د. طه علي أحمد
أدَّت الضربات القاصمة التي وجهتها إسرائيل أخيراً، وبدعمٍ أميركي، لإيران ووكلائها في الشرق الأوسط إلى إضعاف النفوذ الإقليمي لطهران في المنطقة بشكلٍ ملحوظٍ، لاسيما أن هذه الضربات طالت العديد من قدرات الدفاع الجوي الإيرانية، ما أحدث حالة من الانكشاف الاستراتيجي لدى إيران. لكن ذلك يبدو منفصلاً عن الجهود والمساعي الإيرانية لتطوير برنامجها النووي؛ إذ كثفت طهران جهودها لتخصيب اليورانيوم بعد أن أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي الذي تفاوضت وتوصلت إليه إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما في عام 2015. وكانت بعض التقارير الأخيرة أفادت بأنه بات بإمكان الإيرانيين بناء عدد من الأسلحة النووية في غضون أسابيع. وبعيداً عن التحقق من دقة هذه التقديرات، إلا ما يمكن الجزم به هو أن الإيرانيين تعاملوا بدرجة عالية من البرغماتية مع الاتفاق المذكور في كافة حالاته. فمع التزام الولايات المتحدة بالاتفاق خلال إدارة أوباما، شهد الاقتصاد الإيراني حالةً من الاسترخاء مع تخفيف الضغوط وبخاصةٍ قدرٍ من الوفورات المالية التي حصلت عليها طهران من رفع القيود على أرصدتها المجمدة في الخارج، أو حتى مع إعلان الرئيس الحالي في دورته الأولى (2017 – 2021) الانسحاب من هذا الاتفاق، الأمر الذي دفع الحكومة الإيرانية لحشد الجهود والعودة للأنشطة النووية كرد فعلٍ يعكس قدراً من التحدي لدى الإيرانيين. وتحقق على إثر ذلك تقدمٌ ملحوظٌ في البرنامج النووي الإيراني كشف عنه تقريرٌ صادرٌ عن الوكالة الدولية للطاقة النووية في نوفمبر/تشرين الثاني 2024 أفاد بأن إيران كانت «قريبة بشكلٍ خطير من تخصيب اليورانيوم إلى مستويات صالحة لأغراض التسليح». كما كشف التقرير أن إيران تخطط لتثبيت أكثر من ستة آلاف جهاز طردٍ مركزي جديد لتخصيب المزيد من اليورانيوم.
توازت التطورات الأخيرة بدورها مع فوز ترامب بولاية رئاسية أخرى كان ولا يزال أبرز التساؤلات المرافقة لها هو: كيف ستتعامل إدارة ترامب مع إيران فيما يخص برنامجها النووي المثير للقلق لأبرز حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط وهو إسرائيل؟، لاسيما أن هذا الملف لا ينفصل عن التحولات البنيوية التي تشهدها البيئة الإقليمية لإيران، والتي تبدو طهران أبرز المتضررين منها. وللتعامل مع هذه الإشكالية بشكلٍ أقرب إلى الموضوعية، من المفيد الاقتراب من عقل النخبة التي تسهم في صنع القرار الأميركي الخاص بإيران؛ والمقصود هنا ترامب وأبرز مساعديه ومستشاريه لشؤون الشرق الأوسط.
ففيما يخص ترامب، وبحكم التجربة خلال دورته الرئاسية الأولى، فإن موقفه هو الأكثر وضوحاً. فترامب هو الذي تبنَّى استراتيجية «أقصى ضغط» التي بموجبها تم تجميد اتفاق 2015. وهو الذي أمر باغتيال رئيس الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني في العراق عام 2020. وهو أيضاً الذي تحدث أثناء حملته الانتخابية الأخيرة عن تفجير إيران إلى أشلاء، وقال إن «إسرائيل لابد أن تضرب المواقع النووية الإيرانية».
لكن مع أخذ التصريحات الأخيرة في الاعتبار لكونها جاءت في سياق انتخابي، كغيرها من التصريحات المثيرة المعروف بها ترامب، نجد أن الرئيس الأميركي لا يعارض منطق الصفقة بهذا الصدد، بل يدعمها وإن بشروط أكثر تقييداً لطهران. ففي خطاب له الشهر الماضي، قال: «يتعين على إيران أن تأتي إلى الطاولة، لكن هذه المرة ستكون المفاوضات أفضل لأميركا وحلفائها». وكانت إدارة ترامب أصرَّت على أن توقف إيران أولاً برنامج تطوير الصواريخ وتوقف أنشطتها في المنطقة، بخاصة في سوريا واليمن. إننا إذن بصدد قدرٍ من المرونة واللهجة الدبلوماسية، الأمر الذي يمكن إرجاعه لمحاولة ترامب تنويع أدوات التعامل مع هذا الملف بين الضغوط الاقتصادية والتواصل الدبلوماسي.
حاول ترامب إحداث قدرٍ من التوازن في تشكيل إدارته بين من يبدو عليهم قدراً من التشدد (الصقور) ومن يُعرَف عنهم المرونة في التعامل مع قضايا السياسة الخارجية. فوزير الخارجية ماركو روبيو يعرف عنه – منذ أن كان سيناتوراً جمهورياً عن ولاية فلوريدا – بموقفه المدافع عن السياسات الهادفة لاحتواء البرنامج النووي الإيراني بشكلٍ متشدد. كما أنه يؤيد فرض المزيد من العقوبات الاقتصادية على طهران للحد من نفوذها في الشرق الأوسط وغرب آسيا، وعبَّر عن موقفه الصارم تجاه إيران خلال جلسة تعيينه لمنصب وزير الخارجية، وهو الموقف الذي يأتي امتداداً لرؤية ترامب في هذا الصدد، وإن كان روبيو يضيف عليها التركيز على الشراكات مع القوى الإقليمية التي تتشارك مع إسرائيل الشعور بالتهديد من جانب إيران مثل دول الخليج، الأمر الذي يهدف في المحصلة النهائية لعزل طهران.
هناك أيضا مايكل والتز، مستشار الأمن القومي، وهو ذو خلفية عسكرية. ودأب على وصف إيران بكونها مزعزعة للاستقرار مع الدعوة لتبني استراتيجيةٍ أميركيةٍ أكثر قوةً من خلال الردع العسكري والعقوبات الاقتصادية. لا يختلف والتز أيضاً عن سكوت بيسنت الذي اختاره ترامب لمنصب وزير الخزانة. وكان بيسنت دعَّم طويلاً حملة «أقصى ضغط» وسعى لضمان عدم تعامل المؤسسات المالية الأميركية مع الكيانات المرتبطة بالحكومة الإيرانية. وفي مقابلة تلفزيونية أُجريت معه في 2024، صرح بيسنت أن «إيران تشكل تهديداً كبيراً»، وشدَّد على أن أفضل طريقةً للتعامل معها هي جعل النظام الإيراني «مُفْلِسًا» مرة أخرى. كما انتقد ذات مرة وبشكلٍ صريح موقف إدارة أوباما في تخفيف العقوبات. وبصفته وزيراً للخزانة، من المرجح أن يلعب بيسنت دوراً في تشكيل استراتيجيةٍ أميركيةٍ تُعَوِّل على استخدام القوة الاقتصادية ضد إيران ومن والاها. والحال نفسه بالنسبة لبيت هيغسيت، وزير الدفاع، وأيضاً إليز ستيفانيك التي اختارها ترامب لتكون مندوبة بلاده لدى الأمم المتحدة، ومايك هاكابي السفير الأميركي لدى إسرائيل الذي قال عنه ترامب في بيان ترشيحه إنه «يحب إسرائيل، وإن شعب إسرائيل يحبه» رغم عدم يهوديته.
تضم الإدارة الأميركية الحالية أيضاً فريقاً يبدو أقل تشدداً إيران يقوده نائب الرئيس جي دي فانس ومعه توكر كارلسون وتوماس ماسي، بالإضافة إلى الجنرال مايك ديمينو الذي يشغل منصب مساعد وزير الدفاع لشؤون الشرق الأوسط، والذي يعرف بميوله الواقعية والدعوة لضبط النفس في التعامل مع إيران. وكذلك تضم بينبردغ كولبي وكيل وزارة الدفاع للسياسات والمعروف بمهندس السياسة الخارجية لدى إدارة ترامب السابقة، ويتبنى نهجاً متشدداً تجاه الصين، لكن ليس تجاه إيران حيث عبَّر في وقت سابق عن تشككه بشأن العملية العسكرية ضدها. ويولي هذا الفريق الأولوية للقضايا المحلية والمنافسة الاستراتيجية مع القوى الدولية المنافسة لمكانة الولايات المتحدة العالمية مثل الصين، ويطالبون بسياسةٍ تُقَلِّل من التدخل العسكري الأميركي في الخارج وخصوصاً في الشرق الأوسط وغرب آسيا. كما يركز هذا الفريق على تعزيز حدود الولايات المتحدة واقتصادها ونفوذها الإقليمي في الأميركتين.
يعني ما سبق أن إدارة ترامب تسعى لتنويع أدوات التعامل مع إيران، مع العودة لسياسة «أقصى ضغط»، وإن كان ذلك ينطوي على تحولٍ نحو نهجٍ أكثرَ دبلوماسية أو على الأقل أقل مواجهة. وربما يتعزز ذلك أيضاً باستبعاد أشخاصٍ أكثر تشددا من الحاليين مثل مايك بومبيو وجون بولتون وبرايان هوك، مبعوث ترامب السابق للشرق الأوسط. وهو ما يجعل التركيبة الحالية لفريق ترامب الحالي أكثر ميلاً لإبقاء خياراته مفتوحه بين التشدد والاعتدال. وانعكس ذلك على تصريحات ترامب الأخيرة حول إمكانية التفاوض على اتفاق مع إيران في حين أنه لم يؤكد المحادثات المباشرة، وهو ما يؤكده دور ستيف ويتكوف المكلف مبعوثاً للشرق الأوسط. وكان ويتكوف لعب دوراً في دفع إسرائيل لقبول وقف إطلاق النار في غزة أخيراً.
لكن يفرض ذلك تساؤلاً آخر وهو: إلى أي مدى نجحت هذه السياسة في ضوء تجربة إدارة ترامب الأولى؟ وفي هذا الصدد يمكن القول إنه في حين أثَّرت استراتيجيةُ «أقصى ضغط» بشدة على الاقتصاد الإيراني، فإن آثارها لم تتوافق مع أهدافها التي وضعتها إدارة ترامب حينما زعمت أن «خطة العمل الشاملة» لعام 2015 (الاتفاق النووي) فشلت في كبَح جِماح البرنامج النووي الإيراني. لكن ساعدت تداعيات الفوضى المصاحبة لمواقف ترامب إيران على تحقيق طفرةٍ في هذا السياق، وهو ما أكدته تقارير الوكالة الدولية للطاقة النووية سابقة الذكر، بالإضافة لكشف الحكومة الإيرانية في 18 يناير/كانون الثاني الماضي، وبالتزامن مع أجواء تنصيب ترامب، عن قاعدةٍ عسكرية تحت الأرض تضم سفناً هجومية على عمق 500 متر بالقرب من الخليج ومضيق هرمز ذو الأهمية الاستراتيجية حيث يمر فيه نحو 20% من انتاج النفط العالمي. كما تزامن ذلك مع إجراء القوات الإيرانية مناورات عسكرية واسعة النطاق في جميع أنحاء البلاد حملت مسمى «اقتدار» أي «القوة»، خلال احتفالات إيران بالذكرى 46 لتأسيس الجمهورية في 10 فبراير/شباط 1979، والتي تستمر حتى منتصف الشهر المقبل. وكانت تقارير أخيرة أفادت أن طهران تمكنت من توسيع منشآتها للتخصيب في مفاعل ناطانز وتواصل إعادة كميات كبيرة من المواد المخصبة إلى المخزونات على مستويات مختلفة.
كما استفادت طهران من الدعم المقدم لها قوى كبرى مثل الصين وروسيا اللتين تتجنبان أو تتجاهلان العقوبات الأميركية والغربية على إيران، وهو ما لا يُتوَقَّع تغيره بدون حصول أي منهما على مقابل من إدارة ترامب، في حين لا يُتوَقَّع أيضا أن يرضخ الرئيس الأميركي لهذا المنطق بشكل أو بآخر. بجانب ذلك، تمكنت إيران خلال السنوات الأخيرة من تعزيز علاقاتها بدول الجنوب العالمي. كما وفَّرَت لها عضويتها بمجموعة «بريكس» إمكانية للتخفف من تأثير العقوبات الأميركية.
أمام ذلك، وبجانب التحولات الاستراتيجية التي تشهدها البيئة الإقليمية في الشرق الأوسط والتي تجلت أحدث مؤشراتها في الدعم المطلق من جانب الرئيس الأميركي لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، يبدو أن الإيرانيين يخشون موجة غضب محتملة من الدول الغربية يمكن أن تتجسَّد فيما يُسمى بـ«الارتداد السريع» والتي من شأنها إعادة فرض عقوبات الأمم المتحدة والمزيد من العزلة الدولية إذا لم يكن هناك اتفاق بديل. وعلى هذا، تتشكل أخيراً مناقشات بين حكومة الرئيس الإيراني الإصلاحي الحالي مسعود بازشكيان والحرس الثوري حول أهمية العودة للمسار التفاوضي بحيث تكون الفرصة الأخيرة لتجنب الأزمة وألا ينظر لإيران بأنها تتفاوض هذه المرة بدافع اليأس. وكانت الحكومة أظهرت خلال الأسابيع الأخيرة إشارات للمجتمع الدولي باستعدادها للموافقة على العودة المشروطة للتفاوض.
وفي هذا السياق، جاءت الزيارةُ الأخيرة التي قام بها المدير العام للوكالة الدولية للطاقة النووية رافائيل جروس إلى طهران، والتي عكست انفتاحاً ملحوظاً على الوكالة، وإن كان ذلك يفسر برغبة الإيرانيين في تجنب أي إجراءٍ قاسٍ ضدها من مجلس محافظي الوكالة. وكان الاجتماع الأخير للمجلس شهد تشدداً في التصريحات الصادرة عن الدول الأوروبية الكبرى الثلاث – بريطانيا وفرنسا وألمانيا – والولايات المتحدة بشأن تقدم البرنامج النووي الإيراني. لكن في الوقت نفسه، لم يتخذ المجلس خطوةً جادةً ضد طهران، ما يعكس قدراً من المرونة الاضطرارية من جانب القوى الغربية مع إيران حتى لا تنفذ تهديداتها التي أطلقتها أخيراً بهذا الصدد، ما يعني أن الغرب هو الآخر يلتزم الموازنة مع الميل لفرض عقوبات.
محصلة لما سبق، ورُغم الحِدَّة التي يُبديها ترامب في مواقفه من قضايا السياسة الخارجية، وبينها التعامل مع الملف النووي الإيراني، ورغم الدور التصعيدي الذي يلعبه حليفه نتانياهو، إلا أن خيارات المستقبل قد تتراوح بين الحرص الأميركي للتوصل إلى صفقةٍ من شأنها إحداث استرخاء في الأمن الإقليمي بالشرق الأوسط، وإزالة أية تهديدات أمنية لإسرائيل من جهة، وتنفيذ عددٍ من الضربات النوعية المحدودة لبعض منشآت البرنامج النووي الإيراني لتحجيمه مع مواصلة سياسة «أقصى ضغط» لإلحاق المزيد من الضرر للاقتصاد الإيراني وتآكل شرعية النظام الحاكم تمهيداً لإسقاطه من جهة أخرى، وبطريقة لا تُحدِث أيةِ آثارٍ جذرية في المشهد الاستراتيجي بالشرق الأوسط. لكن قد يفرض ذلك قدراً كبيراً من الحذر حتى لا يؤدي هذا التصعيد، المدعوم بالتشدد الأيديولوجي من جانب الصقور في إدارة ترامب، إلى نسف الجهود الرامية للتوصل لصفقة مع طهران التي قد تضطر هي الأخرى للدخول في مسارٍ تفاوضي من أجل كسب الوقت من هذه المرحلة، حيث لا يبدو وضعها العام في أحسن حال.