دلبرين فارس
قبل الدخول في صلب هذا المقال الذي تناولنا فيه عمليات التهجير والتغيير الديمغرافي التي مارستها الأنظمة الشوفينية القوموية المتسلطة على رقاب الشعوب منذ أكثر من قرنٍ من الزمن؛ ومحاولةً صهر وإبادة شعبٍ من أقدم شعوب منطقة ما بين النهرين، يعيش على أرضه التاريخية منذ ألاف السنين، سنحاول تسليط الضوء على جانبٍ من ممارسات الإنكار والتغيب والإفناء خلال فترة تاريخية معاصرة حددناها بـ”مئة عام” تقريباً، أي منذ سقوط السلطنة العثمانية كآخر نظام إقطاعي شمولي حكم المنطقة برمتها طيلة أربعة قرون بالجهل والتخلف ومارس شتى أشكال المخاتلة والقمع في سبيل الحفاظ على سلطتها، وحتى انطلاق ثورات الشعوب وبداية سقوط الديكتاتوريات واندثار الأنظمة القوموية في المنطقة الأوسط، والتي ظهرت بعد اجتياح الموجة الرأسمالية للمنطقة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وذلك عبر اتفاقيات وصفقاتٍ بين الأنظمة القوموية الرأسمالية الأوروبية الشرهة، مستخدمة كل وسائلها وأدواتها للسيطرة على جنوب المتوسط ومنطقة “الهلال الخصيب” خاصة والتي كانت تأمل الخلاص من براثن الجهل والتخلف والحروب التي أثارتها كل من الإمبراطوريتين الفارسية (الصفوية) والعثمانية، لتدخل المنطقة مرحلة جديدة من الصراع بكل حيثياته ودرجاته، خاصة بعد أن نقلت الدول الأوروبية تجاربها الإيديولوجية المتمثلة بقوالب الدولة القومية إلى المنطقة بصيغ سلطات متعدة الأوجه، وبقيت المنطقة وبكل مكوناتها وشعوبها ضحية الشراكة المشروطة بين الأنظمة (الدول) المستحدثة والوصية عليها التي اقتسمت التركة العثمانية – الصفوية فيما بينها (فرنسا – بريطانية – روسيا). ومع بروز الحدود والتقسيمات، قُسمت الشعوب أيضاً بموجب ما رسمته الاتفاقات المشروطة والتي لا يزال بعضها ساريا حتى يومنا هذا.
لذا فقد كان بروز الدول القومية كشكل معاصر لتسميات الدولة ” السلطة” الرهبانية والسلالاتية والدينية المتبقية من العصور الغابرة هي النموذج الجديد الذي بدأت فيه القوى الرأسمالية وقوى الهيمنة بتنفيذ مشاريعها الربحية، لأنها الطابع المختوم على جوهر السلطة وأداة جديدة من أدوات قوى رأس المال المتنامية في تلك الفترة والتي تميزت بالتوسع والتضخم الجغرافي لقوى الهيمنة، أي لم تكن تلك النماذج القوموية المرسومة سوى ساحات للربح والتراكم وتعزيز الروح السلطوية وولادة النزعة القوموية كخطأ أيديولوجي بعد تقهقر الذهنية الدينية مثلتها السلطنة العثمانية كنموذج أخير للسلطة المتسترة بالدين، من هنا فقد أظهرت النزعة القوموية والتي تسترت خلف الروح القومية التي حلت محل الروح الدينية، مثيرة العواطف والمشاعر الإثنية القديمة؛ كشكل جديد لخدمة السلطة والوجه الجديد للدولة، وما إن تسلمت زمام السلطة حتى بدأت بممارسة القمع والاستغلال إزاء الإثنيات والمذاهب والمكونات وما شابهها من العناصر الإيديولوجية في الداخل، وإزاء الظواهر والأنظمة الاجتماعية المشابهة في الخارج ضمن تلك المجسمات التي سميت بالوطن والتي كانت بعيدة كل البعد عن مفهوم الوطن.
