محمد سيد رصاص
استندت عملية نشوء ديكتاتورية حافظ الأسد عام 1970 إلى عامل دولي هو الموافقة السوفياتية– الأميركية على إزاحة نظام يرفض القرار 242 الذي رسم ملامح ومسار الصراع العربي- الإسرائيلي بعد حرب 1967، وعامل إقليمي لدى الرئيس المصري الجديد أنور السادات الذي حمل مشروعاً مخالفاً لليسارية العروبية الناصرية، وإلى عامل داخلي هو نقمة اجتماعية عند الفئات الغنية والوسطى في المدن الكبرى من إجراءات نظام 23 فبراير/شباط 1966 ذات الطابع اليساري في الاقتصاد والاجتماع والثقافة والسياسة. من هنا، لاقى الأسد أرضية دولية– إقليمية – داخلية أتاحت له، برضا هذه الفضاءات الثلاث، أن ينفرد بحكم سوريا، وساعد ديكتاتوريته على القيام وجود وضع اقتصادي مريح، إضافة لما ذكر أعلاه.
لا توفر للرئيس السوري الجديد أحمد الشرع هذه العوامل الأربعة إن أراد أن يؤسس ديكتاتورية سورية جديدة، هذا إن أراد، ومن المحتمل أنه لا يريد . فما جرى من إسقاط للنظام السوري، وهو إسقاط قاد إلى سقوط، كان بقرار دولي وليس إقليمي من دولة في الإقليم مثل تركيا، وليس بسيرورة داخلية هي انتصار في 8 ديسمبر/كانون الأول لثورة انطلقت في 15 أو 18 مارس/آذار 2011. وكان هدف هذا القرا الدولي إنشاء توازن دولي جديد على الصعيد العالمي عبر البوابة الدمشقية تضعف روسيا قبل مفاوضات واشنطن معها حول أوكرانيا وتضعف إيران قبل مفاوضات دونالد ترامب معها حول اتفاق نووي جديد أو تجعلها في وضع عاجز، إن لم تستجب للشروط التفاوضية الأميركية تكون غير قادرة من خلاله على مواجهة ضربة إسرائيلية قاصمة لبرنامجها النووي.
ما قامت به هيئة تحرير الشام هو انتفاضة عسكرية ضد نظام كان آيلاً للسقوط في فترة 2011-2015، ولكن منع سقوطه آنذاك توافقات أميركية- روسية– إيرانية. ولكن في 2024، كانت روسيا تغوص في الوحل الأوكراني وإيران تجر أذيال هزيمة ذراعيها في غزة ولبنان، وهو ما سمح لهيئة تحرير الشام أن تنجح في 2024 وبغطاء أميركي ما مُنعت من قبل واشنطن من تحقيقه عام 2015 عندما دفعت الأخيرة موسكو للتدخل العسكري أمام تقدم الفصائل الإسلامية في منطقة الوسط السوري انطلاقاً من إدلب، وبالتوازي من الغوطة باتجاه قطع طريق دمشق- حمص. ما تم في دمشق قبل شهرين كان في هذه الحدود، وليس بإمكان أحد القول إنه تغيير سوري، حتى وإن لاقى سقوط النظام تأييداً شعبياً كبيراً. ومفارق للوقائع القول إنه تغيير طبخه رجب طيب أردوغان. فدمشق على ما يبدو أهم من أن يقرر مصيرها السوريون للأسف أو أن يحددها الإقليم. ويجب علينا أن نعترف أن البريطانيين هم صانعو جلاء الفرنسيين عن سوريا عام 1946، وأن انقلابات حسني الزعيم وسامي الحناوي وأديب الشيشكلي كانت مدفوعة من الخارج، هذا من دون أن نتحدث عن فصول مرحلة 1954-1970.
من خلال زيارات الأميركيين والبريطانيين والألمان والفرنسيين لدمشق، وما يتكلم به السعوديون ويصمت عنه الأردنيون ويكظم المصريون غيظهم تجاهه، من الواضح والمعلن أنه من غير المرغوب قيام حكم إسلامي في دمشق عند كل هذه الجهات. وهناك نغمة قيلت في مؤتمر العقبة وكررت في مؤتمري الرياض وباريس من كل هذه الأطراف أن المطلوب هو «انتقال سوري جامع وشامل».
وبعد أيام من سقوط حكم بشار الأسد، قالت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية إن «حكماً إسلامياً في دمشق برعاية أردوغان هو أخطر على إسرائيل من حكم إسلامي في غزة يرعاه خامنئي». ومن الواضح أن الاعتراف بالحاكمين الجدد ورفع العقوبات وإعادة الاعمار هي شروط من أجل «انتقال سوري جامع وشامل»، وهو أمر يعني أن الخارج الدولي- الإقليمي لا يريد ديكتاتورية كما أرادها مع حافظ الأسد ولا حكماً إسلامياً في عالم ما بعد هجمات سبتمبر 2001 وأكتوبر 2023، حتى ولو كان الذي قام بعملية 27 نوفمبر/تشرين الثاني- 8 ديسمبر/كانون الأول فصيل إسلامي لم ير المجتمع الدولي بديلاً له للقيام بتلك العملية أو أن غيره من السوريين لم يكن مؤهلاً لها.
على الأرجح أن أطرافاً إقليمية مثل تركيا تريد حكماً إسلامياً أو جعل دمشق تابعة لأنقرة كما بغداد تابعة لطهران في ظل حكم الأحزاب الشيعية العراقية، لن تنجح في مسعاها بسبب حائط الصد الدولي في واشنطن وبسبب موانع الرياض والقاهرة وتل أبيب. ولا يسمح الوضع السوري لحاكمي دمشق الجدد أن يقرروا المستقبل وفق رؤاهم الأيديولوجية الإسلامية، بل على الأرجح سيتكيفون مع دفتر الشروط غير السوري. وهم أثبتوا منذ حكمهم في إدلب بأنهم براغماتيون ويقرأون الوقائع والتوازنات جيداً، وإلا لما وجدنا العبارة التالية في دراسة قدمت عام 2021 في معهد الجامعة الأوروبية بروما: «تظهر هيئة تحرير الشام وكأنها هي القوة الوحيدة القادرة على تطوير وتطبيق استراتيجية عملياتية مضادة لقوى الجهاد العالمي بما فيها بقايا تنظيم القاعدة وتجاه شبكات داعش.. هيئة تحرير الشام، ومع سعيها لتحقيق أهدافها، أصبحت تطابق المصالح الغربية في أشكال عديدة» ( ص31، من دراسة جيروم دريفون وباتريك هايني: «كيف تتم عملية تبيئة الجهاد العالمي وإلى أين تقود: حالة هيئة تحرير الشام، الفرع السابق لتنظيم القاعدة في سوريا»، ورقة بحث، نسخة بي دي إف، 36صفحة، معهد الجامعة الأوروبية – مركز روبرت شومان للدراسات المتقدمة لبرنامج توجهات الشرق الأوسط، النص باللغة الانكليزية).
كتكثيف، لن تُرسم اللوحة السورية من خلال البعد الداخلي بل الخارجي. والأرجح، أن عوامل ديكتاتورية حافظ الأسد لا تتوافر من جديد. كما أن وجود مشاريع اقتصادية دولية، تكون الجغرافية السورية من محاورها، تتطلب استقراراً داخلياً لن يوفرها استئثار الإسلاميين بالسلطة او سيطرة فرد واحد عليها.