قدّم المركز الكردي للدراسات جلسة حوارية، باللغة العربية، في الثامن عشر من شهر يناير/كانون الثاني الجاري بعنوان «سوريا الجديدة.. الآمال والتحديات». واستضاف البرنامج، الذي قدمه الزميل شورش درويش، الأكاديمي والكاتب ومؤسس ومدير عام مركز الشرق للبحوث (ORC) د. سمير التقي.
وبدأت الجلسة بالسؤال عن شكل الحكومة الجديدة في سوريا بعد مرور أكثر من شهر على سقوط النظام. وقال الأكاديمي والكاتب د. سمير التقي إنه كان هناك عوامل استقرار إقليمية ناتجة عن اتفاقيات سوتشي وأستانا، حيث كانت هذه التوافقات تقوم بداية على تحالف تركي-روسي بهدف أساسي من روسيا لسحب تركيا من كل من حلف الناتو والاتحاد الأوروبي في اتجاه مشروع كبير كانت تعمل عليه روسيا لسحب النفط والغاز من تركمانستان وكازاخستان وصولاً إلى ميناء جيهان على المتوسط. لكن عملياً تم القضاء على مشروع بيع النفط الروسي بعدما تجنبت أوروبا شراءه لثلاثة أعوام، مضيفاً أن الأهم من ذلك هو انتهاء التفويض الأميركي لروسيا بعد الدخول إلى أوكرانيا، إذ انتهى الدور الروسي بعد النزاع الأوكراني كلاعب أساسي في الإقليم بالوساطة بين دول المنطقة. وأوضح أنه من جهة أخرى، انتهت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 التوافقات الإيرانية الإسرائيلية على إدارة حرب باردة ضمن قوانين اشتباك محددة، إذ وصلت إسرائيل بعد ذلك إلى نتيجة مفادها إنهم لن يسلموا بعد الآن أمنهم لأي توافقات مع الأخرين. وأردف أنه لذلك باتوا هم من سيفرضون السلم الإسرائيلي في المنطقة، حيث تحولت جميع هذه المعطيات إلى سياسات وإنجازات عسكرية لإسرائيل في غزة أو في لبنان. وأشار كنقطة أخيرة للعوامل التي أدت إلى حصول ما حصل من تطورات وهي خسارة كامالا هاريس في الانتخابات الأمريكية، وهذا يعني بأنه بمجيء دونالد ترامب قد يعاد تفويض روسيا في الإقليم. وهذا الخطر هو الذي قاد الأمر إلى رمي ملف هيئة تحرير الشام وتركيا على الطاولة من قبل جو بايدن للتنفيذ. ونوه إلى أن ما حصل عند سقوط نظام بشار الأسد كان شبيهاً بما حصل في بغداد، إذ تم تشتيت وتفكيك الجيش السوري من خلال فكّ المفاصل الأساسية له بأوامر دون مقاومة.
وبمتابعة حديثه، أشار الكاتب والأكاديمي د. سمير التقي إلى أن أكبر خطأ ارتكبه بشار هو عدم قدرته على الاستجابة للروس فيما يتعلق بتشكيل حكومة مشتركة مع المعارضة والأخذ بالمصالحات من جهة، ووقوفه عملياً ضد إيران في الحرب على غزة من جهة أخرى، حيث لم تشارك سلطته لتكون جزءاً من المقاومة وبالتالي لم يتبقى له أي حامل.
وبالحديث عن الواقع الراهن بعد مرور أكثر من شهر، قال د. سمير التقي إن عدداً من الدول العربية والأوروبية والدولية تترقب كيف يمكن أن يتصرف أحمد الشرع وفيما إذا كان سيدير البلاد بشكل صحيح وما إلى ذلك من تساؤلات. ولفت إلى أنه بالرغم من أن الشرع فتح الأبواب بشكل واسع للدبلوماسية، ولكن كل هذه الزيارات هي زيارات استطلاعية ولا تحمل اعتراف بشرعية الحكومة الانتقالية ولا أي دعم حقيقي طويل الأمد. وأكد أن هذا ما تبلور في مؤتمر العقبة بالأردن، إذ كان هناك توافق كبير بين الدول العربية والأوروبية على هذا الأمر، مع وجود بعض التمايز من واشنطن التي كانت تريد إعطاء دفع أكبر لأحمد الشرع.
وبالحديث عن مقارنة العلاقة الأميركية مع الشرع بما كانت عليه في أفغانستان، قال التقي إن انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان جعلها منصة كبرى لزعزعة الوضع بالكامل حيث طالت هذه الزعزعة الصين وإيران ودول الاتحاد السوفيتي السابق، إذ تعتبر أفغانستان مشكلة لكل هذه الدول. وقال إن الشرع أطلق عدداً من التصريحات الطرية والملائكية ووزع عدد من الوعود الكبيرة والمتناقضة بنفس الوقت تجاه العلاقات الدولية والوضع الداخلي، بما يثير الحيرة والتساؤل لدى الجميع حول قدرته على تحقيق هذه الوعود المتناقضة.
وبالسؤال عما إذا كانت الحكومة الجديدة ستعتمد نهج النظام البائد في تصدير سياسته الخارجية والاعتماد على الريع الخارجي، أجاب د. سمير التقي بأن أي نظام ديكتاتوري فاشل اقتصادياً لا يستطيع العيش من خلال الاعتماد على القوة الاقتصادية الذاتية، يحتاج إلى دخل سهل، وقد اعتمد نظام الأسد على استثمار سياساته الخارجية كمصدر للدخل. وأوضح أنه على سبيل المثال، شارك في حرب 1976 وخرج منه بفائدة اقتصادية، وعادة ما تكون هذه المكافآت مبالغ ضخمة، ولكن كان الاقتصاد السوري اقتصاداً فاشلاً تماماً. وبالحديث عن تصريحات الشرع عن الأمن القومي الخليجي، أشار إلى أنه غير قادر على ملئ الفراغ الذي خلفه حافظ الأسد في الإقليم من خلال قدراته الإيديولوجية، وهذا يعود لعدة أسباب منها ما يتعلق بعدد قواته وكذلك طبيعة البنية العقائدية الثورية الإسلامية التي لا تنسجم مع كل الأنظمة العربية جملةً وتفصيلاً. وأكد التقي أن أي ديكتاتور يحتاج أولاً إلى أسطورة إلى جانب العنف والريع، بينما ليس للشرع أي ريع أو أسطورة، حيث لن يقبل السوريون ببناء الخلافة الإسلامية التي لا تتوافق مع الطبيعة الدينية للمجتمع الدمشقي.
وفي هذا السياق، قال التقي إن الشرع لا يملك أفقاً إلا في قضيتين، الأولى هي تأمين السلم الأهلي، وهذا يجب أن يكون طوعياً، إذ أن أي محاولة لكسر تطلعات أي مكون من المكونات سيؤدي إلى انفجار سريع، أما النقطة الثانية فهي حاجته إلى تفاوض طويل الأمد مع كل مكون قبل أن يذهب إلى المؤتمر الوطني، وأكد د. التقي أنه بدون ذلك، ليس هناك أية مقومات للنجاح وهناك احتمالات فشل كبيرة، فالأمر لا يحتاج إلى حكمة فحسب بل يحتاج إلى تصفية الاتجاهات الإسلاموية المتطرفة داخل هيئة تحرير الشام وداخل تحالفاته أيضاً. وأوضح أنه يضاف إلى ذلك وجود مشكلة كبيرة وهي رفض الشرع كافة أشكال الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني، بما فيها النقابات والتنظيمات، علماً بأنه قام بإطلاق مجموعة مفاهيم قد تدعو بعضها للتفاؤل، ولكنها تحتاج إلى معارك ضمن جماعته أولاً.
أما بالسؤال عن موقف الغرب، أكد د. التقي بأنه لدى الأوروبيين كامل الحق في المطالبة بانتقال ديمقراطي وحوار وطني، لأن النظام الحالي نظام غير شرعي، فهو أولاً لا يسيطر إلا على 50% من الأرض، وثانياً لن يتمكن من اشتقاق شرعية داخلية ليطالب بدعم أو إعادة إعمار. وأضاف أن أوروبا أوضحت بأنه لا مساعدة للحكومة الجديدة إلا بعد البدء بعملية السلم الأهلي والمصالحة والوطنية، حيث لا يمكن إعادة بناء البلاد دون توافق طوعي من كافة المكونات. وأن أي محاولة لسحب السلاح بالقوة سواءً من العلويين أو الدروز أو الكرد سيؤدي إلى حرب أهلية.
وبما يتعلق بالسياسات الأميركية تجاه سوريا وإجراءات ترامب المقبلة حيال الدور الإيراني والتركي في المنطقة، قال د. التقي إن العالم متعدد الأقطاب ولكن مازالت واشنطن القطب الأكثر سيطرة وهيمنة، فالتطور الذي جرى بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 أدى إلى نسف واشنطن ثقتها بإيران، إذ اعتبرت أنها لعبت لعبة محرمة كادت أن تطيح بجميع التوازنات المتفق عليها. وأردف أنه بحسب المتوقع هناك قضيتان سيحتك فيهما ترامب مع بنيامين نتانياهو، القضية الأولى هي احتياجه للمملكة العربية السعودية لأسباب لا تتعلق بإسرائيل ولا بالشرق الأوسط، وهذا لن يصلح ذات البين مالم يتم وضع قطار حل الدولتين على السكة، حيث أن واشنطن بعد أحداث غزة أصبحت مشلولة تماماً في الإقليم لا تملك القدرة على المبادرة، فالمبادرة الوحيدة التي قامت بها بعد أحداث غزة هي إطلاق أيادي تركيا في الدخول على سوريا وقلب النظام، وهي مضطرة الآن إلى أن تفرمل نتانياهو وأن تمنعه من الاستمرار على موقفه تجاه غزة والضفة الغربية، أما القضية الثانية فهي بأن واشنطن لن تنجر إلى حرب مباشرة مع إيران.
أما بشأن التواجد الأميركي في شمال شرق سوريا، أوضح د. التقي أن الرافعة الوحيدة بيد واشنطن هي وجود علمها في شرق الفرات، فهذا يؤمن وجودها في الشكل النهائي لبنية سوريا، حيث لا يتجرأ أي رئيس أميركي على الانسحاب بسبب التخوفات من عودة ظهور تنظيم داعش في ظل عدم قدرة الحكومة الحالية على مواجهة التنظيم من جهة، وضرورة التوافق بين المؤسسات الأميركية المختلفة كالبنتاغون والكونغرس والرئاسة بشأن قرار الانسحاب من جهة أخرى. وأردف أن إعادة سيناريو الانسحاب الاعتباطي من أفغانستان سيؤدي إلى مذبحة في المنطقة، وهذا ما يؤكد بأنه ليس هناك انسحاب أميركي في المدى المنظور. وتابع د. التقي حديثه مؤكداً بأن تركيا أصبحت دولة غاية الأهمية بالنسبة لحلف الناتو، كما أنها مضطرة أن تلتحق مجدداً بالغرب بعد خلق مشاكل كثيرة معها لأسباب مختلفة، موضحاً أنه بعدما دخلت روسيا في الحرب مع أوكرانيا، لعبت تركيا دوراً استراتيجياً، ويمكن اعتبار تركيا وفرنسا وألمانيا الآن المصنع الخلفي لأوكرانيا.
وفيما يخص الداخل السوري وتداعيات رغبة الشرع في خلق نظام شمولي، أجاب الأكاديمي والكاتب أن عدم قدرة الشرع على بسط حكمه على كامل الأراضي السورية هو أمر يصب في مصلحة السوريين، فهو ببساطة لا يملك القدرة العسكرية لذلك، فقد يتفوق على مكون من مكونات الشعب السوري دوناً عن غيره، لكن الدخول في أي معركة من المعارك ستشعل كل البراكين الأخرى، فيما سيثير التفاوض مع أي مكون رغبة باقي المكونات على التفاوض أيضاً.
وأكد د. التقي أن كمية التعقيدات في سوريا لا تسمح باستمرار الدولة المركزية، كما أنه من الناحية العسكرية لا يحق لنظام غير شرعي أن يحتكر السلاح ويفرض عملية سحب السلاح من الآخرين بأي شكل من الأشكال، إذ أن سوريا لا تحتاج إلى جيش بل تحتاج إلى حرس وطني للتعامل مع احتمالية ظهور تنظيم داعش، كما تحتاج إلى شرطة محلية من أبناء البلد، في حين توجد ضرورة للتخلص من غول البيروقراطية السورية الذي لا يمكن ترويضه بالاستبعاد.
وفي ختام الجلسة، أكد د. التقي ضرورة عدم انسحاب السوريين من السياسية والنضال في سبيل أسس العيش المشترك، وكذلك عدم حمل أحمال أكبر من استطاعة الشعب السوري. إذ أن سوريا انكسرت تحت أحمال شعارات كبيرة تبنتها قبل ذلك، وهذا ينطبق أيضاً على قوات سوريا الديمقراطية، حيث عليها أن تتبنى سياسات مرنة تتوافق مع استراتيجياتها الحالية في بناء دولة المواطنة.
وأكد الأكاديمي والكاتب أن العرب لن يدعموا سوريا مالم يتحقق التوافق والسلم الأهلي في المنطقة، فمن أكثر الحلول العملية بالنسبة لسوريا هي أن تكون جزء من مكون جيو-اقتصادي إقليمي له جسور مع كل من تركيا وإسرائيل، ويلعب في ذات الوقت دور جسر للعبور الفكري والحضاري. وقال إنه بناءً على ذلك، فإن أي تعريف لسوريا في إطار مشروع امبراطوري عربي أو إسلامي يعتبر جنوناً، وبحسب المعطيات الحالية ستصبح سوريا الباحة الخلفية لأوروبا.