بهذه الصورة المبسطة تحولت القوموية في الشرق الأوسط خاصة إلى مفهوم عرقي أسمى تماماً كمفهوم الحرب المقدسة، وشرعت نفسها كأداة ملائمة لتحفيز المجتمعات على الانخراط في كل أنواع العنف والحروب المصحوبة بعمليات القمع والتغييب لعناصر مجتمعية رفضت الانخراط ضمن آلة الاستعباد الجديدة، لذا فقد كان المناخ السائد في القرنين العشرين والحادي والعشرين، مرحلة مهمة جدا لولادة النزعة القوموية التي تكاثفت وصعدت نحو القمة خلال الحرب العالمية الثانية، بالرغم من حالات الاستقرار المؤقتة التي شهدتها بعض تلك المجسمات القوموية، ومع بداية السبعينات وصعود التيارات المشبعة بالعنصرية والعنف الغرائزي تشكلت أزمة حقيقة تمثلت بحروب خاصة كالصهر الثقافي والتغيير الديمغرافي الذي استهدف المناطق ذو الأغلبية السكانية التي تنتمي للغة واحدة وعملت على تفتيتها وتشتيتها والتحكم بمقدراتها، لا بل وصلت لدرجة إبادتها، ومن هنا فإن نموذج الدول القومية كامتداد لكافة نماذج الاستغلال القديمة التي مارست شتى سياسات السلطة، كانت أكثرها خطورة عمليات التهجير والتغيير الديمغرافي الممنهج والقسري والتي أتقنتها قوى الاستغلال والسلطة بشتى مسمياتها.
وكنتيجة أولية، يمكن القول إن الأنظمة القوموية الآداتية وبكل وسائلها بقية عاجزة عن تخطي أزماتها المتفاقمة الراهنة، خاصة بعد أن كُشِفت للشعوب حقيقة الأنظمة الراهنة وعرّتها عن ستارها القومي الشوفيني.
الهوية الكردية بقيت صامدة رغم اتباع شتى وسائل الإفناء:
عملت كل السلطات التي تقاسمت وطن الشعب الكردي فيما بينها بكل وسائلها وأدواتها ومؤسساتها القمعية على احتلال الذات الكردية، من خلال تشتيت العقل الجمعي الكردي والمتمثل بالذاكرة والمخزون الثقافي المادي والمعنوي العريق كأقدم شعب على أرض ميزوبوتاميا، بدءا العنف المادي والرمزي إلى سياسة الابتلاع المتمثلة في التعريب والتتريك والتفريس الممنهجة من قبل الأنظمة الغاصبة.
ومن المنظور التحليلي الموضوعي، يمكن القول إن ممارسات الأنظمة الغاصبة على الإنسان الكردي كانت قومية صرفة لا غبار عليها. ورغم تعاقب الأنظمة والأوجه، فإن الذهنية والعقليات الحاكمة لم تتغير في رؤيتها للهوية الكردية. إذاً المستهدف الأول من عمليات التغيير كانت كردستان بكل مقدراتها ومُقوماتِها، وهنا يبدو أن مقولة: “يبقى الإنسان الكردي عدواً أبديا ويجب أن يزال بأي طريقة كانت”، والتي تنسب للقومويين الأتراك دليلا على الممارسات التي ترتكب بحق الشعب الكردي على يد السلطات القوموية المتوارثة في تركيا حتى يومنا هذا، لكن التاريخ أثبت أن العنف والقمع والاستيلاب، لم ينل من إرادة الكرد ووجودهم على أرض آبائهم وأجدادهم.
استهدفت مجمل السياسات التي مارستها الأنظمة القوموية البالية، تغيير ديمغرافية الكرد وإفراغ كردستان من شعبها، وتوطين قوميات وإثنيات أخرى بعد تعبئتهم وشحنهم بالنزعة القومية الشوفينية والطورانية والدينية حتى، أي إن هؤلاء المستوطنون لم يكونوا مجموعات إثنية عادية بل كانت لهم وظيفة أخرى، ناهيك عن عمليات الإهمال المقصودة والمدروسة للمناطق الكردية من جميع النواحي الاقتصادية والثقافية والسياسية والاجتماعية من إفقارٍ وتجهيل وتغيير أسماء القرى والبلدات والمدن والأماكن الأثرية وأسماء الوديان والجبال والتلال والسهول والأنهار، لذا فقد استخدمت الأنظمة السلطوية الغاصبة كل وسائلها وأدواتها بهدف القضاء على أي دليل يشير إلى وجود الكرد كشعب له كل الخصوصيات والمقومات والامتيازات كبقية الشعوب التي جاورته وشاركته بكل مقدرات موطنه.
إن رسم الإطار النظري لسياسة التغيير الديمغرافي الممنهجة وغير الطبيعية، مرتبطة بكل أوصالها بنموذج السلطة المركزية الأحادية، الذي تعزز بالنزعة القوموية التي حكمت “الجغرافية المحددة”، أي نظام الدولة الفاشية. لذا من الضروري كشف الستار عن حقيقتها إذا ما وضعنا جل ممارسات الإنكار والصهر وعمليات التهجير والتغيير، ضمن إطار عمليات الإبادة، تحت عدسة المجهر، لربما تمكنا من قراءة جميع مراحل تطور التراجيديا الإنسانية.
الممارسات الفاشلة للنظام البعثي الديكتاتوري في العراق وجنوب كردستان لتغييب الهوية الكردية:
تعرض الشعب الكردي في جنوب كردستان (إقليم كردستان العراق)، لحملات إبادة وتطهيرٍ عرقي بشكلٍ مباشر بعد فشل علميات التعريب وحملات التهجير، لتغيير الهوية الديمغرافي لجنوب كردستان وبلغت ذروتها في أبشع مجزرة شهدتها التاريخ المعاصر بعد هيروشيما وناجازاكي، وهي “مجزرة حلبجة” التي وقعت في 16ـــ17 مارس 1988، وعمليات الأنفال والتهجير من قبل نظام “صدام” الديكتاتوري أثناء قمعه للثورات الكردية، بهدف محو الكرد تماما.
الأنفال: إحدى عمليات التهجير القسري التي قام بها النظام البعثي العراقي عام 1988 ضد الشعب الكردي في جنوب كردستان، حيث أُجبِر قرابة نصف مليون مواطن كردي على الإقامة في قرى أقامتها الحكومة العراقية آنذاك، وكذلك أقدم على تصفية أكثر 82 ألف مواطن كردي، ودفنهم في مقابر جماعية في مناطق نائية من العراق.
– كما هناك حملات التهجير والنزوح صوب إيران وشرق كردستان في أعوم 1946- 1956- 1975، جراء الممارسات الاستبدادية للأنظمة التي حكمت العراق في تلك الفترات التاريخية المعاصرة.
– الهجرة المليونية في آذار/مارس عام 1991، والتي تسمى بـ”الهجرة الكبرى”، حيث نزح أكثر من مليون شخص من جنوب كردستان باتجاه شمال وشرق كردستان، هرباً من المجازر التي كانت تلاحقهم خطوة بخطوة.
– حملات التصفية والتعريب ضد الكرد الإيزيديين، والتي بلغت الذروة في 3 آب/أغسطس 2014، حيث تعرضت “شنكال” ونواحيها وقراها إلى عملية إبادة مباشرة وممنهجة بهدف القضاء على الهوية الكردية الإيزيدية الأصيلة بعد فشل 73 فرمانٍ في إبادتهم، ونزوح أكثر من 300 ألف كردي ايزيدي إلى روج آفا (المناطق الكردية السورية) ومناطق أخرى.
– في 16 تشرين الأول/أكتوبر عام 2017، نزحت آلاف العوائل من كركوك صوب الداخل في إقليم كردستان، بعد أن اجتاحت فصائل الحشد الشعبي والقوات العراقية مدينة كركوك، وأثارت الذعر الصدامي تجاه مواطنيها الكرد.
التغيير الديمغرافي الممنهج في “عفرين” نموذج لسياسات الطورانية التركية البالية:
ما قاله رجب طيب أردوغان رئيس الدولة الفاشية قبل أن يحتل جيشه مقاطعة “عفرين”، بأنه سيعيد 3,5 مليون لاجئ سوري إلى “عفرين” قبل أن يغزو بجحافله ومرتزقته المقاطعة، يطرح سؤالا مهما عن هوية من استوطنوا في عفرين؟
إن التغيير الديموغرافي الحاصل في شمال سوريا وفي مناطق أخرى من سوريا، لهو سياسة انتهجتها الدول التي تدير الأزمة، خاصة تلك الدول التي تخطط لتغيير الخارطة السورية حسب أجنداتها، لذا نرى تلك الدول -وفي مقدمتها الدولة التركية- ومنذ بداية الأزمة قد أقحمت بنفسها في عمق الصراع محاولة بشتى الوسائل والأدوات، وتلعب على أكثر من وترّ، لكنها فشلت بالرغم من سيطرتها الجغرافية على بعض المناطق.
ودليل فشلها توجهها إلى عملية الاحتلال المباشر واقتلاع السكان الأصليين في “عفرين” من أرضهم وتوطين مجموعات أخرى اقتلعت أيضاً من قراها وبلداتها ومدنها، سواء كانوا من ريف دمشق أو من حمص أو من حماة أو هؤلاء الذين جلبهم نظام “أردوغان” من الصين –الإيغور- ومجموعات أخرى استغلها “أردوغان” في تنفيذ سياساته الاستعمارية. وذلك في أكثر الاتفاقيات خطورة على سوريا أرضاً وشعباً (اتفاقات أستانا).
ما يجري في “عفرين” من عمليات تهجير وتتريك وتعريب علنية ومباشرة، وفي ظل وجود قوة احتلال وأمام أعين العالم أجمع، لهو كارثة إنسانية جديدة تضيف إلى سجل كوارث الأزمة العالمية عامة والسورية خاصة، بالطبع هناك الألاف من الوثائق والأدلة التي تنشر يومياً عبر الصحافة المسموعة والمرئية والمكتوبة والإلكترونية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي يمكن الرجوع إليها، تكشف الممارسات غير القانونية والممنهجة لنظام الاحتلال التركي في مقاطعة “عفرين”.
القمع والتهجير والتلاعب بديمغرافية الكرد في تركيا وشمال كردستان:
شهدت شمال كردستان أكبر عمليات تغيير ديمغرافي وتطهير عرقي تحت حكم الأنظمة الطورانية الفاشية التي حكمت تركيا وشمال كردستان والتي لا تزال تحكم إلى يومنا هذا. جُل الانتفاضات والثورات الكردية للخلاص من سياسات الإنكار والإبادة كانت تقمع بشدة بسياسات الأرض المحروقة من قبل الأنظمة الطورانية على الشعب الكردي، فما أن يتم القضاء على الثورة حتى تبادر السلطات التركية إلى ممارسة اقتلاع بقايا السكان من قراهم وحرق بساتينهم وتدمير منازلهم، ناهيك عن القرارات والقوانين الخاصة التي كانت تفرض على المناطق والمدن الكردية، ويمكن اعتبار السياسات والممارسات التي اتبعتها الأنظمة التي حكمت تركيا كانت الأعنف والأشد فتكاً من بين الأنظمة الغاصبة لكردستان، فما إن تتمكن السلطات التركية من القضاء على الثورات والحراك الثوري للشعب الكردي، حتى كانت تبادر لشن حملات تصفية وتطهير وتهجير “سياسات الأرض المحروقة”، بحق السكان العُزل الآمنين، ناهيك عن سياسات التتريك التي لم تتوقف منذ عهود السلطنة وحتى ما بعد قيام الجمهورية.
شملت عمليات التغيير الديمغرافي معظم الممارسات التي يتبعها اليوم نظام حزب العدالة والتنمية في عفرين في شمال سوريا، من اقتلاع للسكان الأصليين بعد عملية احتلال رافقتها شتى أنواع التدمير والتخريب والقتل وكل أشكال العنف، ومن ثم مصادرة أملاك السكان وتسليمها للمجموعات الاستيطانية المستقدمة وتغيير معالم المنطقة برمتها، ممارسات الدولة التركية بحق سكان بدليس ووان واكري وديرسم وجزرة وآمد ونصيبين ورها وسروج….، من سياسات تهجير وتغيير معالم تلك المناطق التضيق على السكان الأصليين وعمليات التوطين والاستيطان.
من هنا، فإن ما يقوم به نظام الاحتلال التركي في وقتنا الراهن سواء أكان في شمال كردستان، أو في شمال سوريا، لهو تتمة واستمرارية لنظام القمع الشوفيني السلطوي التركي ضد الشعب الكردي وهويته كشعب له خصائصه القومية والثقافية والجغرافية.
نشير إلى بعض الممارسات والسياسيات التي عملت عليها تلك الأنظمة المتعاقبة، والتي كانت تتستر تارة بعباءة الدين وتارة أخرى بعباءة العلمانية، لكنها بمجملها كانت تمارس القمع بشتى صنوفه: أولى هذه الممارسات لا يوجد كلمةً باسم كرد أو كردستان في الجغرافية التي تسمى حالياً بالجمهورية التركية، واستخدام هذه الكلمة في داخل وخارج الجمهورية التركية من قبل أي إنسانٍ يعيش ضمن تلك الجغرافية يعتبر جرماً يحاسب عليه وفق الدستور والقوانين التركية (الأمة التركية والجمهورية التركية فقط)، وعلى أثر ذلك أطلق على شمال كردستان بجنوب شرق الأناضول، والتي لا تتطابق بأي حال من الأحوال مع حقيقة التاريخ والجغرافية لتلك المنطقة.
– الدساتير التركية تنفي أي وجود للشعوب والمكونات التي تعيش في تركيا.
– مجمل المناهج التعليمية التركية كانت قائمة على المفاهيم العنصرية وسياسة الكره القومي وغرس المفاهيم العنصرية والطورانية في عقول الأجيال التركية.
– العديد من القوانين التي أصدرها “المجلس الوطني الكبير” خلال العشرينات من القرن الماضي ضد الكرد والتي لا تزال سارية المفعول حتى وقتنا الراهن، خاصة قانوني 1097 و 1178 لعام 1927، تنص على تهجير وإبعاد عدد كبير من العوائل الكردية إلى غرب الأناضول، وقانون 1505 لعام 1929 الذي تضمن الاستيلاء على أراضي الزعماء الكرد تحت ستار شعار كاذب هو (توزيعها على فلاحي شرق الأناضول)، وكذلك القانون الذي حمل رقم 2510، والذي كان يهدف إلى تشتيت وبعثرة السكان الكرد في شمال كردستان، بصورة لا تتجاوز نسبتها في أي ولاية من ولايات البلاد 10% من مجموع السكان.
– خضوع المناطق الكردية لإجراءات إدارية عسكرية قاسية من حالات الطوارئ إلى الحصار، حيث أصبحت المناطق الكردية مراكز عسكرية تسري عليها القوانين العسكرية والأحكام العرفية التعسفية منذ العشرينات وحتى الوقت الرهن.
ولعل وصف السياسة الاستعمارية التركية إزاء الشعب الكردي من قبل المفكر تركي الأصل إسماعيل بيشكجي، خير برهان على مدى عدوانية الأنظمة التركية المتعاقبة تجاه الشعب الكردي، والذي اعتبرها “أسوأ بكثير من سياسات التمييز العنصري في جنوب إفريقيا”.
بهذه الصور التاريخية القريبة والتي ترتبط بمجريات الحاضر بشكلٍ مباشر، حاولنا كشف ظاهرة خطيرة للتطورات الحاصلة في سوريا خاصة والمنطقة عموماً على المستوى البشري، وهناك إدراك عام بأن التغيير الديمغرافي قد يكون من أخطر ما تتعرّض له المنطقة، وذلك لأن آثاره تدوم علاوة على الفظائع التي تترافق معه. وما يجعل الأمر أكثر خطورة، هو أن هذا التغيير هو جزء من الجهد الخارجي الذي يعبث على الأرض ويمزّق أسس الكيان الاجتماعي السوري، الذي يعد أهم مرتكزات مستقبل استقراراها وأمنها.
الهوية الكردية في سوريا وروج آفاي كردستان والممارسات البعثية:
لم تكن سوريا يوماً وخلال تاريخها الطويل تكتسي القومية؛ على العكس كان طابع التعدد والتنوع هو الغالب في مجمل مراحل التاريخ القديم والحديث، لكن مع استيلاء البعث الشوفيني القومومي على السلطة في سوريا، تحولت الأرض التي مرت عليها العديد من الحضارات وتمازجت فيها الإثنيات والأديان والمذاهب من كل صوب إلى بوتقة لصهر كل التنوع في بوتقة واحدة، هي بوتقة السلطة القوموية الشوفينية العروبية، حيث تميزت ممارسات التغيير الديمغرافي في سوريا بنوعٍ من اللين والصهر الممنهج، ولربما كانت تختلف عن الممارسات الطورانية التركية والنزعة الإجرامية القوموية الصدامية، والتي كانت تترافق بشن عمليات تطهير دموية. من هنا، فقد مارس حزب “البعث” السوري سياسات عدة بهدف تغييب الهوية الكردية سواء في سوريا أو المناطق الكردية، نرد بعض منها:
– قضية الاستيطان البعثي وسياسات التعريب في الجزيرة، بدءاً من مشروع الحزام العربي في بداية ستينات القرن الماضي وقرار منع التملك فيها، بداية من الحدود التركية شمالاً نحو الجنوب بعرض (10-15) كم وطول يمتد من الحدود العراقية شرقاً إلى أكثر من 350 كم نحو الغرب، بموجب المرسوم رقم 2028 بتاريخ 4/6/1956. وأعقبه المرسوم البعثي رقم 136 بتاريخ 11/11/1964. واعتُبرت بموجبه كامل “محافظة الحسكة” منطقة حدودية، بحيث لا يمكن إنشاء أو نقل أو تعديل أي حق من الحقوق العينية على الأراضي الكائنة ضمن المحافظة، والتي تشكل حوالي 13% من مساحة سوريا الإجمالية، وكذلك منع الاستثمار الزراعي لمدة تزيد على ثلاث سنوات إلا بموجب رخصة مسبقة تصدر بقرار عن وزير الداخلية بناءً على اقتراح وزير الزراعة والإصلاح الزراعي بعد موافقة وزير الدفاع؟ أي موافقة ثلاث وزارات تتبعها ثلاث جهات أمنية، هي الأمن السياسي والشرطة بمختلف مسمياتها والأمن العسكري، من أجل رخصة الاستثمار الزراعي، منعاً لحدوث أية تنمية في شمال سوريا.
في حين استثني “المستوطنين” من قوانين منع التملك، حيث أصدر محافظ الحسكة قرارات التملك الخاصة بكل مستوطن في عام 2004 حسب حصته، وأعقب بقانون 49 لعام 2008 بمنع تملك العقارات المبنية وغير المبنية خارج المخططات التنظيمية للمدن والبلدات والقرى في محافظة الحسكة، معظم المستوطنات سميت بالأسماء المعربة للقرى الكردية وشملت أراضي (335) قرية بمساحة إجمالية بلغت من حيث النتيجة حوالي (300) ألف هكتار.
– أراضي الاستيلاء، وهي كامل مساحة الأراضي الزراعية في “محافظة الحسكة”، وقد استولت عليها الأنظمة المتعاقبة، وخاصة نظام البعث باسم الدولة” أملاك الدولة”، تحت شعارات محاربة الإقطاع الزراعي، بموجب قانون الإصلاح الزراعي رقم 161 لعام 1958 في العهد “الناصري”، وعززه نظام البعث بقوانينه وتشريعاته.
– القرار رقم (521) الصادر بتاريخ 24/6/1974، والهدف منه التغيير الديمغرافي لجغرافية شمال سوريا والإخلال بالتركيبة السكانية هناك.
– مزارع الدولة 1960-2010. وهي تلك الأراضي التي انتزعت من سكانها بموجب مجموعة من القوانين البعثية، ومنحت فيما بعد إلى مستقدمين من مناطق أخرى وقدمت لهم العديد من التسهيلات بهدف تثبيتهم.
– مجموعة من القونين والسياسيات الهادفة لتهجير السكان وإفقارهم وإجبارهم على الهجرة سواء إلى المناطق الداخلية في سوريا أو الهجرة إلى الخارج.
حل الأزمة السورية والخروج من المأزق:
من أجل بناء دولة عصرية ديمقراطية يجب إزالة كل آثار العدوان التركي المحتل، والعمل على منع تكرار سياسات الدولة القوموية المنهارة، والسعي لترسيخ نموذج التعايش المشترك من أجل بناء نظام ديمقراطي تعددي مبني على دستورٍ ديمقراطي يضمن فيه:
– حماية حقوق كل المكونات ضمن يتوافق مع طبيعة سوريا المتنوعة إثنياً وثقافياً.
– معالجة التجاوزات وآثار السياسات البعثية على كل المناطق التي استهدفتها ممارسات البعث الشوفينية، وإزالة الآثار والمخلفات التي أدت أو تؤدي إلى التغيير الديمغرافي.
– اعتبار كل ممارسة أو سياسة تستهدف هوية الإنسان وثقافته وأرضه جرم يحاسب عليه القانون.
– تفعيل مبدأ الحوار السوري – السوري وعلى الأرض السورية والاعتراف بكل المكونات والثقافات تشكل أرضية مناسبة لحل الأزمة السورية ومجمل قضاياه الإنسانية.