1920 – 2025.. تناقص مستوى السياسة في سوريا

محمد سيد رصاص
كانت سوريا، كوحدة جغرافية – سياسية نشأت في كيان سياسي استمر أربعة أشهر في عام 1920، الأكثر توليداً للأفكار السياسية التي انبثقت عنها تيارات سياسية وأحزاب في المنطقة الممتدة من المغرب إلى العراق. فمن الفكر العروبي بآبائه الثلاثة: ساطع الحصري وميشيل عفلق وقسطنطين زريق، إلى فكرة الأصولية الإسلامية التي أخذها حسن البنا من رئيس المؤتمر السوري العام الشيخ رشيد رضا، وإلى فكرة السلفية التي أتت من الدمشقيين محب الدين الخطيب وناصر الدين الألباني، ثم فكرة السلفية الحركية أو التيار الصحوي (السرورية) لدى محمد سرور زين العابدين (من حوران)، والذي زاوج بين فكري محمد بن عبد الوهاب وسيد قطب. ومن السرورية، أخذ الحلبي أبومصعب السوري (مصطفى ست مريم نصار) البذرة لتوليد السلفية – الجهادية. أيضاً، من السورييْن إلياس مرقص وياسين الحافظ ولدت فكرة تلقيح الماركسية بالواقع المحلي، إسوة بالشيوعيين الصينيين الذين قالوا بـ«تصيين الماركسية».
من جانب آخر، يمكن القول إن السياسة السورية أنتجت قامات كبرى مثل سعد الله الجابري ورشدي الكيخيا وفارس الخوري وخالد العظم ومعروف الدواليبي ومصطفى السباعي وأكرم الحوراني وهاني الهندي وخالد بكداش. ومن دمشق، كان يدار التنظيم البعثي العراقي وكذلك فروع حركة القوميين العرب. وكان لبكداش أتباع لدى الشيوعيين العراقيين، مثل عبد القادر إسماعيل البستاني، وكذلك الأردنيين، مثل فهمي السلفيتي، وأيضاً عند اللبنانيين بعد انفصال الحزب الشيوعي اللبناني عام 1964مثل حسن قريطم وصوايا صوايا ونخلة المطران. وعملياً في البلدان العربية، يمكن القول إن الحياة السياسية السورية هي الأكثر تميزاً مع المصرية والسودانية.
ولكن إذا صنفت الحياة السياسية السورية ضمن مراحل، الأولى 1946-1958، ثم 1963-1982، ثم 2000-2011، وبعدها 2011-2024، وأخيراً ما بعد 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي، فإن هناك تناقصاً في مستوى السياسة السورية في هذه المراحل الخمس بشكل طردي، إذ أن كل ما يلي هو أضعف من ناحية المستوى مما قبله. وبالترافق مع هذا التناقص بالمستوى السياسي، فإن الأمر ذاته في الجسم الأكاديمي التدريسي بكلية الحقوق. ويمكن مقارنة أساتذة فترة الخمسينيات مثل منير العجلاني ورزق الله أنطاكي ومعروف الدواليبي ومصطفى السباعي ومصطفى الزرقا بمستوى أساتذة كلية الحقوق بالتسعينيات، وكذلك مقارنة مستوى قسم الفلسفة بجامعة دمشق في السبعينيات مع ما انتهى إليه إبان عهد بشار الأسد، وهو ما ينطبق على مجالات الثقافة المختلفة.
عندما أطلق رياض الترك بعد خروجه من السجن عام 1998 مقولة «مملكة الصمت» لوصف سوريا حافظ الأسد، فإنه على الأرجح كان يصف حالة التصحر السياسي السورية ما بعد مجزرة مدينة حماة عام 1982 التي دفعت غالبية عظمى من السوريين للاستكانة أمام المستبد. إلا أنه على الأرجح لم يكن مدركاً أن غياب السياسة جعلت السياسيين، الذين عادوا لملعب السياسة بعد موت الديكتاتور، يبدون مثل لاعب كرة القدم نزل للملعب بعد غياب طويل عن اللعب ليبدو فاقداً للكثير من مهاراته السابقة. وفعلاً عندما تم تقديم رؤية للمرحلة الجديدة، اندفع أغلب المعارضين للسير وراء مقولة الصراع بين الإصلاحيين والحرس القديم في العهد الجديد، وهي مقولة كان أول من أطلقها ميشيل كيلو في أربع مقالات نشرت في صحيفة «النهار» اللبنانية أواخر شهر أغسطس/آب 2000، ثم سار وراءها كل قادة أحزاب التجمع الوطني الديمقراطي، باستثناء الترك. وحينما كان يسأل أصحاب هذه المقولة عن كيفية رؤيتهم لبشار الأسد كشخص إصلاحي، كانوا يجيبون إن خطاب القسم الذي ألقاه يوحي بذلك أو يشيرون إلى أنهم لا يستطيعون العمل «من دون أن نضرب إلا تحت هذا السقف» أو «دعونا نزرع الشقاق داخل السلطة». وحتى عندما اعتقل الترك ورياض سيف وثمانية آخرون في سبتمبر/ أيلول 2001، فإن صحيفة «الرأي»، الناطقة باسم الحزب الشيوعي (المكتب السياسي)، اعتبرت الاعتقالات «ضربة من التيار المحافظ للتيار الإصلاحي» وليس فقط للمعارضة، وهو ما تبعها أحد المعارضين بنفس الوصف في ملحق «النهار» الذي كان يشرف عليه الياس خوري. ويذكر كاتب السطور بأنه والترك التقيا بميشيل كيلو ببيته في دمشق في مارس / آذار 2001. وعندما قيل له إن مقولة «المجتمع المدني» المستخدمة من قبل «لجان إحياء المجتمع المدني» التي أصدرت «بيان الألف» ملتبسة والأفضل استخدام كلمة «إحياء الديمقراطية»، تفاجأ الجميع أنه لا يعرف، وهو الأب الروحي لتلك اللجان، المعنى الفلسفي لمفهوم «المجتمع المدني»، ويريد استخدامها كمضاد للدكتاتورية العسكرية أو يظنها كذلك. ويمكن، في هذا المجال، مقارنة الأمر مع الرؤية التي قدمها «التجمع» في بيانه عام 1980 والتي أشارت إلى أن الديكتاتورية بعد استيلاء حزب البعث على السلطة عام 1963 أنتجت أزمة وطنية عامة، وأن الحل هو «وطني ديمقراطي» يتم فيه إنقاذ الوطن من أزمته الديمقراطية، وبالتالي تمت الدعوة للتغيير الجذري، أي أنها كانت رؤية لأزمة أنتجت برنامجاً ومطالب وحتى اعتبرت نفسها خطاً ثالثاً في لحظة صدام النظام مع الإسلاميين، وإن جاءت مع سكوت تكتيكي حيال عنف الإسلاميين. وفي مرحلة ما بعد حافظ الأسد، بنى البرنامج على «دلالة الآخر» الذي يفترضون أنه «إصلاحياً»، ثم قام معظم من راهنوا على بشار بالمراهنة على التدخل الخارجي بعد سقوط صدام حسين (ومنهم رياض الترك) في افتراض بأن الأميركي سيُكمل في دمشق ما فعله ببغداد في دمشق، مع أن واشنطن كانت صريحة بأنها «تريد تغيير سلوك النظام، وليس تغيير النظام». وأيضاً، فشلت لمرة ثانية استراتيجية بناء السياسة بدلالة الآخر الأميركي بعد سابقتها في «دلالة التيار الإصلاحي في القصر».
في مرحلة 2011-2024، ارتكب الكثير من المعارضين أخطاء كبيرة كما فعلوا من خلال «جمعة الحماية الدولية» بعد أسابيع قليلة من تصريح الرئيس الأميركي باراك أوباما في 18 أغسطس/آب 2011 بأنه «حان الوقت لكي يرحل الرئيس السوري»، حيث راهنوا على العنف المعارض لإسقاط النظام حتى بعد استخدام موسكو الفيتو في مجلس الأمن ضد قرار يخص الوضع في سوريا بعد شهر ونصف الشهر من تصريح أوباما. ولم يدرك هؤلاء المعارضين، الذين اجتمعوا آنذاك في مجلس إسطنبول تحت رعاية أوباما ورجب طيب أردوغان، بأن التعارض الأميركي- الروسي سيمنع تكرار التجربة ضد معمر القذافي الذي كان هرب من طرابلس الغرب بعد خمسة أيام من تصريح أوباما فيما يخص سوريا وبعد سبعة أشهر من اجتماع واشنطن وموسكو ضده في مجلس الأمن. وعبّر كل ذلك عن عدم قدرة المعارضين السوريين على قراءة اللوحة السورية في مرحلة ما بعد مارس/آذار 2011 بارتداداتها الإقليمية والدولية، وهو الأمر ذاته الذي يتكرر في مرحلة ما بعد سقوط بشار، إذ لا يستطيع المشتغلون بالسياسة تفسير سقوط النظام قبل خمسة شهور وليس في 2015 حينما كان أضعف مما هو عليه في 2024. والأرجح، أنهم حتى بعد عشر سنوات من ربيع- صيف 2015 لا يستطيعون تفسير الظاهرة غير المسبوقة في كيفية اجتماع أنقرة والرياض، المستاءة حينها من الاتفاق النووي مع إيران، على دعم «جيش الفتح» و«جيش الإسلام»، وهو ما قاد إلى السيطرة على محافظة إدلب ومنطقة الغاب ومن ثم اقتراب المعارضة المسلحة من السيطرة على حماة وحمص، إضافة لقطع طريق دمشق- حمص عند عدرا، قبل أن يجتمع قاسم سليماني وفلاديمير بوتين وباراك أوباما على فكرة إنقاذ بشار الأسد عبر التدخل العسكري الروسي. والأرجح، أن أغلب من يقولون بـ«التحرير» و«النصر» لا يعرفون أن النظام السوري لم يسقط بعامل سوري داخلي محض، بل إن التباعد بين واشنطن وموسكو بعد حرب أوكرانيا وتغير نظرة واشنطن لإيران بعد هجوم حركة حماس في 2023، هما ما أسقط نظام بشار بمعاونة أنقرة وتنفيذ سوري، من أجل تغيير موازين القوى لصالح واشنطن عبر دمشق ضد موسكو قبيل المفاوضات الأوكرانية وضد طهران قبيل المفاوضات النووية. ويمكن هنا تفسير الضربات الإسرائيلية للمواقع العسكرية السورية في الأيام التالية لسقوط الأسد بأنها تعبير عن عدم التوافق الأميركي- الإسرائيلي على الحدث السوري، وهو أمر بدأ بالتكشف منذ اللقاء الأخير لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو الشهر الماضي مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في البيت الأبيض.
في النهاية، هل يمكن وضع المطالب الأميركية الثمانية من السلطة السورية الجديدة في سياق أنها دفتر شروط أو خريطة طريق لدمشق ما بعد الأسد بعد أن انتهى فصل 8 ديسمبر/كانون الأول، وهي مطالب من اللافت للنظر أنها قدمت في مارس/آذار الماضي بعيد الحركة العسكرية التي نفذها فلول النظام السابق؟ ومن ثم، ألا يمكن تفسير تسليم واشنطن الشرق الأوسط لإيران وروسيا عام 2015 على أنه رغبة أوباما في التركيز على الشرق الأقصى فيما يخص الصين، وأن تغيير واشنطن نظرتها تجاه الشرق الأوسط وأهميته هو ما يفك لغز ديسمبر/كانون الأول السوري، على اعتبار أن «من يقود الشرق الأوسط لابد له من السيطرة على سوريا»؟

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد