سد تشرين.. خط الدفاع الأول عن «سوريا الجديدة»

د. طارق حمو
تتصدى قوات سوريا الديمقراطية «قسد» منذ نهاية شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2024 للهجمات التي تشنها فصائل ما يسمى «الجيش الوطني السوري» بدعم جوي ومدفعي تركي مركّز وتمنعها من التقدم والسيطرة على سد تشرين الاستراتيجي وجسر قره قوزاق، وبالتالي تمكنها من فرض معادلات جديدة على إقليم شمال وشرق سوريا تعيق من حضوره ودوره المستقبلي في «سوريا الجديدة».
ما تفعله «قسد» هو ثبات في المواقع وكسر لموجات/هجمات الفصائل، مستخدمة تقنيات جديدة في عملية الدفاع، مع شن هجمات خاطفة بمسيّرات «بروسك» ومن خلف خطوط العدو باستخدام شبكة أنفاق متشعبة لمباغتة أرتال العناصر التي تزج بها تركيا في المعارك زجاً.
ومنذ بدء عملية «ردع العدوان» التي أطلقتها هيئة تحرير الشام في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 ودخول حلب مع انهيار مواقع وخطوط دفاع الجيش النظامي السوري السابق، تدخلت الدولة التركية على وجه السرعة لاقتناص المتغير الحاصل لضرب «قسد» ومحاولة قضم المزيد من المدن والمناطق التي تتواجد فيها. ومن هنا، جاءت عملية «فجر الحرية» التي رصدت لها تركيا إمكانيات كبيرة لاحتلال المزيد من الأراضي السورية. وضمن المشهد الجديد وتفادياً للمواجهة مع «غرفة إدارة العمليات العسكرية»، انسحبت «قسد» من تل رفعت ومنبج ومنطقة الشهباء، كما انسحبت لاحقاً من مدن دير الزور والميادين والبوكمال على أمل أن تستلمها «السلطة الانتقالية الجديدة»، وهو ما حصل في المدن الثلاث الأخيرة في محافظة دير الزور، ولم يحصل في المدن الثلاث الأولى التابعة لمحافظة حلب، والتي سارعت تركيا للسيطرة عليها عبر الفصال التابعة لها.
وجاء انسحاب «قسد» من منبج وتل رفعت والشهباء بعد مشاورات مع التحالف الدولي وضمن تفاهمات واتفاقيات برعاية التحالف والولايات المتحدة بشكل خاص تقوم على سحب المظاهر العسكرية وتسليم المناطق الثلاث لإدارة مدنية مشكّلة من أهلها. إلا أن تركيا لم تلتزم بالاتفاق وأصرت على تسليم تلك المناطق إلى الفصائل التي دخلت الأحياء وبدأت شن حملات النهب والتعفيش والقتل على الهوية. وارتكبت هذه الفصائل جرائم ضد الإنسانية في منبج بشكل خاص عندما صفت شخصيات مدنية بتهمة العمل في مؤسسات الإدارة الذاتية، وهي عادة تلجأ إليها هذه الفصائل عند احتلال أي مدينة أو بلدة كانت تقع ضمن إدارة مؤسسات إقليم شمال وشرق سوريا. وبعد ما حصل في منبج، ظنت تركيا أن التقدم العسكري سيكون سهلاً، وأنه من الممكن المضي قدماً في احتلال مناطق تقع في جغرافية شرق الفرات وإخراج «قسد» منها، وباتت تتحدث عن احتلال مدينة كوباني والسيطرة على مناطق استراتيجية غاية في الأهمية مثل سد تشرين وجسر قره قوزاق.
ظهر التطور المهم بدخول قوات هيئة تحرير الشام دمشق في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024 وانهيار النظام السابق وفرار رأسه بشار الأسد، وقبل ذلك مواقف الهيئة فيما يخص الكرد في حيي الشيخ مقصود والأشرفية في حلب وتجنب الاصطدام مع القوات الكردية المحلية في الحيين الحلبيين والحديث عن «سوريا الجديدة» ورفض الانتقام والاتصالات التي جرت مع «قسد» التي انسحبت من مدن دير الزور والميادين والبوكمال وسلمتها لقوات «إدارة العمليات العسكرية» بعد أن كانت دخلتها مباشرة بعد انهيار قوات النظام السوري السابق والميليشيات الإيرانية وهروب آلاف الجنود والعناصر إلى العراق، لمنع تنظيم داعش من ملء الفراغ والتمدد فيها والسيطرة على مخازن الجيش السوري المتداعي. بعد كل هذه المستجدات ورفض تركيا والفصائل التابعة لها تسليم المناطق التي توغلت فيها لـ«إدارة العمليات العسكرية» أو السلطة الجديدة في دمشق، وطدت «قسد» عقيدة الدفاع الصلب والثبات في الإمساك بالأرض حيال هجمات الفصائل والجيش التركي. وكانت المفاجأة في كشف «قسد» عن منهجية عسكرية متكاملة في المقاومة وكسر الهجمات المستمرة للفصائل المدعومة بالطائرات الحربية والمدفعية التركية.
استخدمت «قسد» تقنيات جديدة في ضرب آليات وعناصر الفصائل التابعة لتركيا. ظهرت أسلحة جديدة وطرائق مبتكرة لإحباط هجمات الفصائل وايقاع أكبر الخسائر بها. وقلبت المقاومة والإصرار على الثبات في المواقع ومنع تقدم الفصائل الميدان وأجبرت الجانب التركي على إعادة حساباته من جديد، لا سيما أن الفصائل الموالية لأنقرة تكبدت خسائر كبيرة تمثلت في مقتل وجرح المئات من عناصرها وتدمير عشرات الدبابات والمصفحات والآليات العسكرية (أغلبها بهجمات جوية مصوّرة شنتها مسيّرات بروسك). تقول «قسد» إنها لن تتراجع أمام الفصائل وآلة الحرب التركية مهما حصل، وتتحدث عن «حرب الشعب الثورية». ويحدث ذلك في وقت لم تحقق الفصائل الموالية لتركيا أي تقدم ميداني رغم الإغداق العسكري التركي عليها.
مع المقاومة الحاصلة في سد تشرين وريف منبج، ظهرت «قسد» كفاعل كبير وقوّة مؤثرة في المشهد السوري. وانعكس هذا المستجد سياسياً عبر الحوار الذي حصل بين أحمد الشرع، قائد «إدارة العمليات العسكرية» والجنرال مظلوم عبدي قائد «قسد»، والذي وصفه عبدي بالإيجابي. وبغض النظر عن أهمية سد تشرين (المصدر الحيوي للطاقة والمياه والمتحكم بالأمن الغذائي في كامل المنطقة الشرقية)، فإن من غير المرجح أن تتراجع «قسد» أمام الفصائل الموالية لتركيا وستواصل الدفاع والثبات، وباستعمال «تقنيات عسكرية جديدة أكثر قوّة وردعاً» بحسب تصريحات قادتها، في حال لجوء الدولة التركية إلى أي توغل عسكري في مدينة كوباني، الرمز العالمي للمقاومة الكردية الأسطورية ضد تنظيم داعش.
تفرض «قسد» معادلات جديدة اليوم، إذ تصنع تضحيات المقاتلات والمقاتلين الكرد والعرب والسريان والأرمن واقعاً جديداً. ثمة دعم دولي غير مسبوق. تصريحات على أعلى المستويات تشيد بـ«قسد» والإدارة الذاتية وبنضال الكرد في سوريا (الرئيس الفرنسي ووزير خارجيته ووزيرة خارجية ألمانيا ومسؤولون في الإدارة الأميركية). وهذا يوطد حضوراً لا يمكن تجاهله لـ«قسد» التي حررت مناطق شمال وشرق سوريا من «داعش» وبنَت قوّة عسكرية (أكثر من 100 ألف مقاتلة ومقاتل) تضم كافة المكونات وتدافع عنها. وهي الآن تفاوض المركز/العاصمة على ملفات مثل الانضمام للجيش السوري الجديد وصيغة اللامركزية وتوزيع الثروات وغير ذلك. المقاومة النوعية لـ«قسد» زادت من بروزها كفاعل ومركز ثقل سوري. وعلى هذا الأساس، التفت المواقف الدولية حولها تأييداً ورعاية. اعتبرتها العديد من الدول الإقليمية والدولية المؤثرة عامل استقرار، نظراً لتوجهها الأخلاقي والإنساني ودفاعها عن كل مكونات وثروات إقليم شمال وشرق سوريا وتصديها لتنظيم داعش وضبطها للمعتقلات والسجون التي تضم مقاتليه.
ولعل الاستبسال في المقاومة وتطور القدرات العسكرية الدفاعية، وكذلك الضغط الدولي المتآتي من المصلحة القومية لكل دولة والاتفاق العام على محاربة الإرهاب ومن التعاطف الوجداني والاحترام وحتى الإعجاب الشخصي (على مستويات زعماء دول ووزراء خارجية وقادة جيوش)، هو من ساهم في ترسيخ الإيمان بالحق الذي تدافع عنه «قسد» ودفع السلطة الانتقالية في دمشق إلى الحوار والتفاوض في إطار الصف الوطني السوري، وهو ما أجبر رجلاً مثل هاكان فيدان (وزير خارجية تركيا ورئيس استخباراتها السابق) إلى القيام بـ«استدارة» في 10 يناير/كانون الثاني الجاري في الموقف التركي القائم على التهديد بالتدمير والإبادة والقول إن «أنقرة ستمنح الإدارة السورية الجديدة فرصة لحل مسألة وجود المسلحين الكرد».

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد