من “إصلاحي” سابق إلى “سلطان جديد”.. “غارديان” ترصد مراحل تطور “شعبوية أردوغان”

بيثان ماكرينان وجوك سراج أوغلو |

في عام 1997، سافر أول عمدة إسلاموي لـ”إسطنبول” إلى بلدة “سعرت” الفقيرة حنوب شرق البلاد، لإلقاء كلمة في اجتماع حاشد. وقتها، ألقى خطابا من شأنه أن يغير مسار حياة رجب طيب أردوغان –ومعه- مستقبل تركيا. قرأ “أردوغان”، الذي كان يرتدي سترة الرجل العامل التي اشتهر بها، قصيدة إسلامية قومية، استخدم فيها أسلوبًا بلاغيًا مارسه في سن المراهقة، حيث خاطب جمهورًا وهميًا على سطح السفن المهجورة على مضيق البوسفور.

هتف الحشد في فرح، لكن السلطات العلمانية لم تكن سعيدة. واتُهم رئيس البلدية المبتدئ بالتحريض على الكراهية الدينية، وتم إيداعه إلى السجن ومنعه من ممارسة السياسة، لكن رد الفعل جاء بنتائج عكسية، ما جعل “أردوغان” أكثر شعبية ومهد الطريق لفوزه الأول في الانتخابات عام 2003.

إذا نظرنا إلى الوراء، فإن قضاء “أردوغان” لمدة أربعة أشهر في السجن في أواخر التسعينيات من القرن الماضي كان تجربة تكوينية. لقد ظهر بإحساس حاد بقدرة الكلمة المنطوقة والاستياء الحاد تجاه النخب التي سخرت علانية من التقوى وسخرت من خلفيته التي تنتمي إلى الطبقة العاملة، وسعت إلى نفيه من المؤسسة السياسية.

بعد عقدين من الزمن، أصبح الرئيس التركي عملاقًا شعبويًا. كانت فترة ولايته الأخيرة في المنصب الأكثر شعبية بين أي زعيم يميني في قاعدة بيانات الشعبوية العالمية ، التي تتعقب مستويات الخطاب الشعبوي في خطب ما يقرب من 140 من القادة في أوروبا والأمريكتين.

يُظهر البحث كيف تحول “أردوغان” من رئيس وزراء إصلاحي حذر إلى رئيس استبدادي تغلب على خطبه الصبغة الشعبوية، مثل خطب الزعيم الفنزويلي الراحل هوغو تشافيز.

تمثل رحلة “أردوغان” تحولا أوسع لتركيا ككل، فقد شهدت تزايدا أكبر في الخطاب الشعبوي، من أي خطاب تبناه زعيم من أي دولة أخرى تم تضمينها في الدراسة. يقول سونر جاغابتاي مؤلف كتاب “السلطان الجديد: أردوغان وأزمة تركيا الحديثة”، إن “أردوغان هو مخترع الشعبوية في القرن الحادي والعشرين.. تظهر مسيرته المهنية التأثير الاستثنائي الذي يمكن أن يحدثه شخص على بلد بأكمله”.

أصول “أردوغان” الإصلاحية

وُلد “أردوغان” وترعرع في حي “قاسم باشا” في “إسطنبول”، وهو حي منخفض الدخل لا يزال حلاقه يعرض صورة للرئيس فوق المرايا. “عمل أردوغان على فتح آفاقنا”، هكذا يقول مالك محل الحلاقة يسار آيهان، الذي لا يزال ودودًا مع “أردوغان”، مضيفا: “نحن الأتراك السود، لم يكن لدينا أي احترام للذات قبل أن يُظهر لنا أردوغان أننا قادرون على الوقوف أمام الشرطة الفاسدة التي تتلقى الأموال والرشاوى من السياسيين الذين اعتادوا مضايقتنا من أجل المتعة. لقد غير كل شيء “.

لقد تم طرد أسلاف “أردوغان” من مناصبهم أو حتى إعدامهم في انقلابات عسكرية. ومع ذلك، بدا أن لـ”أردوغان” مصيرًا مختلفا عندما تولى منصبه كرئيس للوزراء في عام 2003، كزعيم لحزب “العدالة والتنمية” الجديد والشامل.

وتحت إشراف “أردوغان”، قدمت تركيا نفسها كمرشح جاد لعضوية الاتحاد الأوروبي، تتسابق لتلبية معايير مثل إلغاء عقوبة الإعدام. كانت خطبه خلال ولايته الأولى في المنصب خالية من الخطاب الشعبي. وقال أمام ندوة دولية للديمقراطية في عام 2004: “لا ينبغي لأحد أن يحاول تشكيل المجتمع من رأس الطاولة.. الديمقراطية هي حوار التسامح والمصالحة. بدلاً من الديمقراطية الغريبة الموجودة لدينا في تركيا، يجب التأسيس للتعددية والوئام والتسامح”.

بدا رئيس وزراء تركيا وكأنه ليبراليا يحترم حقوق الأقليات، حتى أنه بدأ محادثات سلام مع حزب العمال الكردستاني. وقال في “ديار بكر”، وهي مدينة كردية، في عام 2005: “الأتراك والأكراد والشركس والأبخازيون واللاز… ينبغي أن يعلم الجميع أننا لن نتراجع عن الخطوات التي اتُخذت ووصلت بتركيا إلى حيث نحن اليوم”، مضيفا: “لن نترك التقدم الديمقراطي ينزلق من بين أيدينا”.

أعطى باحثو “الشعبوية” مثل هذه الخطب التي ألقاها “أردوغان”، ترتيبا جعلته يقع في نفس نطاق قادة غرب أوروبا المعاصرين، مثل جاك شيراك في فرنسا وتوني بلير في المملكة المتحدة.

الإسلاموية والقومية

نائب رئيس وزراء “أردوغان” خلال فترة ولايته الأولى التي انتهت في عام 2007 عبداللطيف شنر، قال إن “سنوات حكم أردوغان الأولية كانت نوعًا من التدريب المهني الذي ركز فيه على كسب ثقة الأتراك خارج قاعدته”.

أما فترة ولايته اللاحقة، فقد كشفت عن سياسي أكثر حرفية وثقة في نفسه، ماهر في التلاعب بأجهزة الدولة. إن التزام “أردوغان” بدفع تركيا نحو نادي الدول الأوروبية، هو ما أعطاه غطاءً لتفكيك الضوابط الدستورية على سلطته. ولتعزيز محاولة تركيا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ساعد البرلمان رئيس الوزراء في تحييد الجيش القوي، من خلال تمرير القوانين التي تخضع هذا الجيش إلى السيطرة المدنية.

ساهمت الاستفتاءات التي أُجريت في عامي 2007 و2010 بشأن التغييرات الدستورية، في تكريس حقوق المرأة والعمال، وحققت –من الناحية النظرية- تمثيلا أكثر تناسبا في النظام. ومع ذلك، عززت تلك التغييرات قبضة حزب “العدالة والتنمية” على السلطة، وبشرت بعهد جديد من المحافظين الدينيين بدا أقل توافقًا مع الديمقراطية العلمانية الليبرالية.

ويقول “جاغابتاي”: “كان أردوغان يعمل كما لو أنه معلم شاورما.. جذبنا إليه، ثم عمل بثبات ومنهجية، وأخذ شرائح رقيقة من الديمقراطية التركية واحدة تلو الأخرى، ثم نزع طبقة الحرية والعلمانية التركية كلما استطاع أن يفعل ذلك”.

طوال هذه الفترة، تبنى “أردوغان” موقفا أكثر عدوانية تجاه خصومه في الجيش، الذي بدأ يصوره على أنه قوة فاسدة ومشينة. وقال أمام حشد في إسطنبول قبل أسبوع من الاستفتاء المثير للجدل عام 2010: “لقد أرادوا خنق الإرادة الوطنية.. قالوا إن الناس يعملون لصالح الدولة، وليس العكس. العلاقة الوحيدة التي تربطهم بالمواطن هي كقائد بدلا من أن يكون خادم”.

بعد أكبر فوز لحزب “العدالة والتنمية” في انتخابات عام 2011، وقف “أردوغان” على شرفة مقر حزبه في “أنقرة”، وقال أمام الحشد: “انتهى طغيان النخبة “. وأعلن أن تركيا قد قلبت “صفحة جديدة” لتجنب وصول “المجرمين الذين انشقت توجهاتهم عن إرادة الله وإرادة الشعب” إلى الحكم. ويبدو أن هذا الخط، الذي يدمج إرادة الله وإرادة الشعب، يكرس السمة المميزة الناشئة لـ”الشعبوية الإسلاموية والقومية” التي انتهجها “أردوغان”.

وجد الباحثون الذين عملوا على تحليل ثماني خطب خلال هذه الفترة -بين عامي 2007 و2014- أن هذا النوع من الخطاب المتصاعد لم يكن موجودًا دائمًا في تصريحات “أردوغان”. وضعته النتيجة الإجمالية خلال هذه الحقبة في نفس الفئة التي احتلها في ذلك الوقت قادة “شعبويين إلى حد ما” في السلطة، مثل سيلفيو برلسكوني الإيطالي والمجري فيكتور أوربان.

لكن عداء “أردوغان” تجاه خصومه كان آخذا في التعمق، داخليا وخارجيا. كان زعماء أوروبا يعرقلون عملية انضمام الدولة ذات الأغلبية المسلمة إليهم. وانطلاقا من غضبه من قرار المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان عام 2005 بتأييد الحظر الفرنسي على النقاب الإسلامي، تزايدت شكوك “أردوغان” في أن يكون لـ”أنقرة” مستقبل في الاتحاد الأوروبي.

على نحو متزايد، رأى “أردوغان” أن ساحة اللعب في العلاقات الدولية غير متكافئة. وبخيبة أمل من عجز المجتمع الدولي عن حل النزاع العربي الإسرائيلي، بدأ “أردوغان” يدعو إلى “إعادة هيكلة وتجديد” كاملة للأمم المتحدة. بعد أن خرج “أردوغان” من مناظرة “دافوس” الساخنة مع الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز عام 2009 حول النزاع في غزة، عاد إلى وطنه لاستقباله كبطل.

بعد ذلك، أصبح رئيس الوزراء غير متسامح بشكل متزايد تجاه المعارضة في الداخل، وقد وضعت حدود استبداديته وسلطويته تحت الاختبار، في رده على احتجاجات حديقة “جيزي بارك” في عام 2013. قوبلت المظاهرات، التي بدأت في “إسطنبول” قبل أن تنتشر في جميع أنحاء البلاد، بقمع الدولة الوحشي، حيث توفي 22 متظاهراً في أعمال العنف التي تلت ذلك، وتم اعتقال حوالي 5000 آخرين.

لقد كان هذا بمثابة مقدمة لأحدث فصول قيادة “أردوغان”، وأكثرها شعبوية، وقد بدأ هذا الفصل عندما انتخب رئيسًا في عام 2014.

تصاعد خطابه الشعبوي

كانت خطب “أردوغان” منذ توليه الرئاسة، خاصة بعد محاولة الانقلاب في عام 2016، أكثر الخطب شعبوية في مسيرته المهنية. وجه “أردوغان” الجزء الغالب من غضبه إلى أعدائه المتصورين في الداخل. لكن “أردوغان” شحذ أيضا انتقاداته للخصوم الأجانب، وبدأ يشكو من أن تركيا تعرضت للخيانة من النظام الدولي.

وقال “أردوغان” أمام حشد في “بورصة”، في أكتوبر 2016: “تجرب أوروبا دائمًا كل خدعها، من أجل استبعاد تركيا من مقعدها على الطاولة، ومع ذلك فإنهم يطالبوننا بدفع الأموال”. وأضاف: “لن نسمح بهذا الوضع النفاقي الحالي”. وخلال أزمة الديون والعملة في العام الماضي، والتي انهارت خلالها الليرة التركية، ألقى “أردوغان” باللوم على القوى الأجنبية التي “تختبئ وراء المضاربة في أسعار العملة ولوبي أسعار الفائدة”.

لقد عزل “أردوغان” الأقليات، مثل الأكراد، بعد تصاعد الصراع العسكري مع حزب العمال الكردستاني والجماعات المتحالفة معه في سوريا. وقد أصبح أكثر جرأة على الساحة العالمية، حيث دخل في خصومة وتنافس مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وولي العهد السعودي محمد بن سلمان ، على اعتبار أنهما أحدث أعداء يسعيان لإضعاف تركيا.

وضعت تحليلات خطابات “أردوغان” في الفترة التي سبقت إعادة انتخابه العام الماضي، الرئيس التركي في نفس المرتبة التي احتلها زعماء شعبويين إلى أقصى حد في أمريكا اللاتينية، مثل نيكولاس مادورو الفنزويلي وإيفو موراليس من بوليفيا.

عززت حالة الطوارئ التي فرضها الرئيس بعد عامين من محاولة الانقلاب قوته. فقد أكثر من 160 ألف عضو من القضاء والأكاديميين والمعلمين والشرطة وموظفي الخدمة المدنية، وظائفهم في عمليات التطهير الحكومية، وتم إغلاق وسائل الإعلام المعارضة والناقدة. سجنت تركيا عددًا أكبر من الصحفيين من أي دولة أخرى في العالم، وانخفضت في تصنيف الديمقراطية الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية؛ حيث تصنفها الوكالة الدولية الآن على أنها “غير حرة”. وتعني التغييرات الدستورية التي أجراها “أردوغان”، أن بإمكانه أن يبقى في منصبه حتى عام 2029.

الدعم الشعبي

في ملعب في مدينة “ريزي” المطلة على البحر الأسود، التي أمضى “أردوغان” طفولته فيها، كانت النساء يشاهدن أطفالهن تحت ظل لوحة ضخمة لرئيسهم. قد يشكو النقاد من أن السمة المميزة لـ”أردوغان”، وهي القومية الشعبوية اليمينية، دمرت تركيا، لكن في نظر العديد من الأتراك السود، لا يزال هو “المدافع الأصلح للبلاد”.

يقول مزارع الشاي ديليك كاراكا، وهو يشير نحو اللوحة: “إنه يقف إلى جانب الفقراء، الأشخاص الذين لم يحالفهم الحظ والقدر في حياتهم. قلوبنا معه. الأمر الأكثر أهمية هو أنه يبقى قوياً لحماية تركيا “.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد