة الاتحاديين استناد القادة الكرد العائدين من المنفى بعد الاطاحة بالسلطان إلى القوة العسكرية الكردية المؤهلة للثورة. وباتت أداة التعبئة الميدانية مجدداً في أيدي شيوخ النقشبندية الذين هادنتهم السلطة في الحرب العالمية الأولى من أجل الاستفادة من فتاوى الجهاد وحشد المتطوعين للقتال على الجبهة الشرقية. في بداية تسلم الاتحاديين السلطة اتبعوا سياسة داخلية مضطربة. فتارةً يحاولون إثبات المساواة بين المسلمين والمسيحيين، وتارة أخرى يتدخلون لصالح المسلمين في النزاعات الداخلية. وارتاب منهم الكرد رغم تلقي هذه الحرمة دعماً كبيراً بداية خلع السلطان في 1909. بعد اغتيال الصدر الأعظم محمود شوكت باشا (الشيشاني المنحدر من عائلة مماليك العراق) سنة 1913 خلا الطريق أمام الانكليز لفصل الولايات العربية عن الدولة العثمانية، حيث كان محمود شوكت بمثابة صمّام أمان الوحدة بين العرب والترك. إلا أن التركيبة الاجتماعية الجديدة للسلطة حملت معها قوىً جديدة وأزاحت قوىً قديمة. فإلى جانب الماسونية (ذات الوجود العلني حينها) “استعان الاتحاديون بالجماعات الصوفية.. ولئن كانت أغلب الجماعات الصوفية ميالة لمساندة السلطان عبدالحميد فإن بعضاً منها كانت معارضة له، ولمجمل النظام السياسي في الدولة العثمانية. أقوى جماعة بينها كانت البكتاشية ثم الملامتية والمولوية. وكان عدد كبير من أعضاء الاتحاد والترقي منتسبون لهذه الطرق (2 ). وبينما كانت النقشبندية الكردية على خصومة مع السلطة زمن السلطان عبدالحميد، فقد ازداد النفور في عهد الاتحاديين. كردياً، بات سيد عبدالقادر النهري من أعضاء الاتحاد والترقي، وتمكن من عقد تفاهم بين الأرمن والكرد في “وان” في 1 تشرين الثاني/ نوفمبر 1909. ومن ضمن التفاهم الذي نقلته القنصلية البريطانية في “وان” تعهد الكرد بإعادة الأراضي التي يملك الأرمن وثيقة “طابو” الملكية (3 ).لم تمر فترة الربيع القصير لحكم “تركيا الفتاة” دون توترات مع القادة الكرد رغم التوافق بين الطرفين على العمل معاً من أجل طي صفحة السلطان عبدالحميد. وما كان ذلك ممكناً في كردستان بدون هذا التعاون. وسرعان من ظهرت مشكلات داخلية بين القادة الكرد. واستمر هذا التناقض في المسيرة اللاحقة للقومية الكردية حتى نهاية عام 1925 الذي يمكن، بدون جدال، اعتباره بداية تاريخ انفصال الدين (النقشبندية) عن القومية الكردية. هذا الخطان: “النقشبندي والأميري” عملا سوياً حتى عام 1925، وفي الوقت نفسه تركا ثغرات كبيرة للسلطات التركية أو القوى الأجنبية بإفساد الكثير مما كان يمكن تحقيقه. ووصل الأمر إلى الخلاف على “خرائط كردستان” بحسب ما إذا كانت تشمل مناطق القادة السياسيين أم لا. وهناك عامل آخر قلل من التأثير الفعلي للتيارين الديني (النقشبندي) والأميري (البدرخاني)، وهو عودة زعماء الإقطاع كقوة أكثر ارتباطاً بالمكان مقارنة بالآخرين. أربكت سنوات الحرب العالمية الأولى المراجع النقشبندية في كردستان. فانقسموا على أنفسهم، وتقلصت المساحة الجغرافية لـ”الطاعة” بالنسبة للشيوخ. ولم تتحول إلى مرجعية يمكن الاستفادة من مواقفها في لحظات التوافق مع القومية. فحين بدأ عبدالرزاق بدرخان العمل مع الروس أرسل القوميون وبعض زعماء العشائر الرسل إلى الشيوخ، ومن بينهم الشيخ “محمد زوقيدي” النقشبندي الذي رد على جميل جتّو (وهو آغا من غرزان) بالقول: “والله يا جميل قد بلغتُ الـ70 عاماً، ولم يعد باستطاعتي أن أجلب جيش الروس على شرف المسلمين. لكن لأنكم تريدون تأسيس دولة لكم، فافعلوا. لكنني لن أتدخل بأمركم” (4 ). وموقف الشيخ محمد مثال على أن كتلة من الشيوخ اتخذت طرف الحياد دون أن تقف في وجه الثورات. إلا أن الكلمة العليا لم تكن لهذه الفئات الثلاث في نهاية الأمر (الآغوات والشيوخ والأمراء)، بل للطبقة الدنيا المكونة من الفلاحين والفقراء والمهمشين والمطرودين من حماية أصحاب النفوذ. وثبت خلال النصف الأول من القرن العشرين أن الفئات الثلاث فشلت في حشد ما كانت تتوقعه من الأنصار في كل تحركاتها بسبب عدم وعيها بالتغيرات البنيوية الاجتماعية، باستثناء وحيد تمثل بالشيخ سعيد النورسي (1877-1960) كما سيتضح لاحقاً، ولم يوظف طاقاته مطلقاً لخدمة الشعب الكردي إلا على وجه العموم ضمن إطار “المسلمين”. وتعد حملة التهجير الأولى، في العمق، التي بدأها الاتحاد والترقي ضد الكرد عام 1916 وشملت 700 ألف كردي إلى غرب الأناضول انعكاساً لهذا التحول الاجتماعي، أي ظهور بوادر قوة مستقلة من عوام الكرد.  

في تلك الظروف القلقة، الحافلة بغير المتوقع، بدت حركة الوعي القومي الكردي تستمد قوتها ووحيها من مصدرين متناقضين. أولهما من طرفٍ موالٍ للترك نابع عن مشاعر دينية مدعمة بعناصر تحرص على وحدوية العالم الإسلامي وتعمل بتعاون مع الموظفين والمكلفين بالخدمات العامة في دوائر الدولة ومن ضمنهم ضباط الجيش، وهؤلاء من الفريق المعادي للبريطانيين أصلاً. وثانيهما الفريق الآخر الذي لا يوالي الترك ويضم خليطاً من العلمانيين والمتدينين، ويطمح إلى استقلال كردي أو حكم ذاتي، ويرعاه القوميون الكرد في كل مكان. على مستوى آخر من التصنيف السابق كان الفريق الموالي للترك يرفض إقامة دولة أرمنية وينظر بعداء شديد للروس، ومستعد للتضحية بأي دولة كردية في سبيل منع الأرمن من إعلان دولة بجوارهم. فيما كان الفريق القومي لا يعارض وجود دولة أرمنية جارة، ولو كانت على جزء من الأراضي المفترضة للدولة الكردية. وكانت معاهدة سيفر 1920 نتاجاً لجهود التيار الثاني، فيما لوزان 1923 ترجمة موضوعية لتوجهات التيار الأول.  راهن البريطانيون لفترة مؤقتة على التيار المتحالف مع الأرمن بقيادة عائلة بدرخان، وبناء عليه ظهر مقترح في أواخر كانون الأول/ ديسمبر 1919 بخلق دولتين كرديتين، بناء على توصية الحاكم المدني للعراق آرنولد ولسون ووزير شؤون الهند مستر مونتيكو. واللافت أن دياربكر لم تكن ضمن هذا المشروع الذي وضع تفاصيله عائلة بدرخان ممثلة بأمين عالي وأقاربه الأمراء. مع مطلع حرب الاستقلال بدءاً من عام 1919 يحسم الجنرال الكردي شريف باشا وسيد عبدالقادر وأمين عالي بدرخان مواقفهم لصالح بريطانيا بعد سلسلة من المراوغات التركية. فقد أدى التدخل الروسي في شمال كردستان إلى ربط القضية الكردية ببريطانيا التي بقيت لوحدها في الساحة. إن التدخلات الروسية من جهة، وعدم حسم بريطانيا موقفها من جهة أخرى، دفعا بالنخب الكردية إلى وضع أملهم وراء بريطانيا. ولهذا الغرض عقد شريف باشا عام 1919 ميثاق تعاون وتحالف كردي أرمني مثّله هو عن الطرق الكردي و بوغوص نوبار باشا عن الطرف الأرمني (5 ). والواقع أن برقية بريطانية مؤرخة بتاريخ 8 كانون الثاني/ يناير 1919 نقلت وقائع لقاء حاسم بين سيد عبدالقادر النهري والمسؤول البريطاني للجنة الحلفاء في اسطنبول، وجاء فيها: جاءني عبدالقادر زائراً صباح هذا اليوم. وذكر أن الكرد في الوقت الحاضر يجدون أنفسهم في موقف صعب للغاية.

—-

لتحميل الدراسة كاملة اضغط هنا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد