قراءة في “أطوار التاريخ الانتقالي: مآل الثورات العربية”: في ماهية آليات وكوابح التغيير

*طارق حمو

يستعرض كتاب (أطوار التاريخ الانتقالي: مآل الثورات العربية)[1]، آراء مجموعة من النخب العربية في الأحداث والتغييرات الكبيرة التي مرت بها بعض البلدان العربية في الأعوام الأخيرة، أو ما بات يعرف في بعض الأوساط بـ”الثورات العربية”. ويطرح هؤلاء آراء تحليلية واستشرافية للتعرف على بواعث وآليات تلك الأحداث والتطورات. الأحداث التي ما يزال بعضها يتفاعل ويطرح تطورات جديدة حاليا، حيث المآلات غير واضحة، والأمور مفتوحة على كل الاحتمالات.

في الفصل الأول، يكتب كمال عبداللطيف الأستاذ الجامعي المغربي بحثا بعنوان (ما بعد الثورات العربية: زمن المراجعات الكبرى)، وفيه يركز بشكل خاص على ما جرى من تغيير في كل من مصر وتونس، متناولا الأمر من النواحي الثقافية بشكل خاص. ويقول الكاتب بان الانفجارات الكبرى التي حصلت في أغلبية البلدان العربية خلال سنة 2011 م، قد خلقت مفاجأة عظيمة وذهولا كبيرا لدى النخب العربية، دفعت بالكثير منها إلى طرح مواقف رومانسية وتغييب الشروط والسياقات السياسية والثقافية المركبة لما حصل من انفجارات، بينما عد آخرون هذه الأحداث مؤامرة على العرب والعروبة، تقف ورائها قوى استعمارية تريد فرض الاستسلام والخنوع على الأمة العربية!. لكن الكاتب يرفض الرؤيتين، بشيء من الانتقاد حينما يقول: ” نفترض أنه ينبغي عدم الاستكانة في قراءة مثل هذه الحوادث عند حصولها إلى لغة القطع اليقينية، ذلك لأن الانفجارات تكشف التناقضات المسكوت عنها في المجتمع فتبرزها، الأمر الذي يولد مؤشرات جديدة ينبغي أن تستخدم بدورها في أفعال المواجهة الساعية إلى تخطي تداعياتها السلبية، وتقوية كل ما يساعد على تجاوز الأعطاب التي كانت سببا في حصولها”[2].

ويتحدث الكاتب عن تصدر الإسلام السياسي للمشهد العام في كل من تونس ومصر وأيضا المغرب، موضحا بأن التجربة التونسية ظلت متقدمة بحكم ما يتمتع به المجتمع التونسي ونخبه من خصوصيات، مرتبطة بنظامه السياسي ومرجعيته الثقافية، كما يحمل نقدا كبيرا على الإسلاميين الذين حادوا عن مطالب الجماهير في الديمقراطية والحرية والتخلص من الاستبداد والقمع، وعملوا على تجيير الاحداث لمصلحتهم، منتهزين الفرصة من أجل إحياء الحلم القديم في “الخلافة” و”دولة الشريعة”، ومن هنا و”عندما نتابع مواقف الإسلاميين من الديمقراطية، في المرحلة التي سمحت لهم فيها الصناديق الانتخابية بالوصول إليها، نتبين مرة أخرى ذهولهم المكشوف عن المقاصد، ذلك أنهم بادروا إلى التغني باسترجاع العهد الذهبي للحكم الإسلامي في قلب المخاضات الانتقالية، وتناسوا أن منطق الديمقراطية يتغنى بتداول السلطة في فترة محددة، قد تطول وقد تقصر، لكنها لا تعمر ولا تعد عصرا ذهبيا، إلا عندما نقارن منجزاتها ببرامجها في مرحلة قيامها بتدبير الأجهزة التنفيذية”[3].

ويعيد المؤلف السبب في غطرسة الاسلام السياسي في كل من تونس ومصر وتفرده بالحكم ولهفته إلى تطبيق برامجه السياسية دون مراعاة للناس ومطاليبهم وطموحاتهم، إلى غياب الثقافة الديمقراطية والتعددية الحزبية، مع تأثير المواجهات في كل من سوريا وليبيا على العملية الديمقراطية التداولية في هذين البلدين. كما ويطالب المؤلف بضرورة احداث مراجعات كبيرة وشاملة وبنيوية للمرحلة السابقة، مع ضرورة مراقبة كل التفاعلات الناتجة عن عملية التغيير الديمقراطي، وضرورة الحيلولة دون استئثار أية قوة سياسية ذات مشروع مختلف ومغاير لجوهر الحرية والديمقراطية، أي لمطالب الجماهير، في مصادرة هذه الثورات لصالح برامجها الخاصة.

وفي حالة مصر، فيمكن الحديث عن جماعات (الإسلام السياسي) وبشكل خاص جماعة الإخوان المسلمين الأقوى والأكثر تنظيما وحضورا، حيث ترددت هذه الجماعة كثيرا منذ بدايات الانتفاضة ضد حكم حسني مبارك إلى حين إعلان هذا الأخير تنحيه عن السلطة. فالواضح أن الجماعة لم تكن تظن بان نظام مبارك ـ والمؤسسات المتجّذرة التي وطدّها حزبه في بنية الدولة ـ سوف يرضخ سريعا لبعض المظاهرات، فيلجأ إلى الإصلاح، ناهيك عن الاستقالة والرحيل. لذلك كانت الجماعة حذرة في التعامل مع التطورات، ومن هنا و”على الرغم من أن جماعة الإخوان المسلمين بقيادتها وشبابها كانت أكثر ضحايا قمع النظام، فإن موقفها من إعلان يوم 25 كانون الثاني/يناير لحظة بدء التغيير، قد شابه كثير من التردد والاضطراب. فصدرت عنها تصريحات شفهية تتحفظ على المشاركة، وأخرى تعلن ان الجماعة لم تتلق دعوة إلى المشاركة وأنها ما زالت تدرس الوضع، وثالثة تعلن ان المشاركة ستكون عبر بعض القيادات، وأنها لن تمنع شباب الجماعة من النزول إلى التظاهر، أي أنها أيضا لن تطلب منهم المشاركة”[4].

وفي الفصل الثاني يكتب الاستاذ الجامعي السوداني حسن الحاج علي أحمد بحثا بعنوان ( مراحل انتقال الثورات العربية: مدخل مؤسسي للتفسير)، يتعرض فيه إلى دور مؤسسات الدولة في المرحلة الانتقالية، وتأثير هذا الدور على مسار الثورات المستقبلي. ويقدم الكاتب عرضا غنيا لاوضاع مؤسسات الدولة( الأمنية والعسكرية والاقتصادية) في كل من مصر وتونس وليبيا في الفترة الانتقالية التي تلت اسقاط تلك الانظمة، مستخلصا، بان ” التحدي الأكبر الذي يواجه حكومات الفترات الانتقالية والمجتمع المدني في تلك الدول ظل اصلاح مؤسسات الدولة القديمة، وخصوصا المؤسسات الأمنية وجهاز الشرطة، وأضيف إليها القضاء في مصر، لأنها الآليات التي اعتمدت عليها الدولة الباطشة في الهيمنة وقمع المعارضين. وتشير أوضاع تلك المؤسسات إلى أن مساعي إصلاح الأجهزة الأمنية تكاد تنعدم في كل من مصر وتونس، إلى جانب ضعف المؤسسات الجديدة في ليبيا”[5].

وينفي المؤلف عن ما حدث في العالم العربي من تحولات وتغييرات صفة “الثورات الاجتماعية”، موضحا بانها تحولات حدثت من غير ترتيب وقصد، وأن التغيير لم يطل المؤسسات العسكرية والأمنية، أو حتى البنية الاجتماعية، وان المحاولات التي حدثت لفرض التغيير والقضاء على القديم لصالح الجديد، باءت بالفشل، وظهر نظام هجين لا ينفي القديم ولا يمكن وصفه بالجديد أيضا، ” على الرغم من التغييرات المهمة التي طرأت على الأنظمة السياسية في الدول الثلاث، فإن أوضاعها لم تستقر بعد، ولا تزال مراحلها انتقالية مفتوحة على الرغم من إجراء انتخابات عامة. ووفقا للتحليل التتبعي، فإن مخاض التفاعل بين العوامل الثلاثة، إرث الدولة القديمة وطبيعة التغيير الثوري ودرجة تجانس النخب في الفترات الانتقالية، سيؤدي في الغالب إلى إعادة إنتاج المؤسسات القديمة، وخصوصا التعامل مع السياسة وكأنها لعبة صفرية، أو قيام نظام هجين في مصر، و إلى تكيّف المؤسسات في تونس مع البيئة السياسية الجديدة، وفي ليبيا ستفضي إلى قيام مؤسسات جديدة، أو الدخول في حالة من عدم الاستقرار”[6].

وعليه، ما تزال العديد من النخب العربية تبحث عن كيفية توطيد الديمقراطية، ولو بشكل تدريجي، حيث التحول الديمقراطي الهادئ والمراقب من قبل الشعب نفسه، ومن قبل مؤسسات الدولة التي تمثل الشعب، ولكن شرط أن تكون ثمة شراكة موجودة بين الجميع في تثبيت دعائم هذه الديمقراطية، ” نموذج الديمقراطية الذي يناسب المجتمعات العربية التي تجري فيها الاحتجاجات الشعبية، هو ديمقراطية الشراكة الوطنية التي تقوم على مبدأ التوافق الوطني الذي يوفر الفرصة لكل المكونات السياسية والفكرية المشاركة الحقيقية في صنع القرار، الأمر الذي يضعف حاجة القوى الوطنية للإستقواء بالعامل الخارجي ضد بعضها البعض، كما يقلل من فرص بعض تيارات الحركة السياسية للانفراد بالسلطة سواء بالاستناد على الشرعية الانتخابية أو إلى العنف. إن تحقيق ذلك يساهم في توفير الظروف المناسبة للاستقرار السياسي والاجتماعي خلال الفترة الانتقالية”[7].

وفي الفصل الثالث يكتب أنطوان نصري مسّرة الخبير القانوني والاستاذ الجامعي اللبناني بحثا بعنوان ( قواعد الانتقال الديمقراطي في المجتمعات العربية: مؤشرات الديمقراطية وقياسها والتمكين في إطار التحولات العربية)، يتوقف فيه على الجانب الحقوقي من التغيير الديمقراطي ما بعد التحولات الأخيرة في العالم العربي، موضحا بأن المعايير الدولية في تعريف الديمقراطية ووسم مجتمع أو نظام ما بالديمقراطي قد لا تنطبق تماما على الدول العربية، لأسباب حضارية وثقافية، ” البرامج حول تربية الديمقراطية والتربية على حقوق الانسان والثقافة المواطنية والديمقراطية عامة تبقى ناقصة من دون نقل الخبرة التاريخية في مفهوم القانون في تاريخيته العربية. ما نعيشه عربيا من التباس حول الشريعة والتشريع، حتى في أوساط قانونيين، تعود جذوره إلى عدم ترسيخ تاريخية القانون في التجربة العربية كثمرة سياق براغماتي وغير عقائدي”[8].

ويشرح الكاتب مؤشرات الديمقراطية، فيقول انها الحكومة التي يجب أن تكون شفافة ومسؤولة، ووجود مجتمع مدني فاعل وديمقراطي مع حضور وحماية الحقوق المدنية والسياسية وضمان قيام الانتخابات الحرة والعادلة. ويقول المؤلف بأن هذه المؤشرات قد لا تنطبق على البلدان العربية لأسباب دينية وثقافية أولا، ولخصوصية تركيبة المجتمعات العربية وأصول الولاءات القبلية والاثنية فيها، وغياب المجتمع المدني وثقافة المشاركة، وحضور طاغي للجيش والمؤسسة الأمنية.

ويقول الكاتب بان الحياة الحزبية والمؤسسية العربية تخضع للأمزجة الثقافية الاجتماعية، وتأثير الدين والعسكر، إلى جانب غياب ممارسة صحية ومجتمع مدني وتراث ديمقراطي يشكل أساسا يمكن البناء عليه، وبذلك لا يجب أن نعتبر عمل مؤسسات الدولة وما يجري من انتخابات جزء من العملية الديمقراطية الصحيحية والحقيقية، بقدر ما يمكن اعتبارها عملية خاصة بالمجتمعات العربية ومصنوعة على مقاسها ووفق أمزجتها وخصوصياتها.

وفي الفصل الرابع يكتب الاستاذ الجامعي السوداني عبد الوهاب الأفندي بحثا بعنوان ( تحديات التنظير للانتقال نحو المجهول: تأملات في مآلات الثورات العربية وفي نظريات الانتقال الديمقراطي)، والذي يتوقف فيه على الأسس التاريخية والفكرية للانتقال الديمقراطي، موضحا بأن المسلمة التي تقول بأن جميع الدول التي تتداعى فيها الأنظمة الاستبدادية تتجه بالضرورة نحو الديمقراطية، غير صحيحة، وأنه حتى الانتخابات والعوامل البنيوية من مستوى الدخل ومرحلة التنمية الاقتصادية ونسب التعليم، ليست بذات اهمية في التحول المنشود، وانه من بين 100 دولة شهدت تغييرات وتحولات، لم تستطع سوى 20 دولة من تحقيق التحول الديمقراطي، بينما بقيت البقية في المنطقة الرمادية.

لكن الأفندي، وبعد عرض مستفيض لآراء وأفكار المفكرين والباحثين في الشأن الديمقراطي وتركيب الدولة والمجتمعات في العالم عموما، والدول العربية بشكل خاص، يذهب بأن الدين في العالم العربي لا يلعب ذلك الدور الذي يخال للكثيرين انه يذهب في كبح جماح التحول الديمقراطي، ولا يمكن الحديث عنه بوصفه “خصوصية عربية” معيقة للديمقراطية والمشاركة وحافزة للقمع والتشدد، بل هو عامل كبقية العوامل يتفاعل معها ولا يمكنه الحسم لوحده، “يمكن أن نضيف هنا أن الدين، بصفته المجردة، لا يمثل كذلك عامل استقطاب وانقسام في العالم العربي. على سبيل المثال، نجد أن النزاع المحتدم بين جماعة الإخوان المسلمين في مصر وخصومها في الجيش والقوى الليبرالية لا يتمحور حول أي قضية دينية، فالحركة لم تتهم بأنها حاولت فرض تشريعات إسلامية أو نحوه، وإنما اتهمت بأنها انفردت بالحكم وأقصت الآخرين. وبناء عليه، نجد أن حزب النور السلفي، وهو أكثر تشددا في امور الدين من الإخوان، انحاز إلى العسكر في الصراع مع الإخوان، وكذلك فعل حزب مصر القوية الذي يقوده القيادي الاخواني السابق عبد المنعم أبو الفتوح. الخلاف إذا سياسي بامتياز، ويتمحور حول مخاوف متبادلة من أنفراد جهة واحدة بالسلطة بصورة قد تقصي الآخرين وتهدد مصالحهم”[9].

ولكن ثمة من يركز على مناورة الاسلاميين خلال مساعيهم للوصول إلى السلطة، و بالتالي فهذه السياسة ليست زهدا في الحكم، ولكن نتيجة قناعة في ان التوقيت لم يحن بعد لاستلام السلطة، ومن هنا ف” غنيّ عن القول بأن الإسلاميين، إذ يعدون تحكيم الشريعة (انموذجهم المنشود)، لا يمكنهم لاعتبارات سياسية معروفة التصريح بهذا، فموازين القوى كلها ضدهم، ومن ثم كان هناك نوع من المناورة والتورية بالألفاظ التي يستخدمها الإسلاميون عبر المنابر الإعلامية العلمانية التي كانت تمارس عليهم ضغوطا رهيبة، كانت تزداد في شراستها ومحاصرتها لهم مع اشتداد موجة العنف، في ظل تلك الأجواء الملتهبة بدأت تبرز آراء المدرسة التنويرية تجاه الديمقراطية، التي حاولت بشكل أو بآخر تكييف مفاهيم الديمقراطية الغربية مع الشريعة الإسلامية، بما في ذلك إعطاء الشعب حق التشريع، أو تجويز الولاية العظمى للمرأة، أو فتح حرية الرأي والفكر للملاحدة والعلمانيين، أو تجويز الولاية العظمى لغير المسلم، أو إنكار عقوبة المرتد.. إلخ”[10].

ويسمي الكاتب عبد الوهاب الأفندي بعض الانظمة العربية بانظمة “الثقب الأسود”، بمعنى أن المؤسسات المتجذرة فيها تتحول إلى أشكال أخرى في سبيل الحفاظ على مصالحها، والعودة للحكم من باب آخر، وداعيا إلى عدم الانخداع بمظاهر انهيار بعض الانظمة العربية، حيث إن المؤسسات والطبقات والتحالفات المستفيدة من الحكم أقوى بكثير مما يعتقده البعض، وهي قادرة على العودة والتبلور من جديد. 

في الفصل الخامس شارك رفعت رستم الضيقة الاستاذ في جامعة ديترويت في أميركا ببحث بعنوان ( الدولة الوطنية العربية: حالة إنتقالية مستمرة)، أوضح فيه الاختلال الحادث في بنية الدولة العربية الوطنية منذ التأسيس والاستقلال إلى الآن، موضحا بأن الانظمة العربية فشلت في تأسيس دولة مواطنة حقيقية، يتمتع فيها المواطن بحقوقه في الحرية والمشاركة الديمقراطية. وأشار المؤلف إلى خطاب الانظمة الذي ربط كل مقومات الدولة الوطنية الديمقراطية من حقوق ومشاركة وحريات بقضايا أخرى مثل تحرير فلسطين وتحقيق الوحدة العربية!. وبذلك فقد كانت هذه الدولة الوطنية هنا “حالة عابرة” ومؤقتة ريتما يتم التوصل إلى المشروع الأكبر، والهدف الأسمى وهو الوحدة، اي التفكير كان دائما لخارج الحدود، بينما داخل حدود “الدولة الوطنية” كان مشروعا مؤقتا، ينبغي عدم التركيز عليه، بل السكوت عما يحدث من أجل “القضايا القومية الكبرى”!

ويشير المؤلف إلى الدول العربية التي عصفت بها الأحداث الأخيرة، ومخاطر بروز مشاريع تتخطى حدود ومشروعية الدول الوطنية، لتقدم إمارات واقاليم على أسس جهوية وعرقية.

ويتعرض الباحث المغربي محمد سعدي في الفصل السادس إلى (محنة الانتقال الديمقراطي العربي وعودة الثورة: قلق المسارات ومعابر الأمل)، يتوقف أيضا حول هشاشة بنية المجتمعات العربية وقصور مؤسسات الدولة عن استيعاب التغييرات التي أفضت إليها “الثورات” العربية. ويقول الباحث بان المعارضين لجؤوا إلى العنف المضاد بسبب غياب الأرضية والثقة التي يمكن البناء عليها لضمان الانتقال السلمي الديمقراطي دون إراقة الدماء وإحداث التخريب والخراب.

كذلك من جهته، يخوض الأستاذ الجامعي الفلسطيني إميل بدارين في الفصل السابع في ( فرص بناء أفق سياسي تعددي في دول الثورات العربية) مركزا على خطاب جماعات الإسلام السياسي التي ترفض ان تنطلق الشرعية من الشعب، بل تصر على نظام ديني يخضع فيه الناس لحكم الشريعة وتفسيرات النص الديني. ويثبت الباحث التناقض في تعامل هذه الجماعات، حيث أنها تريد تفويضا عن الانتخابات من الشعب، لكي تحكم بالشريعة وتفسيرات الدين. ويطالب الباحث الجميع بالحوارمن اجل احداث التغيير السلمي السلس ” من اجل فتح آفاق سياسية أوسع للتغير معا، لا بد من الاعتراف بأن الواقع الاجتماعي مركب ومتعدد الأبعاد، كمدخل للتفاوض على منهجية توازن بين التراث التاريخي والكينونة الراهنة والمستقبلية، من أجل انشاء بعد فلسفي ديمقراطي توافقي يكون منسجما مع السياق الاجتماعي”[11].

وفي الفصلين الثامن والتاسع، يتم التركيز على حالات محددة ضمن “الثورات العربية”، وهنا حالة كل من اليمن وسوريا، حيث التغيير الدموي، والمواجهة الدموية بين المعارضة والسلطة، والتي تحولت لحرب أهلية مدمرة، بتبعات وتدخلات اقليمية سافرة.

أما في الفصل العاشر، فيخوض الباحث والاستاذ الجامعي المغربي يحيى بولحية في تجربة اليابان عبر مساهمته المعنونة (عبقرية الانتقال باليابان في ثورة الميجي 1868 والدروس المستفادة عربيا)، وبعد عرض مسهب عن الثورة التي قام بها اليابانيون ضد حكومة بلادها التي وقعت اتفاقيات اقتصادية وسياسية مذلة مع الولايات المتحدة الأميركية، والتي لخصت مطاليبها في المساواة الاجتماعية بين المواطنين، وتوحيد السلطات العسكرية والمدنية في يد واحدة، للحفاظ على حقوق جميع الطبقات، والتخلي عن التقاليد الشكلية القديمة، والانفتاح الثقافي والعلمي على العالم، يخلص الكاتب إلى مقارنة ما جرى في ذلك العهد في اليابان مع ما يجري الآن في البلاد العربية من تغييرات و”ثورات”، فيقول ” هذه قضايا لا نجد لها أثرا في الثورات العربية الراهنة ( أنموذجا مصر وليبيا)، فالاستعلاء الحزبي وغياب الفعل التشاركي حالا دون تحقيق الإجماع الوطني في مصر في فترة الانتقال الثوري. تتطلب المرحلة الانتقالية التفافا داخليا يحول دون تسرب الفيروسات الخارجية التي تحاول إجهاض الثورة وإنجازاتها. كما يفترض في الطليعة الثورية أن تتصف بالذكاء السياسي، وبقدر كبير من الحكمة والواقعية للوصول بالثورة إلى بر الأمان”[12].

وفي الفصل الحادي عشر تخوض مروة فكري، الاستاذة الجامعية المصرية، في ( الربيع العربي من منظور مقارن: دراسة في نمط التحول وأثره في الانتقال من السلطوبة إلى الديمقراطية)، حيث تحاول عقد مقارنات بين عدد من دول الكتلة الاشتراكية السابقة وبين الدول العربية التي شهدت التحولات الكبيرة مؤخرا. فهي تقعد مقارنة بين حالة بولندا التي تدرجت من الحكم الشيوعي الاستبدادي إلى الديمقراطية الاشتراكية وحالة مصر التي تعرضت لتغيير كبير في النظام السياسي، اثر انتفاضة الجماهير الاخيرة. وتخلص الباحثة إلى أن ” خبرات التحول الديمقراطي توضح ان التركيز على دفع العملية الديمقراطية هو الضمان الوحيد للانتقال السلمي. حتى لو لم تأت الانتخابات الأولى بالحكومة التي تلبي المطالب، فإن استمرار العملية الانتخابية في النهاية قادر على تصحيح الخيارات الخاطئة. وفي تجارب التحول الديمقراطي، غالبا ما تخسر أول حكومة الانتخابات التالية بسبب ارتفاع سقف التوقعات لدى المواطنين. كما أن الحركات المعارضة التي كانت تتمتع بشعبية وفازت في الانتخابات الحرة، وجاء أداؤها دون توقعات المواطنين، سقطت في الانتخابات التالية”[13].

وفي الفصل الثاني عشر، يقدم الأستاذ الجامعي المغربي، وأستاذ القانون في الاكاديمية العربية في الدنمارك إدريس لكريني مداخلة بعنوان ( العدالة الانتقالية وأثرها في التحوّل الديمقراطي مقاربة لنماذج عالمية في ضوء الحراك العربي)، يركز فيها على ضرورة تأمين العدالة في المرحلة الانتقالية من أجل تحصين المجتمعات العربية ضد الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان. ويقدم الباحث سردا تاريخيا للتحول الديمقراطي والعدالة الانتقالية، حيث ضرورة ” ترسيخ الديمقراطية” بشكل تدريجي ودون اللجوء إلى العنف والمواجهة. كما يتوقف على أهمية الجانب الاقتصادي في انجاح التحول الديمقراطي وتوطيد العدالة الانتقالية. كذلك يشير الباحث إلى دور النخبة بكل صنوفها في حماية العدالة الانتقالية والضغط باتجاه التمسك بها واخضاع الجميع لسلطتها. والمهم في رأي الباحث هو حماية المرحلة الانتقالية وضمان حدوث تغيير ديمقراطي سلمي سلس، ومن هنا يقول : ” يتوقف بناء دولة مدنية حديثة على حٌسن تدبير المرحلة، بصورة تتجاوز إكراهات الماضي، وعلى استحضار المداخل السابق ذكرها. يمكن التركيز على أربع أولويات لتأمين هذا التحول، وهي إقرار دستور ديمقراطي، وتدبير التنوع المجتمعي بصورة ديمقراطية، وترسيخ استقلالية القضاء، ثم اعتماد آلية العدالة الانتقالية ” [14].

*باحث في الإسلام السياسي. من فريق المركز الكردي للدراسات.

إشارات:

[1] ـ مجموعة مؤلفين: أطوار التاريخ الانتقالي: مآل الثورات العربية. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. الدوحة، قطر. الطبعة الأولى 2015 م.

[2] ـ المصدر السابق. ص 40.

[3] ـ نفس المصدر. ص 46.

[4] ـ نواف بن عبد الرحمن القديمي: الإسلاميون وربيع الثورات: الممارسة المنتجة للأفكار. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. الدوحة، قطر. 2012 م.  ص 15.

[5] ـ مجموعة مؤلفين: أطوار التاريخ الانتقالي: مآل الثورات العربية.  مصدر سبق ذكره. ص 83.

[6] ـ نفس المصدر السابق. ص 99.

[7] ـ فاخر جاسم: الاحتجاجات الشعبية العربية وآفاق تطورها الديمقراطي. مجلة الأكاديمية العربية في الدنمارك. وهي مجلة فصلية محكمّة صادرة عن الأكاديمية العربية في الدنمارك. كوبنهاغن، مملكة الدنمارك. العدد 10. 2011 م. ص 154.

[8] ـ مجموعة مؤلفين: أطوار التاريخ الانتقالي: مآل الثورات العربية.  مصدر سبق ذكره. ص 114 و ص 115.

[9] ـ نفس المصدر. ص 187.

[10] ـ وليد بن عبد الله الهويريني: عصر الإسلاميين الجدد: رؤية لأبعاد المعركة الفكرية والسياسية في حقبة الثورات العربية. من إصدارات مجلة (البيان). الرياض، السعودية. الطبعة الأولى 2013 م. ص 104.

[11] ـ  مجموعة مؤلفين: أطوار التاريخ الانتقالي: مآل الثورات العربية.  مصدر سبق ذكره.ص 321.

[12] ـ نفس المصدر. ص 400.

[13] ـ نفس المصدر. ص 493.

[14] ـ نفس المصدر. ص 525.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد