محمد سيد رصاص
بعد ساعتين من انتهاء رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو من إلقاء خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في 27 سبتمبر/أيلول الماضي، قامت طائرات إسرائيلية بقتل أمين عام حزب الله حسن نصرالله بغارة على مقره بالضاحية الجنوبية لبيروت. في اليوم التالي ومن القدس، وصف نتانياهو مقتل نصرالله بأنه «سيعيد تشكيل بنية القوة في الشرق الأوسط». ويبدو أن التفسير لذلك هو ما نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» في 16 أبريل/نيسان الجاري عن أن التشجع على ضرب إيران، وأولاً من خلال أذرعها ثم الرأس، في أوساط تل أبيب وواشنطن بدأ مع انكشاف ضعف قدرة الضربة الصاروخية الباليستية الإيرانية في ليلة 13-14 أبريل/نيسان 2024 ضد إسرائيل، فيما كان الرئيس الأميركي السابق جو بايدن منع نتانياهو من توسيع الحرب في غزة نحو حزب الله أو إيران في الأسابيع التي تلت هجوم حركة حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. وعلى الأرجح، أن بدء الحرب الإسرائيلية البرية على لبنان قبل أيام من مقتل نصرالله يجد تفسيره في تلك القراءة للضعف الإيراني، وأيضاً هو تفسير لقتل نصرالله بعد أن كشف لاحقاً عن امتناع الإسرائيليين عن قتله سابقاً. والأغلب، أن إضعاف حزب الله بشكل دراماتيكي في تلك الحرب التي انتهت في يوم 27 نوفمبر/تشرين الثاني وإنشاء مناخ دولي-إقليمي لإطلاق عملية إسقاط بشار الأسد في نفس اليوم، هدفا إلى إضعاف رأس المحور الإيراني بشكل كبير بعد شل أذرعه في لبنان وغزة وقطعها في سوريا، التي أمّنت جسراً برياً للمحور الإيراني ما بين طهران والبحر المتوسط، من أجل ضرب هذا الرأس لاحقاً. ولكن الرئيس الأميركي دونالد ترامب تراجع عن ضربة كان متفقاً عليها مع نتانياهو في مايو/أيار، مفضلاً المفاوضات حول الملف النووي.
الآن وبعد سنة ونصف من هجوم حركة حماس، يمكن القول إن إيران باتت ضعيفة ولم تعد «القوة الإقليمية العظمى»، على حد تعبير الجنرال رحيم صفوي في 2013، وهو مستشار حالي للمرشد الإيراني علي خامنئي وقائد سابق للحرس الثوري الإيراني. وإن كان صحيحاً ما قاله خامنئي في سبتمبر/أيلول 2023، قبل أسابيع من هجوم «حماس»، عن «وجود مؤشرات على ضعف وانحدار التكتل المعادي» لإيران، إلا أنه لم يعد صحيحاً في 2025 بعد هزائم طهران في غزة ولبنان وسوريا وبعد أن أضحت الولايات المتحدة اللاعب الأكبر في المنطقة تليها إسرائيل.
ومن اللافت للنظر دعوة نتانياهو في خطابه إياه في نيويورك إلى «المصالحة بين مكة وأورشليم» بعدما أعطى أوامر قتل نصرالله، حيث سيبدو مفهوماً عدم دعوته إلى المصالحة مع قم والنجف، إلا أن عدم ذكره الأزهر أو إسطنبول يبدو ذو دلالة. وسبقت عبارة «المصالحة بين مكة وأورشليم» عبارة «المصالحة بين الإسلام واليهودية»، فيما سبقت الأخيرة عبارة «المصالحة بين العالم العربي وإسرائيل». وعلى الأغلب، أن نتانياهو فهم أن لدى واشنطن توجهاً لتطويب سعودية محمد بن سلمان رمزاً للإسلام، وليس مصر أو تركيا، وزعيمة للعرب كذلك. كما أنه يعبّر عن طي واشنطن صفحة مرحلة سلّمت فيها العراق لإيران والقوى الشيعية المحلية الموالية لها، وكذلك عن تغير موقف واشنطن من دور طهران الإقليمي الذي كان ثمناً أخذته من البيت الأبيض مقابل توقيع اتفاق 2015 النووي، وهو ما لاقي معارضة الحلفاء في تل أبيب والرياض آنذاك إبان عهد الرئيس باراك أوباما. وهنا، يجب تذكر أن التوجه الذي شجعته واشنطن في صيف وخريف 2023 لتطبيع العلاقات بين الرياض وتل أبيب كان مرفقاً بمشروع الممر الهندي وبمفاعل نووي سعودي تبنيه واشنطن وبمعاهدة دفاعية أميركية- سعودية. ووفق رأي بايدن في مقاله في «واشنطن بوست» في 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، فإن هجوم حركة حماس هدف إلى تقويض كل ذلك.
إذا نظرنا الآن إلى اللوحة شرق الأوسطية، سنرى ضعف حزب الله في الخريطة السياسية اللبنانية وضعف حماس في الساحة الفلسطينية، وكذلك للحوثيين في اليمن، وهو ما بدأ يظهر كذلك في العراق، حيث أن القوى المحلية الموالية لإيران باتت في أضعف حالاتها منذ سقوط صدام حسين. وإذا اجتمع هذا تراكمياً، وأضفنا له سقوط الأسد، فإن خامنئي أصبح ضعيفاً ولم يعد صاحب «القوة الإقليمية العظمى». ويبدو أن هذه هي اللحظة التي فضلها ترامب، خلافاً لرأي نتانياهو، من أجل التفاوض مع إيران وهي ضعيفة، من دون أن يترك التلويح بالخيار العسكري. والأرجح أن تسريب خبر الضربة الإسرائيلية– الأميركية المشتركة التي كانت مقررة الشهر المقبل لصحيفة «نيويورك تايمز» كان متعمداً في أسبوع بدء المفاوضات في مسقط، في أسلوب يقترب من أسلوب هنري كيسنجر حول «التفاوض تحت النار». وبالتأكيد، كان هذا التسريب أميركياً وليس إسرائيلياً.
يفسر هذا الضعف الإيراني تقاربات طهران مؤخراً مع الرياض. كما أن اللوحة الشرق أوسطية الجديدة هي التي تفسر عقد المفاوضات الأميركية- الروسية حول أوكرانيا والمفاوضات الروسية- الأوكرانية في السعودية. وهناك تسريبات أن ترامب سيلتقي نظيره الروسي فلاديمير بوتين فيها كذلك، وقد تكون أيضاً مكان انعقاد المفاوضات النووية الإيرانية في المستقبل. يمكن أن تساعد هذه القوة السعودية الجديدة على تلمس اللوحة السورية المقبلة، حيث لن تسمح الرياض، برضا أميركي وبموافقة مصرية والأكيد إسرائيلية، بأن يكون للرئيس التركي رجب طيب أردوغان في دمشق ما كان لخامنئي في بغداد ما بعد سقوط صدام حسين. كما أن قوة الرياض تساعد على تفسير تخلي الإمارات عن أحمد العودة في الجنوب السوري وتقاربات بوتين مع السلطة السورية الجديدة. ولجهة الشأن الفلسطيني، يمكن ربط القوة السعودية الإقليمية الجديدة باشتراط الرياض إقامة الدولة الفلسطينية للتطبيع مع تل أبيب، فيما كان هذا الأمر غائباً سعودياً في عام 2023. كما كان لافتاً في نهاية المطاف حصول اتفاق أميركي- سعودي على بناء مفاعل نووي سعودي، من دون ربطه بالتطبيع مع إسرائيل.