مراجعة: شورش درويش، الكتاب: مقدّسات ومحرّمات وحروب – ألغاز الثقافة، تأليف: مارفن هاريس، ترجمة: أحمد م. أحمد، الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تاريخ النشر: 2017، مكان النشر: بيروت – لبنان، عدد الصفحات: 288
المحتويات: مقدّمة وتمهيد.. الأمّ البقرة.. محبّو الخنزير وكارهوه.. الحرب البدائيّة.. الذكر الهمجيّ.. مهرجان الشتاء.. عقيدة الأحمال الوهميّة.. المخلّصون.. سرّ أمير السلام.. عصيّ المكانس ومجمع السحرة.. هوس السحر الأكبر.. عودة السحر.. خاتمة
يبحث هذا الكتاب وفق نظرة أنثروبولوجيّة العقائد لدى الأمم والشعوب البدائية، أو العقائد البدائية لدى الأمم عبر فصول قد تبدو للولهة الأولى منفصلة عن بعضها إلّا أنها سرعان ما تكشف عن ترابط عضويّ بين الفقرات والفصول.
مارفن هاريس الأستاذ والمسؤول السابق في قسم الأنثروبولوجيا بجامعة كولومبيا والمحاضر في أغلب الجامعات الأمريكيّة يحاول عبر كتابه هذا الإجابة عن الكثير من المسائل الخلافيّة والعقائدية التي تمس الحضارة الإنسانيّة بشكل مباشر، ولعلّ الرابط بين موضوعات الكتاب هو محاولة تفسير العقائد المرتبطة بالمقدّسات والمحرمات والحروب أو ما يطلق عليه “ألغاز الثقافة”، كقداسة البقرة في الهند، وكراهية الخنزير في المعتقدين الإسلامي واليهودي، والحروب البدائية، ومسائل السحر، والمخلّصون، وغير ذلك من عقائد تفسّر إحداها الأخرى وفق خطّ منهجي ثابت ومترابط على الرغم من اختلاف موضوعات الكتاب.
مقدّمة وتمهيد
تبدأ فكرة الكتاب من تساؤل حول تحريم الهندوس ذبح الأبقار، للتناسل من هذا السؤال أسئلة أخرى. هنا يكمن أحد الأسباب التي تبرّر لماذا لا يكفّ هذا الكتاب عن الانتقال من موضوع إلى آخر من الهند إلى الأمازون (1).
لذلك فإن الكتاب وفقاً لتعريف خطّه المنهجي، يقوم على أن موضوعاته مبنيّة بعضها فوق بعضها الآخر، وعلى أنها ذات مفعول تراكمي (2).
يبحث الكتاب في أنماط من الحياة تبدو لاعقلانية وغير قابلة للتفسير والتي ظهرت بين الشعوب الأميّة أو البدائيّة، وفي المجمل وبالكثير من الثقة يزعم الكاتب إمكانية تفسير كل ألغاز الثقافة البدائية التي يظن العلم والمنطق أنها مبهمة لأن الحياة الإنسانيّة ليست نتاج نزوة أو محض عشواء وفق تعبيره.
الأمّ البقرة
ترمز البقرة لدى الهندوس إلى كلّ شيء حيّ، فكما مريم بالنسبة إلى المسيحيين هي أمّ الله كذلك بالنسبة إلى الهندوسي البقرة هي أم الحياة.
وفق تقارير لخبراء تشكّل البقرة السبب الرئيسي للجوع والفقر في الهند لجهة عدم فاعليّة الأبقار وانعدام إنتاجيتها ذلك أنها تقاسم البشر إنتاجيّة الأراضي والموارد الغذائية. إلى ذلك تسبّبت الأبقار في مشكلات مع المسلمين حيث يرى الهندوس المسلمين “قتلة أبقار”، فقبل انقسام شبه القارة الهندية إلى الهند وباكستان، أصبحت الانقسامات الطائفيّة الدامية الرامية إلى منع المسلمين من قتل الأبقار من الحوادث السنويّة (3).
استنكر غاندي تلك النزاعات إلّا أنه تحمّس لحب البقرة، وطالب بالحظر الكامل على ذبحها (4)، فيما لا تزال مسألة ذبح البقرة مادة للصراعات الداخليّة ليس بين المسلمين والهندوس فحسب، بل بين حزب المؤتمر الحاكم وبين الفئة الهندوسيّة المتعصّبة.
تتناول دراسة أمريكيّة النظام الإيكولوجي (البيئي) والتي تتحدّث حول أساليب يمكن للمراقبين في المجتمعات الصناعيّة عالية الطاقة أن تهمّشاه أو تحط من قدرها والحديث هنا عن الثيران في الحياة الزراعيّة الهندية، والتي تأخذ حيّزاً في الدراسة لجهة الاعتماد على الوسائل الصناعيّة في الزراعة في الولايات المتحدة وما يستتبع ذلك من إتلاف للبيئة الزراعية (زيوت ووقود وأسمدة كيميائية ومبيدات، تعتمدها في الإنتاجيّة العالية)، وفي واقع الأمر يُحرق من السعرات الحرارية عديمة الفائدة ودخان في الولايات المتحدة خلال يوم واحد من الاختناقات المرورية أكثر مما يستهلك من جهة الأبقار خلال عام كامل.
ليس في مقدور مزارعي الهند استخدام تلك الوسائل التي تشكّل عبئاً ماليّاً، وبعيداً أو قريباً من موضوع قداسة البقرة تقدّم الأبقار والثيران بدائل منخفضة الطاقة في مقابل الجرارات ومصانعها (5).
في إزاء ذلك يرى الكاتب احتمال أن يكون التحريم الواقع على الذبح وأكل العجل نتاج اصطفاء طبيعيّ يتفق وحجم الأجساد الصغيرة لسلالات الأبقار الدربانيّة، حيث يضطرّ المزارعون الفقراء فترة الجفاف والمجاعة إلى قتل ماشيتهم أو بيعها إلّا أن ذلك يكون كمن يحفر قبره بيده، إذ أنه في حال تم تجاوز فترة الجفاف فكيف للمزارع القيام بأعمال الزراعة ليدلّل الكاتب على أمثلة المجاعة التي اجتاحت إقليمي البنغال وبيهار والتي علّق عليها مراقبون بالقول “كان بؤس الناس أبعد من الخيال”.
بالعودة إلى غاندي، نصير البقرة، يسوق الكاتب أمثلة عن سوء معاملة الأبقار وفق نمط الادخار البروتستانتي الغربي القائم على فكرة استنزاف البقرة، حيث يعلّق غاندي بالقول: كيف تجوّعها حتى آخر قطرة حليب منها (6). كان غاندي يعرف دور البقرة في الصراع المركزي لدفع الهند إلى مرتبة الأمّة الحقيقيّة، فقد مضى حبّ البقرة جنباً إلى جنب مع الزراعة ضيّقة النطاق (7).
يسجّل الكاتب في ختام هذا الفصل ملاحظة تحمل مقداراً من السخرية عند المقارنة بين البقرة الهنديّة المقدّسة، والبقرة الأمريكيّة المقدّسة الواقعيّة: إذا كان بودّك أن ترى بقرة مقدّسة واقعيّة فاخرج والق نظرة على سيارة العائلة.
محبّو الخنزير وكارهوه
وفق الاعتقاد اليهودي فإن الخنزير نجس ويسبّب الدنس لمن يتذوّق لحمه أو يلمسه، بعد 1500عام قال الله لنبيّه محمّد القول نفسه، على الرغم من أن الحقيقة تقول بقدرة الخنزير على تحويل الحبوب والدرنيّات إلى دهون عالية الدرجة وبروتين بكفاءة تفوق كفاءة أي حيوان (8).
وفيما يشبه وجهي العملة المختلفين يشير الكاتب إلى الوجه الآخر لكراهية الخنزير، ففي إزاء النبذ في الدينين نجد تقديساً لهذا الحيوان في نيو غينيا وجزر الميلانيزية التي ترفع من شأن الخنزير إلى درجة القداسة إذ أنه يقدّم كأضحية وقربان للأسلاف وأنه من الأطعمة التي تقدّم في المناسبات الهامّة.
يرتبط نبذ هذا الحيوان في الدينين الإسلامي واليهودي بقذارة الخنزير وأنه بتمرّغ في القذارة والبول، على الرغم حدوث ذات الأمر مع الأبقار، ولأجل ذلك قام الحاخام موسى بن ميمون طبيب صلاح الدين الأيوبي بإسباغ بعدٍ واقعيّ على مسألة النبذ، حيث قال أن الربّ قصد من وراء الحظر نظاماً صحّياً شعبيّاً. لأن للحم الخنزير “أثراً ضارّاً وسيئاً في الجسم” (9).
في القرن التاسع عشر تمّ ربط تناول لحم الخنزير بداء “الشعريّة” فاستبشرت الأصوليّة اليهوديّة بهذا الرأي الموافق لتفسير ابن ميمون، إلّا أنه تم نقض هذه الفكرة الخاطئة وذلك في حال تمّ طهي اللحم بشكل جيّد، زد على ذلك أن لحم البقر غير المعد جيداً يسبب العديد من الطفيليات. بيد أن الكاتب يتفق مع ابن ميمون لجهة محاولته تفسير الأمر وفق بعد طبّي، إلّا أنه يبقى مع ذلك عقل طبيب ضيق الأفق ومحدود بحدود الاهتمام بالأمراض الجسديّة، ليذهب الكاتب إلى القول أبعد من الأسباب التي ذكرها بن ميمون من خلال توكيده على أن القرآن والتوراة دانا الخنزير بسبب أن تربيته تشكّل خطراً على سلامة المنظومة البيئية الأساسيّة في الشرق الأوسط (10)، ففي المناطق القاحلة لم يكن في مقدور بني إسرائيل تربية الخنزير التي تحتاج تربيته إلى حياة أشبه بحياة مزارعي القرى أو إلى شبه استقرار، كما أنه يحتاج إلى بيئة حراجيّة ونهرية ظليلة، إضافة إلى أنه يقتاد على الحبوب ولا يكتفي بالأعشاب ما يجعله منافساً للبشر على الموارد الغذائية.
الحرب البدائيّة
في هذا الفصل يذهب المؤلف إلى القول بأنه لا يمكن تفسير الحرب أو الإبادة الذاتيّة لمجرّد أن الإنسان مولع بالحرب وعدائي بالغريزة، أو لأنه يبحث عن الابتهاج لرؤية الدماء المسفوكة.
في الحروب البدائية تسيطر الدوافع المبهمة واللامنطقيّة على التفسيرات الحالية للصراعات، وبما أن للحرب عواقب مميتة على المشاركين فيها يعتبر الشك في أن المقاتلين يعرفون السبب من وراء قتالهم ضرباً من الوقاحة (11). تفسير الحرب لدى المحاربين البدائيين مرتبط بما اختبروه من المشاعر والدوافع الذاتيّة قبل اندلاع الخصومات كحملة صيد الرؤوس عند قبيلة الجيفارو لانتزاع روح العدو. فالميول الغريبة هذه واقعية للغاية لكنها تعتبر من نتائج الحرب لا من أسبابه، وفي هذا يذهب الكاتب إلى تشخيص حالة قبيلة المارينغ بنيو غينا التي يعتبر سبب ذهابها إلى الحرب من منطق الانتقام من الأعمال العنيفة التي يتم الادعاء بحدوثها، ليترّكز كثير من الاهتمام على سؤال ما إذا كان القتال والتجاور الإقليمي بين المارينغ ينتج مما يطلق عليه على نطاق واسع “الضغط السكّاني” (12).
وعليه لا يكون الصراع البدائي نزويّاً ولا غرائزياً، بل هو إحدى تقنيات الخفض التي تساعد في إبقاء عدد السكان في حالة من التوازن البيئي بالنسبة إلى المنطقة (13).
النتيجة المستقاة من دراسة الحرب البدائية عند تشخيصها عبر اتخاذ المارينغ كأنموذج يفيد في أن الحرب هي الثمن الذي يفترض على المجتمعات البدائية أن تدفعه لأجل تحمّل تكاليف تربية الأبناء، وبالتالي يمكن فهم بأن ما ينجم عن الحرب من عنف دموي ما هي إلّا نتائج، وأن الحرب هي جزء من إستراتيجية التكيّف المرتبطة بأوضاع تقنيّة وسكانيّة وبيئيّة محدّدة ولا نحتاج إلى غرائز وهميّة خاصة بالقاتل أو دوافع غامضة ومتقلّبة كي نفهم السبب الذي يكمن وراء الشيوع الواسع للقتال المسلح في تاريخ البشريّة (14).
الذكر الهمجي
لأجل تفسير التراتبية الجنسية البشرية ثمّة نظريات كثيرة إلّا أن الكاتب يميل إلى تبني رأي أنصار الحركة النسوية القائل بأن “التركيبة البنويّة ليست حكماً لا رجعة فيه” (15)، أي أن الاختلافات الفطرية لا تفسر التوزيع غير المتكافئ للامتيازات والصلاحيات بين الرجال والنساء ضمن المجالات المنزلية والاقتصادية والسياسية.
وسائل البشر في التكيّف البيولوجي الأساسيّة بحسب الكاتب هي الثقافة، لا التشريح والفروق العضوية بين الجنسين.
ساهمت الحروب في تدمير النظام الأمومي، مع أن النساء قادرات نظرياً على مقاومة بل حتى إخضاع الذكور، غير أن الرجال تربّوا في قبيلة أو قرية يمثلون نوعاً آخر من التحدي حيث تتحوّل مهمة النساء إذاك إلى رعاية الرجال الشرسين، وبالتالي كلّما كان الرجل أشرس، ازدادت الحرب، وكذلك أصبحوا أكثر عدوانية جنسياً، وازداد استغلال الإناث وسادت حالة تعدّد الزوجات للرجل الواحد (16).
يستخلص الكاتب بعد دراسته أنموذج سكان قرية اليانومامو البدائية إلى نتيجة مفادها بإن الرجال الشوفينيين (المتعصّبين) إزاء الإناث بأنهم أكثر عدوانية وشراسة نظراً لدور الذكر العدواني بطبيعة الحال. إلا أن العلاقة بين الجنس والعدوانية ضيقة اليد (17).
في ختام هذا الفصل يذهب إلى تصحيح مفهوم أنصار الحركة النسوية التي أيّدها في مقدمة الفصل بالقول: إن التكوين البشري يمثّل حكماً لا رجعة فيه في ظل أوضاع معيّنة، وأن أنماط حياة الذكور الشوفينيين الذين يخوضون حروباً بدائية بأسلحة خفيفة محمولة هي في حالة تراجع وتدهور نظراً لتراجع دور القوة البدنية.
مهرجان الشتاء
ثمّة ميل معروف باسم “ابتغاء المكانة الرفيعة” حيث تميل الناس إلى الاستحسان والذي يوازي توق البعض الآخر للغذاء، سبق أن وصف فانس باكارد الأمريكيين بأنهم “عبارة عن أمّة من الساعين المتنافسين على المناصب” (18)، إذ ينهمك معظم الأمريكيين مثلاً لتبوء مناصب أعلى في الهرم الاجتماعي بغية إذهال بعضهم الآخر.
هوس الاستهلاك والتبديد الاستعراضي الذي يمارسه الباحثون عن المكانة وجدت صورته الأولى لدى المجتمعات البدائية كما في حالة قبائل هنود حمر من خلال ما يعرف بمهرجان الشتاء لدى الكواكيوتل، وهو هوس ناجم عن أوضاع اقتصاديّة وبيئية محدّدة، وليس ناجماً عن أهواء شخص مهووس. مع هذا المهرجان يبلغ الإسراف حداً كبيراً، ليأخذ المهرجان منحى تنافسي بين زعماء القبائل، إلّا أن حالة التنافس هذه خاضعة لخدمة النظام الاقتصادي العام، وكي تفهم الولائم التنافسيّة بشكل صحيح، يجب أن ينظر إليها في بصفتها مصدراً للمكانة من المنظور التطوّري (19)، وكشكل من أشكال توزيع الثروة المُراكمة.
بيد أنه في المجتمعات التي يسودها التساوي في الحقوق لا وجود لنمط توزيع الثروة هذا، بل يتم ذلك من خلال التبادل الودّي (المقايضة) وهذا يفترض وجود مجتمع لا مال فيه وقائم على المساواة في الحقوق.
إنّ إحلال السعي التنافسي إلى المناصب محل التبادل الودي جعل من نجاة التكتّلات السكانيّة الأكبر وازدهارها في منطقة معينة أمراً ممكناً (20).
عقيدة الأحمال الوهميّة
ظهرت ديانة الأحمال في أشكال ومناطق مختلفة في جزر المحيط الهادئ بعد الحرب العالمية الثانية، وتقوم على الاعتقاد بأن البضائع والآلات والأدوات التي طالما حرم منها السكان المحلّيون في ظل الاستعمار الأوربي ستحلّ على أبناء الديانة وأن عهداً سعيداً سيحل وستعود معه أرواح الأسلاف.
هذه المرحلة مرتبطة بالمبادلات الاقتصادية في ظل نظام الرجال الزعماء، فالتبادل الحاصل بين السكان المحليين والأوربيين دفعت بعض الزعماء إلى توقّع أن تُحمل إليهم المعامل والمصانع بعد أن بدأت المسألة بالأسلاك وأكياس الرز والمعادن والأغذية المعلّبة والأجهزة الإلكترونية.
بالطبع هذا التبشير يقوم به المبشرون والمدراء الحكوميون، كما أن العمل بجد إضافة إلى الآلات ستجعل الازدهار الصناعي يغدق عليهم نهراً من الثروة (21).
ساق المبشّرون الغربيون فكرة الأحمال إلى المستعمرات وطوّروا نظرية مفادها أن من يعمل بجد سيحظى بالأحمال، لكن ما كان عصيّاً على الاستيعاب هو وجود رابط دقيق بين الثروة التي يتمتّع بها الأمريكيون والأستراليون وبين السكان المحليين. فلولا انخفاض أجر عمل السكان المحليين، وتجريد السكان المحليين من أراضيهم ما كانت القوات الاستعماريّة لتصبح بهذا الغنى الشديد (22).
كان للسكان المحليين الحق في المنتوجات الصناعّة التي لم تصلهم وإن لم يمتلكوا ثمنها، فهم في الأساس قد ساهموا في انتاجها من خلال عملهم، وبالتالي تصبح تلك المنتجات التي لم تصلهم التعبير الجلي عن عقيدة الأحمال الوهميّة التي بقوا في انتظارها كما انتظروا عودة أرواح الأسلاف.
المخلّصون
كعادته في ربط الموضوعات وفق شكل تسلسلي فإنه ثمّة تشابه بين عقيدة الأحمال الوهميّة وبين المعتقدات المسيحيّة المبكّرة، ذلك أن يسوع تنبّأ بسقوط الشر واتحاد الأموات والأحياء في مملكة القديسين الجديدة الكاملة. إن لنمط غيبي مكرّس لأجل السلام كهذا إلا أن يكون ناتجاً عن شروط مادّية.
ظهرت المسيحيّة بين اليهود القاطنين في فلسطين وكان يسوع المخلّص هو الفادي بين الأتباع الذين كان جلّهم من اليهود، قبل ذاك زعم داوود، مؤسس أوّل إمبراطوريّة يهوديّة، بأنه في شراكة مع الرب اليهودي يهوه.
أطلق اليهود على داوود اسم المخلّص (بالعبريّة mashisa ، والمخلص هنا يحمل كل معاني القداسة والقوة الدينية.
على غرار عقيدة الأحمال الوهمية، وُلدت ثقافة المخلّص المنتقم وأعيد إنتاجها باستمرار خارج الصراع الهادف لإسقاط المنظومة الاستغلالية للاستعمار السياسي والاقتصادي (23).
في فترة الحكم الروماني برزت مسألة حرب العصابات في المقاطعات الفلسطينية، بيد أن الأناجيل فشلت في تفسير علاقة المسيح بحركة التحرر اليهودي، إلى ذلك فقد عانت فلسطين الأعراض التقليديّة والاقتصادية والسياسية كلها لسوء الحكم الاستعماري وكان اليهود الذين احتلوا مواقع مدنيّة أو دينيّة مرموقة دمى أو عملاء (24)، ولتذهب الحماسة الشعبية إلى المثال الحربي الخلاصي أبعد من الرغبة في رؤية القوميين اليهود يحلّون محل الدمى الأجنبيّة (25).
وكحال عقيدة الأحمال الوهمية ذهبت اليهودية إلى عالمها الغيبي حيث اليهود سيحكمون والرومان سيخدمون، والفقير سيصبح غنياً والمريض سيشفى والميّت سيعود إلى الحياة.
فشلت محاولات اليهود في استعادة مملكة داوود عبر نمط الحياة الخلاصي _ الحربي للتخلّص من حكم الرومان إلّا أن فشل الثورة اليهودية التي يعود سببها في الأساس إلى نظام الاستعمار الروماني أفضت إلى ظهور الصورة المناقضة للمخلّص الحربي المنتقم وهي صورة المخلّص المسالم والتي ظهرت بعد 180 عام من مسيرة الحرب ضد روما.
سرّ أمير السلام
يثير الكاتب سؤالين حول “متى” تكلّم المسيح، والأهم “ماذا تكلّم” المسيح، ليحاول الإجابة عن هذا السؤال من خلال حلٍّ عملي يتجلّى حول حالة القطيعة المفترضة بين فكرتي المخلّص الحربي والمخلّص المسالم، ليفترض أن تعاليم المسيح الواقعية لم تمثّل انقطاعاً جوهرياً عن التقاليد الخلاصية الحربية اليهودية.
ثمة صلة وثيقة بين تعاليم المسيح الأصلية وبين يوحنّا المعمدان الذي تجوّل في الأراضي الوعرة لوادي الأردن محرّضاً الفلاحين والعبيد مثيراً الاضطرابات ضد الرومان وعملاؤهم اليهود، وليذكّر الكاتب أن توقيف يوحنا ومن ثم قتله لم يأتِ نتيجة الصورة الخلاصية الحربية _ السياسيّة التي كانت غائبة آنذاك، بل جاء على خلفية انتقاده زواج هيرودس من هيروديا ورغبة الأول في الانتقام وحسب.
ثمة محاولة جدية لدى الكاتب في نزع القشرة المسالمة عن المسيحية الأولى عبر الاعتماد على مخطوطات البحر الأحمر “لفائف قمران” التي أوضحت مدى تأثر اليهود بشكل التحريض المسيحي الذي قاده يوحنا المعمدان، كما ان الكاتب يركّز على جوانب شكليّة كألقاب تلاميذ المسيح التي كانت ألقابهم تحمل معانٍ حربية كيعقوب ويوحنا واللذان كانا يدعا “بوانيرجس” والتي تعني” أبناء الرعد” أو بحسب ترجمة أخرى “العنيف، الأشخاص الغاضبين”، إلى جانب ذكرهم في الرواية الإنجيلية حين أرادا تدمير قرية سمارتيان برمّتها لأن أهلها لم يرحبوا بالمسيح، ويسوق الكاتب العديد من الأمثلة المشابهة حول هذه الجوانب الشكليّة الدالّة.
في المحصّلة تحوّلت المسيحية التي هي دين الجماعات الحضرية النازحة، وذلك نتيجة تركّزهم في المدن والمناطق الحضرية، إلى ” دولة ضمن دولة” بعد تغلغلهم داخل الطبقة الرومانية العليا، وبنائهم لخزائن مالية مستقلّة لتصبح الكنائس مصدر تهديد للقانون والنظام الرومانيين.
يبتعد الكاتب عن السرد الخاص بالأسباب التي أفضت إلى تحوّل الإمبراطورية الرومانية إلى المسيحية، إلّا أنه يكثّف الأمر ويشرحه على نحو مبسّط بالقول: عندما اتخذ الإمبراطور قسطنطين تلك المبادرة المهمّة (اعتناق المسيحية) لم تعد بعد ذلك المسيحية ثقافة المخلّص المنتظر المسالم (26). فقد لاحت للإمبراطور، فيما هو وجنوده في جبال الألب وفي طريقهم إلى روما، علامة النصر حين رأى الصليب وسط قرص الشمس وقد كتب على الصليب العبارة التالية: بهذه العلامة سوف تنتصر.
تحت هذه الراية الجديدة والغريبة انطلق جنود قسطنطين للفوز بالنصر الحاسم. استعادوا الإمبراطورية وضمنوا بهذه الوسيلة أن الصليب المخلّص المسالم سوف يشهد على موت ملايين لا حصر لها من الجنود المسيحيين وأعدائهم وصولاً إلى القرن الحالي (27).
عصي المكانس ومجمع السّحَرة
تذهب التقديرات إلى أن 500 ألف شخص أدينوا بالسحر وأُحرقوا حتى الموت في أوربا بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر، وقد كان التعذيب يطال المتهمون بالسحرة للاعتراف بأنهم كانوا يطيرون باستخدام عصي المكانس والاجتماع بالشياطين، وقد كان التعذيب وحشيّاً وفوق طاقة احتمال المتهمين، ونتيجة لفرط العذاب كان المتهمون يقرّون بالتهم ويبلّغون عن آخرين لا صلة لهم بموضوع السحر، وقد تعددت وسائل التعذيب: وضعية المقلوب، الرّف، اللولب، الكرسي بالنتوءات الحادّة التي تسخّن من الأسفل، الأحذية المربوطة بحجارة الطوب، الأحزمة المزوّدة بالإبر، الحديد المحمّى، الكمّاشة الحامية، التجويع والحرمان من النوم.
يفترض أن لكل مجتمع في العالم نمطاً ما من الأفكار السحريّة، لكن جنون السحر الأوربي كان يفوقها شراسة، كما انه استمر لمدة طويلة وأوقع ضحايا أكثر من أي ظاهرة أخرى مشابهة (28).
قبل عام 1000 بعد الميلاد لم تقدم الكنيسة على إعدام أي شخص بتهمة السحر، وفي عام 1000 للميلاد أكّدت الكنيسة رسمياً مسألة ركوب الساحرات بأنه عمل من أعمال الشيطان وليس من قبل الأشخاص، وبعد ذلك التصريح ب 50 عاماً اعتبرت الكنيسة القائلة بالسحر الواقع في الأحلام بأنه لا يخضع الأشخاص للمساءلة عما كانوا يفعلونه في أحلامهم وأن عقوبة الحالم تقتضي النبذ لا الحرق، كما لم تكن جريمة الهرطقة بعد واقعة على هؤلاء على اعتبارها جريمة السحر هي من نسج الخيال.
مع مرور الأيام اعترى محاكم التفتيش البابويّة الاضطراب بسبب نقص الولاية القضائية على حالات السحر، فتم تطوير نوع جديد من السحر وهو أن الساحرة يمكن لها أن تطير للاجتماع بالشياطين وأن اجتماعاتهم تماثل اجتماعات الهراطقة، ما دفع البابا إينوسنت لإصدار مرسوم بابوي عام 1484 لاستئصال الساحرات في ألمانيا كلها باستخدام السلطة المطلقة للمحققين.
لا يغفل هذا الفصل من الكتاب الدور الكبير للعقاقير في أعمال السحر كالمراهم المعدّة للهلوسة التي كان لها المفعول الواسع في تصوير السحر على أنه حقيقة واقعة، فالدراسات أوضحت مقدار التأثير ألحقته تلك المراهم بالمسحورين، لذلك ألقت مراهم الهلوسة الضوء من الميزات الخاصّة بالمعتقد السحري، وبيّن التعذيب انتشار هذه المعتقدات إلى أبعد من دائرة المستخدمين الفعليين للمراهم. لكن لا يزال ثمة لغز في شأن موت خمسمئة ألف شخص بسبب جرائم ارتكبوها في أحلام أشخاص آخرين (29).
هوس السحر الأكبر
شاعت الانتفاضات المسيحيّة الحربيّة في أوربا في القرنين الثالث عشر والسابع عشر، وفي فلسطين أيضاً في العهدين اليوناني والروماني، فكان الإصلاح البروتستانتي نتيجة ثانوية لهذه الاضطرابات.
يفسّر الكاتب مسألة هوس السحر بأنه كان مبتدعاً وبرعاية الطبقة الحاكمة كوسائل لقمع هذه الموجة الخلاصية المسيحية (30). لذلك صادق البابا في فترة لاحقة على استخدام التعذيب للتخلّص من هوس السحر بعد أن فقد هذا الهوس دوره في المجتمعات الأوربية.
مع تفاقم الفقر والاغتراب تعلّق الناس بالتنبؤات المتعلّقة بالمجيء الثاني للمسيح، وانتشر التفكير التطهري الخلاصي والحركات الدينية المختلفة كحركة الجالدين لأنفسهم التي كانت تمارس جلد النفس بشكل موغلٍ في العنف، ما حذا بمحكمة التفتيش إحراق زعيم الحركة كونراد شميد قبل إن يتمكّن من إتمام عمله.
كانت الحرب الصليبيّة أو المقدّسة الرامية إلى استرجاع أورشليم من أيدي المسلمين سبيلاً للتخلّص من الفقراء ومثيري الشغب والاضطرابات الدينية الداخلية، الأمر الذي أفضى لاحقاً إلى سير أوربا بثبات نحو حركة الإصلاح البروتستانتي الوشيك.
وتدليلاً على العلاقة بين ما يورده المؤلف من ملاحظات فإنه يقر بوجود علاقة بين جنون السحر وتطوّر النزعة الخلاصية الأوربية (31).
وعن هوس محاكم التفتيش بقمع السحر وجنونه بعد أن تمّ ربط السحرة بالمهرطقين يخلص إلى نتيجة مؤدّاها هو أن السحر كان جزءاً مكمّلاً للدفاع عن البنية المؤسساتية (32)، وعلى الرغم من التناقض بين هوس السحر والنزعة الخلاصية المسيحية، فقد كان السحر بمنزلة نزعة خلاصية متطرّفة بشكل معكوس. كان هوس السحر الطلقة السحريّة لطبقات المجتمع الثرية والقوية. وذلك كان سرّه (33).
عودة الساحرة
عاد السحر كمصدر للإثارة على الرغم من معاناته السخرية واعتباره خرافة، فترافقت عودته مع توسّع العلم والتكنولوجيا، مع تطوّر نمط حياة يطلق عليها تسمية “الثقافة المضادة” (34)، التي تعتمد على المشاعر العفوية والتصوّر، أي الهروب من “الموضوعية” وهذا يعين الاعتماد على الوعي من خلال إظهاره وإثارته وتبديله وتوسيعه أو أي شيء يطرأ على الوعي باستثناء جعله موضوعياً.
تحتفي الثقافة المضادة بالحياة الطبيعية المفترضة للناس البدائيين (35)، لنرى مناصري هذه الثقافة يتوقون ليكونوا أفراداً في قبيلة يرتدي أفرادها القلائد والخرز، ولتصبح حبوب الهلوسة مدخلاً للعالم الطبيعي غير الموضوعي على سبيل المثال. كما أن أعضاء هذه الثقافة يرون في التكنوقراط، الفني الغامض المكرّس للمعرفة الخبيرة المنتج الأكثر انحطاطاً المعبّر عن النظرة العلمية.
يعتقد القائلون بالثقافة المضادة أن الوعي الفائق يمكن أن يجعل العالم أكثر صداقة وأكثر قابلية للعيش (36).
تعريفاً، إن الثقافة المضادة هي نمط حياة الشباب الذين تلقوا تعليماً جامعياً، والمبعدين عن الطبقة الوسطى. المبعدون بشكل خاص “يستمرون في خدمة رفات ثورة البروليتاريا” والشباب السود المحاربين.
يرى الكاتب أن الثقافة المضادة أو كما تسمّى بالوعي الثالث لا تعارض المنتجات التكنولوجية للبحث العلمي “الموضوعي” كالهاتف ومحطات الإذاعة … لكن هذه الثقافة تعارض كل محاولة لتطبيق المعايير المختبرية في دراسة التاريخ وأنماط الحياة.
كما لا يفوت الكاتب تلخيص ما أراد قوله في هذا الفصل بالقول: إن سحرنا الحديث هو بدعة تثلم وتربك قوى المعارضة، مثل استراحة الثقافة المضادة التي تؤخر تطوّر مجموعة منطقية من الالتزامات السياسية، وهذا هو سبب شعبيتها بين القطاعات الأكثر غنى من سكاننا، ومن أجل ذلك عاد السحر (37).
خاتمة
يبدو أن شخصيات كلينين وهتلر وموسوليني على الرغم من ازدرائهم الخرافات والأساطير الخاصة بالنصرانية المسيحية – اليهودية فإنهم كانوا يتشاركون كملحدين أو علمانيين مع أسلافهم الدينيين.
بالنسبة إلى هتلر كان من المتوجب أن يقوم ألف عام من الرايخ بالتطهر من اليهود الذين يعيشون معهم كما في حالتي السحرة والشياطين، وبالنسبة إلى لينين كان من الواجب أن تقوم أورشليم شيوعية شعارها هو نفس شعار المشاعة المسيحية الأولى: ” إن كل الذين آمنوا كانوا معاً ويملكون الأشياء كلها بصورة جماعية” (38).
والحال، ثمة تهديد بوساطة “الموضوعية” التي تتعلّق بأنماط حياتنا الخاصة، وعليه، لابد من تغيير وعينا الاعتيادي فقد تتحسن إثر ذاك نظرتنا إلى السلام والعدالة الاقتصادية والسياسية، فنحن لسنا بحاجة إلى المزيد من الاهتزازات الغربية وثقافة الأدوية النفسية.
يجب أن نعتبر التوسّع في الموضوعية العلمية نحو ميدان ألغاز أنماط الحياة ضرباً من الالتزام الأخلاقي، وإنه الشيء للذي لم يجرّب على الإطلاق (39).
—-
(1) مقدّسات ومحرّمات وحروب (ألغاز الثقافة) المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات – بيروت – 2017 ص 8
(2) الكتاب: ص 9
(3) الكتاب: ص 19
(4) الكتاب: ص 19
(5) الكتاب: ص 22
(6) الكتاب: ص 30
(7) الكتاب: ص 31
(8) الكتاب: ص 41
(9) الكتاب: ص 42- 43
(10) الكتاب: ص 46
(11) الكتاب: ص 65- 66
(12) الكتاب: ص 69
(13) الكتاب: ص 69
(14) الكتاب: ص 81
(15) الكتاب: ص 87
(16) الكتاب: ص 90
(17) الكتاب: ص 106
(18) الكتاب: ص 111
(19) الكتاب: ص 119
(20) الكتاب: ص 127
(21) الكتاب: ص 134
(22) الكتاب: ص 149
(23) الكتاب: ص 157
(24) الكتاب: ص 158
(25) الكتاب: ص 158
(26) الكتاب: ص 195
(27) الكتاب: ص 196
(28) الكتاب: ص 206
(29) الكتاب: ص213
(30) الكتاب: ص 217
(31) الكتاب: ص 225
(32) الكتاب: ص 228
(33) الكتاب: ص 229
(34) الكتاب: ص 233
(35) الكتاب: ص 235
(36) الكتاب: ص 241
(37) الكتاب: ص 246
(38) الكتاب: ص 249
(39) الكتاب: ص 253
—-
*شورش درويش: كاتب كردي سوري، نشر العديد من المقالات في الصحف العربية والسورية، يكتب في الشأنين السوري والكردي.