الإرهاب والديمقراطية.. مقاربتان متناقضتان لمسار السلام الكردي – التركي

سركيس قصارجيان

بالتزامن مع تطوّرات الملف السوري والإقليمي مع هروب بشار الأسد وسقوط نظامه في دمشق، تتركز الأنظار على المشهد السياسي الكردي المتغير في تركيا، خاصة في ضوء التصريحات والإجراءات الأخيرة من قبل القادة السياسيين.

ورغم اختلاف الظروف، فإن تداعيات المبادرة الكردية المحتملة لدى الحكومة التركية، بدءاً من دعوة حزب الحركة القومية (MHP) بقيادة دولت بهجلي، لا يمكن فصلها عن المشهد الجنوبي في شمال وشرق سوريا في ظل مواصلة أنقرة لتهديداتها ضد الإدارة الذاتية.

مسار السلام لا يزال سرداً أحادي الجانب

ترسل الحكومة التركية إشارات عن استعدادها للانخراط في نهج جديد لحل القضية الكردية يُشار إليه بـ«سياسة الحل»، لكن هذه السياسة لا تبدو حتى الساعة كحوار ديمقراطي حقيقي، بل تظهر على شكل سرد أحادي الجانب يفتقر إلى أرضية حوار ونقاش حقيقية، ما يثير المخاوف من فشل الحلول المقترحة بعكس احتياجات أو تطلعات دعاة السلام في ظل غياب الفضاء الديمقراطي.

في المقابل، تبدي الحركة السياسية الكردية، ممثلة بشخصيات مثل أحمد ترك، تجاوباً مع المبادرات الأخيرة. ويشارك الكثير من القادة الكرد بنشاط في المفاوضات، ما يعكس استعداداً للتعامل مع الإطار السياسي الحالي.

لا تزال الحركة السياسية الكردية ترى في العملية السياسية الحالية طريقاً محتملاً نحو الديمقراطية والسلام. ورغم الاتجاهات السلطوية التي تظهرها الحكومة التركية، لا يزال بعض الممثلين الكرد يؤمنون بأن الحوار والتفاوض قد يحققان نتائج إيجابية.

وبينما تفرض الحكومة، التي يمثلها بهجلي غالباً، قيوداً على البلديات الكردية وتسجن السياسيين الكرد، فإنها في الوقت نفسه تسعى لإجراء حوار مع الحركة السياسية الكردية. تثير هذه الازدواجية تساؤلات حول نوايا الحكومة الحقيقية وإمكانية تحقيق المصالحة في ظل هذه الظروف.

وفي ظل تحميل الحركة الكردية وحدها مسؤولية تحقيق الديمقراطية في تركيا، يتجاهل المطالبون بذلك دور المعارضة الديمقراطية الأوسع في البلاد وتخاذلها في تبني نهج تعاوني يضم جميع الفاعلين السياسيين، بمن فيهم الممثلون الكرد، في الخطاب المتعلق بالإصلاحات الديمقراطية.

لا شك أن القضية الكردية المعقّدة في تركيا ليست «مسألة إرهاب» أو مجرد حقوق مواطنة متساوية، بل تمثل تحدّياً أساسياً لنظام الحكم الديمقراطي في البلاد وسعيها لتحقيق السلام الداخلي والخارجي. لذا، فإن حل القضية الكردية مرتبط بشكل وثيق بعدة مشكلات اجتماعية ملحة تواجه تركيا اليوم.

نظرياً، يصعب على النظام السائد في تركيا اليوم معالجة التعقيدات المتعلقة بالكرد ومطالبهم بالحقوق والاعتراف. كما لا يمكن النظر إلى القضية الكردية بمعزل عن القضايا الأوسع في المجتمع مثل الفقر والظلم وتآكل النظام القضائي وتسييس القضاء وما نتج عنه من انتشار الظلم الحكومي الممنهج، خاصة ضد الفئات المهمشة، بما في ذلك الكرد.

أما الأهم من كل ما سبق، فهو مسألة النزاعات المستمرة داخل تركيا ومع دول الجوار، لا سيما سوريا، والتي تعقد جهود حل القضية الكردية، حيث يمكن ملاحظة أن هذه النزاعات غالباً ما تكون متجذرة في نفَس الممارسات السلطوية التي همشت السكان الكرد.

وخلافاً للتركيز الضيق على حزب العمال الكردستاني من جانب الحكومة التركية الحالية ومنظومة الدولة ككل، فإن مفتاح حل القضية الكردية يكمن في معالجة مشكلة النظام الديمقراطي الشاملة، وهو ما يجعل من الإصلاحات التي تهدف إلى تعزيز الديمقراطية وضمان العدالة وتعزيز المساواة الاجتماعية ضرورة لتحقيق أي تقدم ذي معنى بشأن القضية الكردية، فيما يجعل غياب الالتزام بالمبادئ الديمقراطية من محاولات حل القضية الكردية أمراً غير مجد.

رؤية السلام لدى الحكومة التركية ومعارضيها

رغم إطلاقه للمسار المتجمد للسلام منذ عام 2015، إلا أن تصريحات بهجلي الأخيرة غلب عليها الطابع التهديدي بدلاً من أن تكون بناءة. فاستخدام عبارات مثل «لا تختبروا صبرنا» تثير القلق بشأن العواقب المحتملة للاعتراض في بيئة سياسية مشحونة والعواقب التاريخية لمثل هذا الخطاب في بلد شهد تصعيداً للتوترات وصولاً إلى العنف.

يلعب زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، دوراً في رئيسياً في عملية السلام. يرى التحالف الحاكم والطرف الكردي في أوجلان وسيطًا محتملاً ليس لتفكيك حزب العمال الكردستاني كما يتم الإعلان عنه بل للتفاوض مع حزب الديمقراطية ومساواة الشعوب.

لكن الأهم هو تجاوز تأثير أوجلان للحدود التركية الحالية، وصولاً إلى شمال سوريا والعراق والداخل الإيراني.

توفّر الديناميات المتغيرة في الشرق الأوسط فرصاً وتحديات لأنقرة وهي تحاول تحديد دورها في هذا المشهد الجيوسياسي. قد ترى الحكومة التركية في التطورات الحالية في سوريا لناحية سقوط الأسد أو تراجع النفوذ الإيراني في المنطقة بعد انكسار حماس وحزب الله والتهديدات الأميركية ضد طهران وتصاعد احتمالات الصدام مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، فرصة لإعادة تشكيل نفوذها الإقليمي. وقد تستغل عملية السلام كوسيلة لتعزيز موقفها.

في المقابل، يبدو تأثير حزب الشعب الجمهوري، في القضية الكردية محدوداً، حيث تهيمن حكومة أردوغان المطعّمة بأفراد أوفياء لحزب الحركة القومية على القرارات المتعلقة بأوجلان وحزب العمال الكردستاني والقضية الكردية بشكل عام إلى حد كبير.

يحدّ هذا الواقع السياسي من قدرة حزب الشعب الجمهوري على التحرك بفعالية، ما يقوض أي احتمال لجبهة معارضة موحدة بشأن حقوق الكرد.

أعلنت المعارضة التركية على الدوام تأييدها لبعض المطالب القديمة للشعب الكردي في تركيا، مثل الاعتراف بحقوق اللغة الكردية وتعزيز الإدارات المحلية. لكنها بقيت ضمن حدود الإعلانات وتصريحات الدعم المتصاعدة في فترات الانتخابات، إلا أن العديد من القضايا الأخرى لم يتم معالجتها. كما يخلو المناخ السياسي الحالي من مناقشات ملفات أعمق، كما حال المطالب التاريخية المحقّة للاعتراف بالكرد كـ«عنصر مؤسس» للدولة.

رغم أن حل القضية الكردية قد يُعتبر تطوراً إيجابياً، فإن الظروف السياسية العامة في تركيا لا توحي بإمكانية حدوث ديمقراطية حقيقية قريباً. والتصور السائد هو أن عملية السلام قد تُستخدم كأداة للحزب الحاكم للحفاظ على السيطرة بدلاً من تحقيق إصلاح سياسي حقيقي.

لا تخفي النخب التركية مخاوفها من أن تؤدي مشاركة الحركة السياسية الكردية مع الحكومة إلى تعزيز النظام الرئاسي بدلاً من تعزيز القيم الديمقراطية التي سعت الحركة الكردية لتحقيقها على مدى عقود، مشيرين إلى التوازن الدقيق الذي يجب أن يتعامل به السياسيون الكرد خلال المفاوضات، خاصةً أن التجارب الكردية السابقة، تلقي بظلالها على الاستراتيجيات الحالية وتطلعات السياسيين الكرد دون أن تلغي إمكانية للتقدم إذا تمت معالجة العملية السياسية بحكمة وشمولية.

رغم المسار المتطور واللقاءات المكوكية لوفد حزب الديمقراطية ومساواة الشعوب (دم) مع الشخصيات السياسية وممثلي الأحزاب البرلمانية، صرح بهجلي بشكل قاطع أنه لا توجد «عملية حل أو انفتاح جديدة» فيما يتعلق بالقضية الكردية في تركيا. وشدد على أن أي حوار أو تفاوض يتعلق بحزب العمال الكردستاني وأنشطته يجب أن يُنظر إليه من منظور الأمن القومي بدلاً من كونه قضية عرقية أو سياسية، وأن القضية الكردية «مشكلة إرهاب» وليست معضلة اجتماعية أو سياسية.

يركّز بهجلي على «التوترات العرقية والطائفية في سوريا»، محذّراً من أن النزاعات المستمرة ووجود وحدات حماية الشعب (YPG) تشكل تهديدات كبيرة لأمن تركيا القومي، ويدعو إلى القضاء عليها لضمان منع تأثيرها على تركيا.

بالمقابل، يتّخذ زعيم حزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزيل موقفاً مختلفاً، حيث يدعو إلى الحوار مع جميع الأحزاب السياسية لمعالجة القضية الكردية تحت قبّة البرلمان. تعكس تصريحات أوزيل التزام الحزب بعملية شفافة وشاملة، مع التأكيد على أهمية الانخراط البرلماني في حل القضايا الوطنية، في مطلب متماه مع ما ذهب إليه أوجلان في بيانه الأخير.

ستستمر التوترات القائمة في المنطقة وتعقيدات القضية الكردية في لعب دور محوري في تشكيل السياسات الداخلية والخارجية لتركيا، خاصةً في ضوء موقف بهجلي المتشدد والإخفاقات التاريخية للمبادرات السابقة لتحقيق السلام.

يظهر الانقسام السياسي الداخلي في الفارق بين السرد الذي يركز على الأمن الذي يتبناه بهجلي والدعوة إلى الحوار التي يتبناها أوزيل، ما يسلط الضوء على النقاش المستمر حول كيفية التعامل مع القضايا العرقية والسياسية المعقدة في تركيا.

الديمقراطية حاجة ملحّة لترسيخ السلام المنشود

من خلال استكشاف الخطاب السياسي ودور الشخصيات الرئيسية والحاجة الملحة للإصلاحات الديمقراطية، تتزايد الحاجة إلى إعادة تقييم كيفية التعامل مع القضية الكردية في السياق الأوسع للسياسة التركية. ويرى المحللون أن البيئة السياسية الحالية تشبه المحاولات السابقة حين سعى حزب العدالة والتنمية الحاكم إلى توطيد سلطته، ما ولّد الحاجة إلى دعم السياسيين الكرد وقاعدتهم الشعبية الواسعة.

يعبّر الخبراء عن شكوك حول إمكانية أن تؤدي عملية السلام الجديدة إلى ديمقراطية حقيقية في تركيا. ويشير هؤلاء إلى أن دوافع الحكومة تبدو مركّزة أكثر على توطيد السلطة بدلاً من معالجة جذور القضية الكردية.

إلى جانب العلاقة المعقدة بين الأحزاب السياسية المختلفة في تركيا وتأثير وجهات نظرها المتباينة بشأن القضية الكردية على العمليات التشريعية والرأي العام، فإن عدم التقدم في معالجة القضية الكردية يراكم توتّرات اجتماعية أوسع وتحدّيات أمام تحقيق الوحدة في المجتمع التركي متعدد الأعراق.

في نهاية المطاف، لا يزال «مسار الحل» يحتاج إلى إطار أوسع من الإصلاحات الديمقراطية كشرط أساسي لتحقيق حل مستدام للقضية الكردية. من دون تقدم ديمقراطي حقيقي، ستظل آفاق معالجة القضية الكردية بشكل فعال ضئيلة، وهي بحاجة إلى أن تشمل كافة الشعوب والأطراف السياسية والأطياف العرقية والدينية والتمثيل في العمليات السياسية لضمان سماع واحترام أصوات جميع المواطنين، خاصة المجموعات المهمشة مثل الكرد.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد